يرجع الباحثون في المعضلة العراقية المستمرة منذ ما يقرب القرن اي منذ تأسيس المملكة الى وقتنا الحاضر اسبابها الى العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فالبعض يركز على شكل الحكم المقلوب الذي اعتمد استئثار الاقلية بالحكم لما يقرب الثمانيين عاما، والبعض اشار الى موضوع تركز الاهتمام بمراكز المدن واهمال الارياف الذي يشكل سكانها الاغلبية في وقت ما ، والبعض صاغ نظرياته عن سببية الفشل الى العجز عن صياغة هوية وطنية جامعة ، اما الاقتصاديون فاكثرهم يرجعون سبب ما مر به البلد من انقلابات عسكرية وثورات وحروب الى نمط الدولة الريعية الذي ساد منذ اكتشاف النفط حتى يومنا هذا ، اي استئثار الحكومة بادارة وتوزيع الثروة مما انتج نظاما اقتصاديا مشوها قاد الى تغول الادارة الحكومية والفشل ببناء مجتمع منتج وآمن… عموما يتعذر حصر كل النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدعي تشخيص اسباب الفشل ببناء دولة حديثة آمنة قابلة للنمو والتطور، الا انه يلاحظ انها جميعا قائمة على اساس وجود (الخلل البنيوي) في تركيب شكل الدولة والحكم وعلاقتها بالوضع الاقتصادي والاجتماعي ، اي وجود اشكال من التركيبات السياسية والادارية لا تتلائم مع الحقائق الاقتصادية والديمغرافية الواقعية ، مما ادى الى التنافر والصراعات والضغائن ما ظهر منها وما بطن. وكانت النتيجة اننا وصلنا الى شكل من التنظيم الضعيف المفكك ، لم يتفق ابناؤه بعد 93 سنة من تأسيسه على ابسط الامور مثل (شكل العلم والنشيد الوطني)!!! ناهيك عن فشلهم في صياغة دستور جامع وهوية واحدة، ولازال التخوين والتشكيك بالوطنية والولاء قائم بين ابنائه.
ما يدعو لهذا الاستذكار السريع، هو اصرار البعض على ارتكاب نفس الخطايا ، ورفض التعلم من اخطائنا الماضية ، او حتى النظر لنجاحات الاخرين ودراستها.
ما يُدعى له الان من اقامة الاقاليم هي دعوة لجريمة اخرى بحق اجيال من الشروك وخسارة لعقود قادمة من الزمن ، حتى لو نص عليه دستور مشكك به من دعاة ومنتفعي الاقاليم أنفسهم . وهي وصفة خاطئة تجتر نفس الاخطاء السابقة التي جربناها على مدى قرن من الزمان. ( فالتنافر بين خريطة الثروة وشكل التنظيم السياسي حتما سيقود الى حروب وصراعات بلا ادنى شك ).
ما اريد التركيز عليه، هو ضرورة ان يبنى شكل الدولة وسلطاتها على اساس الواقع الاقتصادي والاجتماعي ، واي تلاعب او تهاون مصبوغ بالشعارات الساذجة يغفل حقائق الارض والثروة والمجتمع انما يصف مخدرا انياً ، سريعا ما يتبدى ونعود الى أسوء مما بدأنا به.
تناولنا في مقال سابق ان البلدان تتشكل لاحد امرين او كلاهما (قوة قاهرة او مصلحة اقتصادية غالبة) وهي خلاصة تأريخية لقيام الدول والتجمعات باشكالها التنظيمية المختلفة (يرجى الرجوع الى ..وهم الوطن الواحد 1) وخلصنا الى انه لا جامع يجمع طوائفنا واعراقنا في شكل دولة واحدة قابلة للاستمرار بغياب كلا العاملين، وما تبقى ليس اكثر من شعارات وعواطف انتجت مذابح ومشردين وسبي واسواق نخاسة في القرن الواحد والعشرين !!
