23 ديسمبر، 2024 6:04 ص

افراح والثقة المجتمعية

افراح والثقة المجتمعية

قام بعض الاصدقاء قبل بضعة اسابيع في محل اقامتي الحالية في سيدني بحملة جمع تبرعات لاغاثة النازحين والفقراء في العراق، وضعوا صناديق لهذا الغرض في بعض المحال كما قاموا بالاتصال شخصيا ببعض الاشخاص لدفعهم للتبرع، كان البعض مندفعا وساهم بما يستطيع، فيما امتنع بعضهم وهذا طبيعي ويعود لاسباب شخصية متعددة، كتب اصدقائي على صناديق التبرع كلمات بالعربية عن وجهة هذه الاموال، ولم يكتبوا بالانكليزية على اساس ان الموضوع يهم العراقيين اولا والعرب المتواجدين معنا ثانيا، غير ان المفاجأة كانت ان الاجانب كانوا يضعون في الصناديق دون ان يفهموا شيئا مما مكتوب، ولكنهم يعرفون شيئا واحدا، ان هذه الصناديق هي صناديق تبرعات وهي موجودة في اغلب الاسواق والمحال التجارية الاسترالية وان لها وجهة تذهب اليها وان هناك جمعيات ومنظمات وجماعات او افراد مستفيدين منها، سواء في بلدهم او في خارجه، وبعد اسبوع من الحملة رفعت الصناديق وتوقف نشاطهم، توقعت انهم قد بلغوا هدفهم وانهم جمعوا مبلغا جيدا، ولكن اجابة احد اصدقائي اذهلتني تماما، قال انهم تعرضوا للسخرية وللاتهامات المتكررة من اقرب اصدقائهم العراقيين بانهم نصابون وان هذه الاموال لن ترسل للعراق فتوقفوا وارسلوا ما جمعوه وهو مبلغ لايكفي عائلتين او ثلاثة الى من يقوم بتوزيعه هناك، ولكن اغرب ماجاء في اجابة هذا الصديق، ان احد المشككين بالحملة والساخر منها، كان بصحبته في احد مراكز التسوق الكبيرة، وفي احد ابوابها كان هناك متسول على طريقتهم المعروفة في الجلوس بمكان عام والعزف على الة موسيقية منتظرا المارة الذين يرمون له بما جادت به انفسهم، واذا بهذا العراقي الساخر والمشكك يتوقف عند هذا المتسول ويرمي له بعدة دولارات في حين لم يتبرع للعراقيين ولو بدولار واحد، قال صديقي في تلك اللحظة قررت انهاء الحملة والانسحاب نهائيا منها..
في العالم الحر المتمدن، تقوم العلاقة بين المواطنين انفسهم وبينهم وبين مؤسسات الدولة على الثقة، واغلب المعاملات الرسمية تنجز عن طريق الهاتف وكذلك الانترنيت وتتخذ القرارات بشانها استنادا الى المعلومات التي تقدمها، ولا يحق لاي موظف في الحكومة ان يسالك: لماذا؟.. ومن غير المسموح له اطلاقا ان يقول لك انك كاذب، هناك منظمات تفتح ابوابها لكل من يمر بضيق وعسر فتساعده في المأكل والمنام والملابس الى حين ان يجد عملا او تساعده في ايجاد العمل دون التشكيك بوضعه او سؤاله عن خصوصياته، في معاملات انجاز تسجيل السيارة باسمك مثلا تعتمد رسوم التسجيل على سعر الشراء الذي تكتبه انت وليس قيمة السيارة لانهم يثقون بك، مرتبات الضمان الاجتماعي التي تقدمها الدولة للعاطلين قائمة على ثقتهم بانك لم تجد عملا بعد، غير ان الكثير منا نحن العرب وليس العراقيين فقط نخون هذه الثقة ونكذب على الحكومة لنحصل على اموال لانستحقها، فاغلبنا يعمل بالخفاء ويدعي انه عاطل ويحصل على اموال كان يجب ان تذهب الى مستحقيها..
في العام 2009 حاولت الحكومة المصرية بناء جسر من الثقة بينها وبين اصحاب الاعمال والمشاريع الكبيرة والصغيرة الذين يتوجب عليهم دفع الضرائب السنوية، وباشرت باعلانات تلفزيونية مكثفة تقول لهم ما معناه ( بدل ان تتهرب من دفع الضريبة ادفع ماشئت، فنحن سنصدق ما تقوله لنا ونريد ان نفتح صفحة جديدة معك)، ولا اعرف ان كانت هذه الحملة قد نجحت ام لا ، ولكني اعرف ايضا ان المصريين مهتمين وجادين في مسالة التبرعات الاجتماعية، فهناك الكثير من المؤسسات الصحية خاصة، تم بناؤها من خلال توجيهات الازهر للمتبرعين بدفع اموال زكاتهم الى تلك المؤسسات مباشرة لانها ستقدم بعد انجازها خدمة اجتماعية مهمة، المصريون يثقون بازهرهم ويثقون بالجهات التي تجمع التبرعات لهذه الاغراض مع توفر عنصر الشفافية فبامكان المتبرعين معرفة مصير اموالهم..
بعد العام 2003، فقد العراقيون الثقة فيما بينهم اولا، قبل ان يفقدوا الثقة بانفسهم ثانيا، فمن خلال فساد السياسيين، ورجال الدين الذين كانوا وهم مختبئين في جحورهم مصدر اطمئنان وثقة، ولكنهم بظهورهم المتوحش والفاسد حطموا الكثير من المثل والقيم لدى الناس، انتقل الفساد الى المجتمع فتحول الى كما يحلو للبعض ان يسميه( ثقافة اجتماعية) ويا لبؤس هذه الثقافة التي يتحصن بها التلميذ والمعلم والقاضي والبائع والمشتري بعد رجل الدين والسياسيين، حتى اصبح كل سلوك فردي او اجتماعي مصدر شك وتساؤل، خضع الناس بعدها للاشاعات ولم يعد بامكانهم مطلقا التمييز بين الحق والباطل، بين الخير والشر، وبين الحقيقة والاكاذيب، اصبح التزييف والتزوير صنعة ومهنة وفن جديد، امتد الى داخل الاسرة الواحدة فلم يعد بامكان الابن الا التشكيك بنوايا أبيه وامه وشقيقه، فكيف اذن يمكن الركون الى نوايا عراقي في سيدني يريد جمع التبرعات ليرسلها عبر البحار الى المحتاجين..
استوقفني لكتابة هذه الخواطر، ما نشره البعض عن قضية اختطاف الزميلة افراح شوقي، متهمين اياها بفبركة القضية، وان وراء ذلك اهداف شخصية تتعلق برغبتها اللجوء الى فنلندا للالتحاق بزوجها اللاجيء هناك، والذي استوقفني اكثر هو اندفاع بعض المثقفين وراء هذه الاكاذيب وهذه الاشاعات (رغم تفاهتها ووضوحها)، الى حد ان بعضهم اعتذر عن تضامنه معها، دون ان يكلف نفسه عناء التفكير قليلا سواء كانوا جزءا من اقلام الاشاعات والاكاذيب او من المتاثرين بها، انهم بافعالهم تلك انما يعيدون ذبح الضحية على الطريقة الاسلامية بعد ان ذبحها الغادرون بطريقتهم المجوسية..
 [email protected]