تحقيق
لا ترمي ما فضل من وجباتك يا سيدي الرئيس.. أطفالي بحاجتها
لم تمنع تلك العاصفة الترابية التي حجبت الرؤيا الطفل ( مازن ) من التوجه إلى مكانه المعتاد والذي يقصده يوميا لغرض جمع القمامة وبيعها والغرض الحصول على بعض الدنانير التي لا قيمة لها ، لكنها تسد جوعه وإخوته الذين لم يستطيعوا بعد مرافقته لأنهم مازالوا صغار . إن مهنة جمع النفايات التي اعتادت عليها شريحة كبيرة من الأطفال العراقيين و على جمعها وبيعها او جعلها قوتا يوميا على الرغم مما لها من مضار وكوارث صحية بات مألوفا . والأسباب تعددت لتجعل من أطفال العراق أبطالا لمسرحيات تم تأليفها من قبل ساسة بلدهم لتعرض يوميا في مسارح حقيقية وهي تلال القمامة تلك ورائحتها النتنة وترى الأطفال يدورون حولها وعلى أكتافهم أكياس سوداء أعدت خصيصا كحافظات لنفايات المنازل لكنها تحولت فيما بعد كيس لجمع القوت .
الصورة التي لم تفارق من يراها لا تنفك تلاحقه في الشارع ، في العمل ، في المنزل سيارة البلديات التي تظهر ملامحها للعيان وهي تقترب من تلك الأكوام الكبيرة التي شكلت أهراما ملونة بما تكونت منه وما يبحث عنه الأطفال هي علب بلاستيكية أو أخرى معدنية لأخذها حملا على الأكتاف التي ما زالت يافعة وهشة ما يدفع البعض إلى سحبها على الأرض فلا يستطع (عمار )الذي لم يبلغ الأربع سنوات على حمل كيس مملوء بعلب البيبسي ( القواطي .(
ان مهنة جمع النفايات التي يتنافس عليها بعض الفقراء تعد مهنة معروفة وطبيعية لدى أغلبية العراقيين نتيجة الحروب التي مرت والتي بلغت الرقم القياسي دون غيرها من الدول إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي فرضته دولا تدافع عن حقوق الإنسان ونسيت إن في العراق إنسانية بحاجة إلى من يدافع عن حقوقها ومن بين هذا الشعب أطفالا صغار ورضع . ان امتهان جمع النفايات لم يصبح حكرا على الأطفال فحسب بل انه توسع ليشمل النساء كونهن المكون الأساس للمجتمع فمن فقدت زوجها كيف لها أن تعيل أطفالها وتحافظ على شرفها وعفتها في آن واحد . إن الأنثى الرقيقة الحساسة لا تقوى على صراع القدر والظروف القاهرة بعد ان فقدت معيلها الذي اعتادت على نخوته وشهامته وهو من كان قد جعلها أميرة ليوفر لها ما تحتاجه وأطفاله ولكن حين يغيب ذلك شهم من أين للزوجة والأطفال لقمة يهنئون بها .
حرفة إجبارية
ان من يزاول هذه المهنة كان قد اجبر عليها وهو ما لا شك فيه .فالأطفال الذين لم يتموا السادسة تقريبا هم الأغلبية الساحقة في هذه المهنة فخلال تواجدنا في مكان ما كان قد تحول إلى مكب لأكوام النفايات وهو يقع في أطراف إحدى المدن وعلى الرغم من الرائحة النتنة القوية التي تجتاح من يقصدها عن بعد ألا أن هناك تواجد كثيف لأطفال قصدوا المكان من مناطق بعيدة وطبعا اغلبها قرى بعيدة ومنهم من رافقته شقيقته الكبرى أو والدته وتلك المناطق تعد مناطق
يسكنها أغلبية مهجرة أي وافدة من محافظات أخرى أو مناطق أخرى من داخل المحافظة . ولا تخلو هذه الحرفة من المنافسة الحادة بين العاملين بها وطبعا الهدف جمع العدد الأكثر من العلب اواكياس او حتى الأغذية التي يتم الاقتيات عليها . ومن الخبرات التي بدا يمتلكها أطفال النفايات هي إدراك السيارة التي تحمل موادا صالحة للتغذية أو الاستعمال حسب علمهم . أي ان هناك مواد مازالت صالحة للاستخدام كالمناشف مثلا او حافظات المياه أو الأواني والتي يكون المهجرون بأمس الحاجة لها حيث تركوا ما يملكون في المكان الذي هجروا منه والتهجير هنا لم يكن اختياريا بل قسريا فترك منهم ما ترك بما فيها أثاث منزله . ويقول (محمد ) 4 سنوات تقريبا بكلمات متقطعة لم يستطع النطق بفصاحة بعد ” أنا احضر هنا يوميا واجمع علب البيبسي فأملا كيس او اثنين وأقوم ببيعه للحاج جمعة صاحب (العتيك) وابحث عن مواد مستعملة مثل لايت او طباخ صغير او ملابس مستعملة ” ويتكلم بتعجب ” حتى في يوم وجدت راديو يعمل” فيما أكد آخرون إنهم يجمعون ما تبقى من الأطعمة التي يتم رميها في النفايات لغرض تناولها
حيث يتم رمي بعض الخضروات والمعلبات المنتهية الصلاحية ومن ضمنها معجون الطماطم الأكثر استخداما في المنازل وبما فيها من خطورة كونها تحمل طفيليات وبكتيريا ضارة لانتهاء صلاحيتها الا انها تسد جوع أولئك الأطفال الذين لم يجدوا لقمة ليأكلوها وهناك من إصابته التخمة وداء الملوك من وجباته الثقيلة دون ان يكترث لهؤلاء الاطفال الذي لاحول لهم ولا قوة ولا ذنب لهم سوى انهم ولدوا في بلد اسمه العراق.
