المشكلة ليست هنا مشكلة هذا ما يوحيه واقع الحال الذي نعيشه اليوم, بل المشكلة ان تدعي ان هناك مشكلة لتكون شاذً في ذلك. وهي تتمثل في ان المتعلم النمطي في مجتمعنا غير معني بأي مشكلة فهو ينظر لنفسه نظره نَرجِسيّة وخصوصا اذا كان من حملة الشهادات العليا وما اكثرهم في مجتمعنا وما اسوأهم في الدائرة التي يتفاعلون فيها, فضررهم ليس فقط في عدم الافادة منهم, بل لما يمثلونه في محيطهم من قاعدة عامة لصورة المتعلم وخصوصا اذا استطاع الحصول على وظيفة مرموقة في المجتمع.
من خصائص المتعلمون النمطيون انهم وصُوليون ومتسلقون وهذا هو البديل الطبيعي لعد وجود فكر في ادمغة هؤلاء, بل أن هَم جلهم هو في الحصول على شهادة عليا لتكون وسيلته في الوصول الى مركز القرار, فتراهم يتقربون للحزب الفلاني , يمدحون السياسي الفلاني, يكتبون القصائد العصماء في تمجيد صاحب الوظيفة الفلانية . ليس هناك ادنى شك في ان مجتمعاتنا تختلف من حيث كينونة متعلميها عن المجتمعات الحية وهو اختلاف بالنوع لا بالدرجة, وليس ادراك سبب ذلك بالعسير, اذا ما عُدنا للطريقة التي تتربى بها اجيالنا واجيالهم.
فنحن نتربى على اننا نملك الحقائق الكاملة والعلوم المخزونة التي نقلها الغرب عنا والغايات النهائية التي وجد العلم من اجلها !, فالماذا البحث والعناء ومن شك فقد كفر !!!.
يَشُب الانسان ويشيب على اننا خير (( … خَيرَ امة أخرجت للناس …)) ال عمران / 110 ودائما مايكرر رجال الدين هذه الحقيقة التاريخية في كتبهم ومواعظهم للتدليل على افضليتنا الحاضرة في كل شيء وليس هناك مشكلة معرفية لدينا سوى ان نتوحد لنسود على باقي الامم , من دون التأكيد على كلمة (كنتم ) وانعكاساتها على الماضي فقط اما الحاضر فواقعه يقول شيء اخر, ومن دون الربط بقوله تعالى, ((وان ليس للأنسان الا ما سعى…)) النجم/39, وما تتضمنه من حركة انسانية تستلزم ان يكون التحصيل مقرون بالسعي الجاد للحصول على الجزاء. انهم لايريدون ذلك, بل ان ابقاء العقول داخل قوالب معينة اضمن, وهي النتيجة التي يؤدي اليها طرحهم, فالعقل المفكر يثير الكثير المشاكل والانقسامات داخل الصفوف المحافظة .
يتصف المتعلم النمطي والذي لايختلف من حيث النتيجة عن الانسان الجاهل بأنه يعشق استماع الشعر واجترار سيرة السلف و التي يحدد على اساسها مشاكل المجتمع ويَنعى عليه تخلفه الذي هو جزء منه دون ادراك ان مشاكل اليوم لم ولن تعالج بحل الامس سُنة الله في خلقه, والامثلة كثيرة تفوق على الحصر فلكل جيل اوضاعه الخاصه واحتياجاته والتي لم تكن موجودة بالامس.
تثير النظريات الحديثة والحقائق العلمية الجديدة اشمِئزاز المتعلم النمطي وقد لا يتقبلها الا بعد فترة طويلة, حتى ان بعضهم يحجم عن متابعة اي موضوع حِواري اذا كان بحاجة الى تركيز وفهم ومتابعة دقيقة, ببساطة انهم لا يملكون ملكتي التفكير والابتكار, ويحملون اوسمة تمنحها مجتمعاتنا لمسايرة عملية تعليمية يرثى لها, وما زاد الطين بَلّةٌ انتشار الجامعات الاهلية وبضوابط متساهلة وما تمثله من طريق مضمون للحصول على شهادة جامعية, ستكون نتائجها وخيمة في المستقبل, ناهيك عن ان هناك نقطة ادنى واهم من التعليم الاكاديمي وهي ان المدارس اصبحت تخرج تلاميذ اسوأ خلقا” واقل معرفة ” ممن علمتهم الحياة عبر التجارب, من الاميين الذين قد نجد بينهم حكماء لانجدهم بين متعلمينا.
من يتابع هؤلاء المتعلمين يجد انهم لايشاركون في الامور العامة التي تهم مجتمعهم اما جُبناً او حِرصا على المكاسب الاجتماعية والمادية التي يحصلون عليها بل انهم لايدعمون ناجحا ولا فاشلا واغلب اهتماماتهم تكوين علاقات فوقية مع ارباب الجاه والسلطان للانتفاع بها عند الحاجة بما يملكون من ذلاقة لسان وفن الوصول الذي يبرعون به كما يبرع افراد المجتمعات الحية في الأبتكار والابداع, وهذه هي الميزة الوحيدة التي تميزهم عن سائر الناس ومن اكثرهم مبالغة في اتخاذ مظاهر الأُبًهة والملابس الفاخرة التي ترفعهم في في نظر البسطاء.
