لو تمسكّتُ بخياري الأول لكنت الآن، على الأرجح، شاعراً من الدرجة العاشرة. في مرحلتَي الدراسة المتوسطة والإعدادية أقبلتُ بنهم على قراءة القصص الرومانسية وحفظ الشعر، قديمه من أصحاب المعلقات إلى المتنبي، وحديثه بشعرائه الكُثار، بيد أن الأخطل الصغير والسيّاب كانا الأثيرين. جرّبتُ حظي في نظم أبيات ومقطوعات، وانكببتُ على قراءة «ميزان الذهب» ظنّاً بأنه مفتاح جنة الشعر. حلمت بأن أكون شاعراً، وعندما حلّ موعد الالتحاق بالجامعة اخترت كلية التربية بجامعة بغداد، لكنّني تأخرت في تقديم أوراقي فلم أجد مقعداً شاغراً في الكلية، فانتقلت إلى كلية الآداب التي اكتشفت، وجود قسم للصحافة فيها؛ فتقدّمت إليه. الصحافة استهوتني قبلاً عبر الصحف والمجلات التي درج والدي على جلبها إلى البيت، لكنّه علّق على اختياري قسم الصحافة: ما لقيت غير مهنة المتاعب؟!… تلك كانت نقطة التحوّل المهمة في حياتي، نقلتني من مدرّس محتمل للغة العربية وشاعر فاشل مُرجّح إلى صحافي ناجح في رأي عدد لا بأس به من الزملاء والمعارف والقرّاء.
على مدى خمسين عاماً عملتُ صحافياً في ستة بلدان، فضلاً عن بلدي العراق، وأطول تجارب العمل ومن أهمها وأغناها كانت مع هذه الصحيفة «الشرق الأوسط»(1993-2006) وزرت أكثر من مائة مدينة في 36 بلدا. نحو 80 في المائة منها كان في مهام صحافية، بعضها حفل بمواقف صعبة، أصعبها على الإطلاق هو الذي حصل مطلع عام 1991، بعد انتهاء حرب تحرير الكويت، اندلعت في العراق انتفاضة شعبية كبرى ضد نظام صدام، شملت 13 من 18 محافظة عراقية. المعارضة عقدت يومها مؤتمراً في بيروت حضرته للتغطية، وفور انفضاضه انتقل عدد من قيادات المعارضة إلى كردستان العراق عبر سوريا. أنا أيضاً عبرت معهم، وكنت أتوقع، أن تمتدّ الانتفاضة إلى العاصمة بغداد ويسقط النظام، لكن الأمور انقلبت، وتمكّنت قوات صدام من إجهاض الانتفاضة في الجنوب والوسط فاندفعت لمهاجمة مدن كردستان.
خوفاً من السلاح الكيماوي، فرّ مئات الآلاف من الكرد من مدنهم وقراهم باتجاه المناطق الجبلية الوعرة، ومن هناك إلى تركيا وإيران. من محاسن الصدف أنني، وكان معي الزميل مفيد الجزائري الذي سيصبح لاحقاً أول وزير للثقافة في عهد ما بعد صدام، التقيت زميلاً وصديقاً كردياً، هو الصحافي والشاعر الراحل عباس البدري، الذي اقترح أن نبقى معه في مدينة رانية الواقعة شرقي أربيل وشمالي السليمانية قريباً من الحدود من إيران.
هذا القرب مخادع في الواقع؛ فالمناطق الفاصلة بين رانية والحدود الإيرانية وعرة تتشكّل من جبال شاهقة ووديان سحيقة. ما كدنا نبيتُ ليلة حتى تحتّم علينا أن نمشي مع النازحين الكرد باتّجاه الحدود مع إيران… مشينا يومين وليلتين حتى أدركنا الحدود. أمطار غزيرة وريح عاتية… رأيت بأم العين أطفالاً رضّعاً وعجائز يموتون ويُدفَنون في البرّية. كنت قبل يوم من التحاقنا بالمسيرة المليونية على «طريق الجلجلة الكردية» قد اشتريت عبوتين من التمر… ولقد عشنا نحن الثلاثة ومعنا مرافق رابع على هذه الكمية الشحيحة من التمر طوال مدة تلك الرحلة الطويلة الشاقّة… كان الناس الآخرون يأكلون النباتات البرّية ليبقوا على قيد الحياة. على الحدود احتجزنا الحرس الثوري الإيراني 17 يوماً قبل أن تنجح مساعي صحفنا في إقناع السلطات الإيرانية بالسماح لنا بالدخول والانتقال إلى طهران التي توجهت منها إلى الأحواز وعبادان لتغطية أوضاع اللاجئين العراقيين من العرب. كانت تجربة قاسية، لكنها غنية بالتفاصيل التي تحبها الصحافة، فالصحافة مهنة المتاعب حقاً. الشجاعة وروح المغامرة هما مما تتطلّبه من الداخلين إلى ميدانها، مثلما تتطلّب القراءة، وفي الغالب أنصح الشباب العاملين معي، بالجدية والشجاعة والإخلاص لمهنتنا… وقبل هذا وبعده أكرّر القول: اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ؛ فالقراءة مفتاح رئيسي لصناعة الصحافي.