مواد متفجرة
إن من بين الأماكن التي يقصدونها أولئك الأطفال مناطق حدودية كانت معسكرات وثكنات عسكرية قبل 2003 إلا انها تلاشت بعدما تعرضت للسلب والنهب والدمار نتيجة الحرب الأخيرة . وعلى الرغم من مرور أكثر من تسع سنوات الا أنها ما زالت مصدرا للأسلحة الثقيلة من صواريخ ورمانات يدوية والغام أرضية وغيرها من الأسلحة المتنوعة يقصدها الأطفال بهدف الحصول على المواد المعدنية التي تتكون منها تلك الاعتدة كالألمنيوم الذي يباع بالوزن والنحاس وغيرها من المواد التي تدخل في الصناعات وكانت مجاميع من المراهقين قامت في وقت سابق باستدراج أفرادا لغرض جمع الحديد المستهلك من المعسكرات المنحلة وتصديرها بالأطنان الى إيران بهدف أعادة تصنيعها وقد تم تهريب تلك الأطنان الكبيرة عبر الحدود بواسطة سماسرة عراقيين وبسعر لم يتجاوز العشرة دولارات للطن الواحد فيما تم استيراد الحديد المعاد الى العراق من إيران بسعر تجاوز السبعمائة دولار للطن .
إن الألغام الأرضية المنتشرة على الحدود العراقية-الإيرانية منذ حرب الثمانينات تشكل خطرا كبيرا على الأطفال دون غيرهم لأنهم الأكثر نشاطا وحاجة للمال وهم اليوم المصدر الرئيس لدخل عوائلهم التي فقدت اغلبها المعيل نتيجة اعمال العنف لذلك لجأت لعمالة الأطفال ولو بالإكراه فلا حل لها غير ذلك . وكانت حوادث انفجار ألغام أرضية في تلك المناطق أودت بحياة الكثيرين من رعاة الأغنام .إما العاملين في مجال جمع النفايات فانهم عندما يجدون نوعا ما من الأسلحة يقومون بطرقه دون الاكتراث إلى ما سينتج وعند شدة الطرق والسخونة تتفاعل المواد المتفجرة الموجودة بداخل تلك الصواريخ لتنفجر وتودي بحياة حائزها كما حدث لعشرات الاطفال منهم من قضى واخرون تعرضوا للتشويه والبتر .
خيار آخر
عدد من الأطفال الذين لم يرغبوا بتلك الحرفة اجبروا على حمل علبة كرتونية من اللبان (العلكة) ويقول (محمد ) وهو ابن الخمسة أعوام انه يحمل علبة اللبان هذه ويقصد محل تلو الآخر ويسير في الأزقة متحملا سخرية الكبار وتحرش البعض منهم فقد تعرض الطفل( محمد) الى أكثر من حركة تحرش ملموسة من أشخاص كبار في العمر وخصوصا في الإحياء الصناعية ويقول”إن احدهم عرض علي مبلغا من المال ومد يده على جسدي في وقت الظهيرة وأنا أتسكع بين محلات الـ (الفيترية )في الحي الصناعي وإنني لم استطع الرد بل هربت وأنا ارتجف وحين أخبرت أمي منعتني من الذهاب الى ذلك المكان وبدأت تبكي وأنا قابلتها وحضنتها وبدأت ابكي معها ” وحين سألته عن استعداده للدراسة العام المقبل حين يبلغ السادسة اجابني ” لن استطيع الدراسة . من يطعم إخوتي ونحن ليس لدينا أي دخل لا راتب ولا أي شخص يصرف علينا ” فلم استطع الرد على ما قاله لان معه حق في ذلك .
