اشتهر الكاتب والروائي المغربي محمد شكري (1935-2003) بثلاثية سيرته الذاتية الموسومة بالتتالي” الخبز الحافي” (1982)، “زمن الأخطاء” أو “الشطار”1 (1992) و”وجوه” (2000).2
لقد كانت الكُتب والكتابة بالنسبة له المنبعين اللذين لا ينبضان منذ انبثاقهما في حياته. إنهما يقهران، حسب قوله، الزمن العادي لخلق زمن تعميق الإبداع. ويوجهان أحلامه وهواجسه المنبجسة. يخلصانه من الرؤية ويقودانه نحو الرؤيا، نحو الغربة الجوانية. (وج 154) فالبحث عن الذات والتعمق في بحورها تجعلنا نكتشف أنفسنا ونتعلم كيفية التعامل معها.
حسب بياتريس ديديي، تعود كتابة المذكرات إلى الفردية الرومانسية التي تعتمد على الإيمان بالفرد؛ بالأنا.3 أما فيليب لوجون فيقول أن كلمة “اوتوبيوغرافيا”، كما المذكرات الخاصة، ظهرت لأول مرة في انجلترا وبعدها انتشرت في أوروبا. ويضيف أن السيرة الذاتية هي أحد مؤشرات تغيير مفهوم “الفرد” وهي مرتبطة بشكل وثيق بالحضارة الصناعية وبقدوم البرجوازية إلى السلطة.4
تتطلب عملية كتابة السيرة الذاتية من السارد أن يضع نوعين من المسافات: إما مواجهة الماضي أو مواجهة ما يكتب؛ أي توضيح العلاقة بين السارد والشخصية وبين الشخص البالغ والطفل. وهناك وضعيتان ممكنتان لذلك؛ إما أن يجد الكاتب نفسه في الحالة أو أن يتخذ مسافة عنها. والأولى تعني التماهي مع ما حدث ومع ما يحدث الآن أيضا. أما الرفض فهو يحدث بالأخص على الصعيد الذهني- الثقافي ويشمل صعوبة تفهَم ما كنا عليه في الماضي وإيجاد أنفسنا في هذا الماضي. وقد يحدث هذا على الصعيد العاطفي. ويأخذ اتجاهين عكسيين متناقضين: الحنين أو الرفض. فيما يخص الأول، فهو الإحساس بالندم عن المسافة التي وجب علينا اتخاذها. أما الرفض فإنه يتزايد وقد يصل إذا اقتضى وقد نلاحظ هذا التخبط في سيرورة العملية السيرية لمحمد شكري وهو الذي يقول أن 5الأمر إلى اللعنة.
“حياتنا هي تجاربنا، لكن الكاتب الحقيقي لا يعلٍم التجارب. إنه يوقظ الإحساس بها.”6
العيش في زمن الأخطاء: الاغتراب
يغطي الجزء الأول من السيرة الذاتية الموسوم “الخبز الحافي”، فترة زمنية مهمة من حياة محمد شكري وهي مرحلة الطفولة والمراهقة. أما الجزء الثاني بعنوان “زمن الأخطاء” فينقسم إلى قسمين؛ مرحلة الدراسة الثانوية والتخرج من مدرسة المعلمين، ومرحلة اكتشاف زمن الأخطاء والإحساس بغربة الذات. فبعد الفصل التاسع عشر المعنون “العيش في زمن الأخطاء” سنرى أن السيرة الذاتية ستأخذ منعطفا آخرا.
عرف السارد-الشخصية الغربة من صباه عندما اضطرت عائلته للهجرة من الريف إلى طنجة بحثا عن القوت واستمرت غربته بين طنجة وتطوان والعرائش. وهو الذي يقول” أغترب ولو في ضاحية المدينة.” (زأ 128) لكن الأشد من ذلك احساسه العميق بالاغتراب عن الذات وعن مجتمع، الفقر فيه يسحق الفقراء ويهمش الضعفاء.