هذه الاقاليم المزعومة بحكوماتها وجنودها وشرطتها ومليشياتها ووزاراتها وسراقها ستستهلك طرفا واحدا هو (الاقليم الشيعي) وسيكون هو الخاسر الوحيد في هذه المعادلة الجائرة. وسنقترف نفس الخطايا التي قادت للفشل الذي استمر اكثر من تسعين عاما.
وكما قلنا سابقا ، سيكون للكورد مصلحة بينة في هذا التنظيم الى ان يحين موعد دولة كردستان المستقلة، التي ستكون قد استكملت بناها التحتية ومشاريعها الاستراتيجية باموال (الشروك) المخدوعين بوهم التحالف المصيري كما يسوقه بعض القيادات الشيعية اليوم !! ، كما ان الاقليم (السني) منتفع منه ايضا وسينتج عوائل سنية برزانية وطرزانية ، وله حكومته وحرسه ومطاراته ومنافذه الحدودية وتحالفاته المستقلة (كما رأينا في حالة كردستان) وعلاقاته الدولية الخاصة (على الاغلب ستكون له ممثلياته في السفارات العراقية) ….الخ والممول لهذا كله هو اقليم الشروّك !! مقابل سلطة مركزية وهمية (لقادة الغمان) لا تتحكم بفراش مدرسة في قرية نائية في تلك الاقاليم !! ناهيك عن التحكم بالموارد او المنافذ او الاجواء او غير ذلك من مظاهر السلطة السيادية .
المطلوب تمويل ومشاركة هذه الاقاليم بالثروة مقابل الوهم ، وهذه وصفة متفجرة عاجلا او آجلا.
اين المصلحة من هذا كله؟ ربما تكون الاجابة اننا نشتري امننا ونكف شر المفخخات والمجازر عنا ، ونعود للقول ان لا شيء يضمن ذلك، فالاساس خاطئ والقسمة ضيزى ، وما تهاون به هذا الجيل سيدفع ثمنه اجيال اخرى من كل الاطراف.
ان القول بضرورة وجود مصلحة اقتصادية غالبة لتجمع المكونات في دولة انما هو مشروط بكونها مصلحة اقتصادية تبادلية، فاذا تعذر وجود صفة المصلحة التبادلية لكون احد الاطراف ربما لا يملك ما يبادله ، يعوض عن ذلك التبادل المصلحي الاقتصادي او الشراكة الاقتصادية بنظام مقايضة المنفعة الاقتصادية بالمنفعة السياسية ، وللتوضيح ، يمكننا النظر الى تجربة دولة الامارات العربية المتحدة ، فهي دولة مكونة من سبع امارات (مشيخات) كل قبيلة تسكن امارة محددة الجغرافيا يحكمها شيخ تلك القبيلة، هذه الامارات لا تتمتع بنفس القدر من الثروة الطبيعية، بل ان بعضها لا يملك شيئا، فالنفط يتركز في امارة (ابو ظبي) اغنى هذه الامارات . فكيف استطاعت تشكيل دولة متماسكة مستقرة متطورة؟!!
استطاعت ذلك عندما اتفق الجميع على شكل من اشكال المقايضة الاقتصادية السياسية (المشاركة بالثروة مقابل السلطة) ، اتفقوا على ان يكون لامارة ابو ظبي القرار السياسي (السيادي) والسلطة في مواضيع السيادة والعلاقات الخارجية والتحالفات الاستراتيجية والدفاع والمالية وغيرها من مواضيع السيادة العامة ، لا ينافسها احد من الامارات الاخرى في ذلك مقابل تحمل الامارة تكاليف الحكومات المحلية ورعاية تطور ونمو جميع ارجاء الدولة، مع بقاء هامش من الممارسة الحكومية الداخلية والنفوذ لكل امارة على اراضيها.
ونجح الامر لانه تم على اساس واضح وعادل ارتضاه الجميع ، ولانه حقق الموازاة والتوافق بين الثروة والسلطة.
فاذا كان ولا بد من الاقاليم ، فليتم كما فعلت الامارات العربية المتحدة . (فالطلاق لمن اخذ بالساق) خصوصا ان الشروك قادرون لوحدهم على بناء دولة سومر.