وهناك أطفال آخرون لم تسنح لهم الفرصة للعمل ضمن مجاميع أطفال النفايات التي شكلت عصابات تمنع من يمتهن مهنتها بل اختاروا العمل المسالم كوضع ميزان بشري على الرصيف وبيع المحارم الورقية والماء المعدني والهدف إيجاد لقمة العيش التي يصعب الحصول عليها في بلد يصدر ملايين البراميل من البترول يوميا فيما بلغت ميزانيته أكثر من مائة مليار دولار ونصف وهذا ليس مبلغا من نسج الخيال بل انه مبلغ حقيقي تم تخصيصه للشعب العراقي الذي يتغذى عددا من أطفاله على النفايات والأغذية الفاسدة .
إما ( عدنان ) فيعمل حمالا في عربة دفع في إحدى الأسواق يقول ” فرحتي كبيرة عندما تقوم لجنة من مركز الشرطة “ويقصد الشرطة الاقتصادية ” افرح عندما يقومون باستطلاع على متاجر الألبان واللحوم المجمدة والمعلبات وافرح أكثر عندما يجدون موادا تالفة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي ” وحين سألته عن السبب أجاب” لأنني محروم من تلك المواد ما دامت صالحة للاستهلاك وهناك من يشتريها وحين تتلف يقومون برميها في الازبال وهي معلبة يعنى (اكسباير) فلا يشتريها احد وحين يحل الظلام وتقفل المحلات أقوم بجمع عدد كبير منها واضعها في عربتي واحملها لمنزلنا وأتناولها مع إخوتي وتكفينا لأكثر من أسبوع ” وسألته عن النتائج والتسمم الذي سيصاب به مع عائلته فيرد ” لا لن أصاب بشي فلي أكثر من سنة وأنا أتناول وكذلك إخوتي ولم نمت جميعها صالحة لكنهم يرمونها لأنهم (شبعانين ) ويقصد أصحاب الدخل العالي .ويكمل “هذا أيضا لاحقونا عليه ففي المرة الأخيرة بدأت الشرطة بحرق تلك المواد لكنى أخرجت منها بعض المواد أكفتنا لثلاثة أيام”.
مؤسسات ومنظمات
ان المبالغ التي تصرف على طباعة بوسترات التوعية التي نشاهدها هنا وهناك والدعايات الإعلانية والتي تعتبر مدفوعة الثمن وغيرها من فعاليات لا معنى لها سوى إظهار وجه مغاير للحقيقة والشعارات الزائفة لو جمع ثمنها ودفع على شكل مساهمات او رؤوس أموال لمشاريع بسيطة لأسر تلك العوائل لكان الطفل العراقي اليوم كبقية أطفال العالم يتناولون وجبتهم بكرامة بعيدا عن الأوبئة والروائح الملوثة والجراثيم التي لا تخول منها حتى مياه دجلة .
ان الاعتدال والنظام الذي ينقص اغلب مؤسساتنا العامة شملت تلك المنظمات العاملة بأسماء متعددة وشعارات مختلفة وجعلت من المنظمة قناع ترتديه لجمع التبرعات وليشمل الفساد تلك المؤسسات الإنسانية التي من شانها رفع قيمة الإنسان ومنحه الحنان وسد عوزه لا سيما الأطفال الذين لا يملكون سوى دمعتهم وبراءتهم وما أنقى من الطفل . إن الطفل العراقي والذي شمل بقرار الأمم المتحدة لعام 1989 والذي يثبت ان الطفل من لم يبلغ الثامنة عشر وللدولة مسؤولية أبوية تجاه هذا الطفل . اذن أين دور الحكومة العراقية من هؤلاء الأطفال الذين فقدوا آبائهم نتيجة سوء الإدارة السابقة وإعمال العنف التي رافقت الخلافات القائمة بين سياسيينا المحترمين .فهل هناك سياسي اليوم لا يرى او يشاهد الأطفال الذين توزعوا على شوارع وأزقة العاصمة وهم يتنازعون على السيارات عدا سيارات المسؤولين المضللة والتي يخشى الأطفال الاقتراب منها نتيجة ما شاهدوه من تلك السيارات التي الشبيهة في ساحة النسور وغيرها من الأماكن التي كانت ومازالت مسارح لمختلف أنواع الجرائم .
ليس من الصعب الإيعاز لوزارة التخطيط التي تعنى بالشأن لإجراء تعداد لمن لا يملك موردا من الأطفال تلك الفئة المهمة والمغبونة لأنها لم تحمل سلاحا لتطالب بحقوقها .
أما بعض المنظمات الإنسانية فمن المشين تسميتها إنسانية لأنه لا تدرك معنى الإنسانية بعد إن تجردت منه عندما شاهدت الأطفال يتسكعون في الشوارع وفي حاويات القمامة ولم تفعل شيئا ويبقى السؤال الذي بحاجة إلى رد مقنع.
والتساؤل هنا ..إذا كانت ميزانية الشعب خيالية وهذه حال اطفالنا الابرياء يتضورون جوعا فوق أكوام القمامة وكأنهم غربان تحوم فوق القديد ، فماذا لنا إن نفعل عندما يجف النبع ؟