ان القارئ المتتبع للمجتمعات المتطورة يجد انها تقدم امثلة مغايرة بالجملة للأمثلة التي تقدمها مجتمعاتنا وقد يكون الخوض فيها مخلاً بمدى هذه المقالة, تعي تلك المجتمعات ان غايات العلم لم تدرك وان الحاجات متجددة ومتغيرة .
ان حِملُ الشهادة الجامعية ليس ضمانة للنجاح في تلك المجتمعات, فمثلا بيل كيتس لم يتم تعليمه الجامعي في هارفارد وكذلك ستيف جوبز وبعض الناجحين لم يتمو حتى التعليم الثانوي كابراهام لنكولن وتوماس اديسون, بل حتى ان ستة وعشرون من الفائزون بنوبل الاداب لم يتمو تعليمهم النظامي كما يذكر ذلك المفكر السعودي ابراهيم البليهي في مقالته المنشورة في جريدة الرياض في 16 مارس 2014.
في مقال منشور في مجلة فوربس الامريكية في 2012/7 توضح كاتبة المقال كيف ان الحصول على شهادة الماجستير يعيق من فرصة الحصول على وظيفة في احدى الشركات المرموقة مثل غوغل وفيس بوك وبعض شركات الاعلام الاجتماعية الشهيرة وتطرح عدة امثلة واقعية لحملة شهادات يعانون من ذلك . تتطلب تلك الشركات من الراغبين بالعمل لديهم التواضع الفكري (القدرة على التعلم من الاخطاء) والقابلية على البداية من الصفر والثقافة العامة والاقدام وتمثل هذه الصفات الاكثر رواجاً في سوق العمل لديهم, وهي المتطلبات المفقودة لدى اغلب متعلمينا, فحامل الشهادة لدينا ينظر لنفسه نظرة علوية مملوئة بالأحقية في الحصول على التقدير الاجتماعي والوظائف المرموقة دون ان يكون في خلده ان يقدم اي شيء هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى يعد الحصول على شهادة عليا في مجتمعنا هو سبب للتوقف عن الاطلاع على معارف اخرى فإذا ناقشت احدهم خارج اختصاصه الدقيق تجده أُمّيٌ تقريبا.
اذكر اني اعرت احدهم كتابا ذا قيمة يتحدث عن الاخلاق لكاتب غربي وبعد فترة طويلة طالبته بالكتاب فأعاده دون ان يقرأه وعندما سألته عن السبب اجاب بانه يوجد لدينا ( القراّن) ولسنا بحاجة لهذا الكتاب, وانا على يقين بانه لم يقرأ (القراّن الكريم) كاملاً في حياته.
قد لاتكون الصورة قاتمة الى هذا الحد فيوجد بين متعلمينا واصحاب الشهادات العليا من يشار اليهم بالبنان وهم قدوتنا في هذا الشان واغلبهم من الذين درسو في جامعات الخارج المرموقة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين حسب اطلاعي الشخصي, مع امتلاكهم شخصيات فضولية دعتهم الى النهل من خارج اختصاصهم ومزاوجة اختصاصهم الاكاديمي بمشاكل المجتمع الحقيقية فكانت النتيجة كُتبا وشخصيات فذة على عموم منطقتنا العربية.
الجميع في البلاد العربية يدرك انه لا ينقصنا شيء من الناحية المادية وخصوصا العراق (البترول ,المياه , المعادن ) وهي من مقومات النهضة, ومع ذلك فنحن من اكثر الشعوب تخلفا وفي مشاكل وازمات مستمرة.
ان ما ينقصنا هي الثروات الاكثر ندرة وقدرة على صنع المعجزات وهو الأنسان النوعي, الذي لا ندعمه ولا نفكر في انتاجه, وتركز هذا الانسان بوفرة في اي مجتمع هو المعول عليه اما الأحاد فهم للمقارنة فقط.
ان السياسي الذي نصفه بالفاسد, والمدير الذي ندعوه بالمرتشي والموظف الذي نعيبه بالفاشل خرج من رحم هذه البيئة المعقدة فلا عجب ان يكون واقعنا بهذه الصورة التعيسة.
ليس هناك تقدم ولا تطور اذا ما بقينا متشبثين بتراثنا واخلاقنا وعاداتنا كما هي من دون تمحيص لما يفيدنا ومالا يفيدنا اليوم , وتعليمنا الذي استوردناه من الخارج دون ادراك للظروف التي نشأ فيها هذا التعليم وهل هو مناسب لمجتمعنا بصورته الحالية؟ وهل خريجيه يؤدون دورا بناءً بالمجتمع؟ نحن بحاجة الى فلسفة جديدة تخرجنا من جو الاطمئنان النفسي الذي نعيش فيه مستسلمين لما حولنا, و بحاجة الى ان ندقق فقط في الاشياء التي نستعملها يوميا وما نصيبنا من انتاجها ؟ نحن أُسارى للغرب والشرق في كل حاجاتنا, فهل هذا مايريده الله لنا؟ الاجابة اتركها للقارئ الكريم .
نحن بحاجة الى فلسفة الشك في مسلماتنا !.