يزداد اهتمام السارد “إبن حدو علال الشكري” (زأ 85)، الطالب في مدرسة المعلمين، بالقراءة الجدية. وبدأت محاولاته في الكتابة بمساعدة الكاتب محمد الصباغ تتعمق وكذلك نظرته للحياة. وهنا
يزيد احساسه بالاغتراب عن الذات. ويكون شاهدا على جيله وما يحل به. ففي سبعينيات القرن الماضي، يبدو أن “الأذكياء جنوا أو هم يهدون في الشوارع والأحقون بالبقاء هاجروا وكبلتهم الغربة الثقيلة…رأيتهم يشربون كؤوسهم الأخيرة حفنة من تراب الوطن. رأيت أحدهم يحملها في كيس صغير..ربما سيسمد بها بذورا في غربته القهرية..إنها مشيئة البؤس في وطنه… (زأ 126) يحس شكري بألم يلمؔ به ويرهف السمع. “لمن هذه الأنغام الحزينة التي أسمعها من بعيد؟ يبدو “أنها للراحلين في الجمارك وهم يزحفون واقفين. بطء زحفهم يذلهم حتى نخاع العظام. إن مذلة الوطن أقسى عليهم من مذلة الغربة.” (زأ 127)
إن الراوي تخونه الكتابة. “أكتب ما أمزقه من اليأس. يعجزني جمال التعبير. كيف تأتي الكتابة؟” يصف عجزه، ما باليد حيلة،”إني قزم نفسي.” (زأ 128) فإن الصدأ يرعبه. (زأ 129) فعندما توصل إلى المفهوم الذي يقول: ” أنا أحب، إذن أنا أحيا” عند هايني، قبل أن يعرف ” أنا أفكر، إذن أنا موجود” عند ديكارت. ثم جاء سارتر فأيقظ فيه مفهوما آخر:”أنا ما هو أنا، ليس أنا ما هو أنا،” فإن وعيه بذاته وبعجزه جعله يمزق كل ما يكتب ويبيع كتبه لكي يسكر. لكن “انحلال الروح في الجسد، كان مسًي المرضي، الغلاب.”( زأ 130). وذات ليلة أعلن إفلاسه الجسدي والروحي وكانت نهايته في مستشفى أمراض الأعصاب (ماريوكا) بتطوان. هناك تعرف على العالم الآخر، عالم المنسيين ( في فصل 20: المنسيون)؛ يوسف الذي يفسر كل حديث عن الله، والدين والكوارث الطبيعية ويقول: “يخشى الله من عباده العلماء.” (زأ 131) ويقولون أن القراءات السبع هي التي خبلته. أما منصور فيقول أن : “يوم فوق الأرض خير من ألف يوم تحت الأرض. ألف عام من الحياة حتى يلعنها الإنسان.” أما عمر فيطلب منهم أن يكفوا من أخبار الأولين والترهان. ويريد الخبز والماء. وأبرهام الذي يغني للحب ومنصور الذي يجلس بجانب شكري ويقول أن “ليس سهلا أن يجن الإنسان، وصعب أن يعقل حتى لا يجن.” (زأ 132) فيجيبه يوسف أن “في عقول الناس أثقالا، وأجسادهم حميرها.” ونساء أخريات يحملن أثقالا من الهموم أوصلتهن إلى هذا المستشفى.
يتذكر محمد مع باتريسيا الشاعرة الفاشلة قصة الإسباني، بائع بالونات الأطفال، الذي يكره فرانكو. “كان يعيش.. زمن الصمت في المنفى.” (زأ 166) أما وضعية محمد فقد تأزمت ودخل للمرة الثانية إلى مستشفى مايوركا للأعصاب بتطوان. وعانى أمرﱠ الغربتين، خارج المصحة وداخلها. وبلغت أشدها عند وفاة أمه. “فما عسى يقول الابن عن وفاة أمه؟ لا شيء من كل شيء.” (زأ 180) ..” وبموت أمي تموت كل أسرتي”. (زأ 186)
حالة الاغتراب التي يمر بها الإنسان، حسب د. حليم بركات،7 تتصل بمشكلات التفكك الاجتماعي والثقافي والسياسي. فعندما يكون المرء عاجزا ويعي عجزه في علاقاته مع المجتمع ومؤسساته، تكون ثلاث خيارات سلوكية أمامه؛ إما الانسحاب أو الرضوخ أو التمرد – الثورة.
يبدو أن شكري اختار في “الخبز الحافي” طريق التمرد كرد فعل على الاغتراب الذي يعاني منه. وذلك بكسر حاجز التابوهات ومن ضمنها تابوه الجنس. واتجه السارد-الشخصية إلى تعاطي الحشيش والكيف وشرب الكحول والعربدة وكذلك معاشرة العاهرات وممارسة الجنس او محاولة ذلك. إن هذا التناول يعني للبعض التمرد على العادات والتقاليد، بما يسمى بالسلوك الاجتماعي السليم. وما زاد الطين بله وجعل تمرده يحتل ذروته هو حديثه بالضمير “الأنا” عن مشاهد ومغامرات جنسية مستعملا
مفردات يستخدمها العامة. كما أنه لم يبخل بالتفاصيل بجرأة مستفزة. وأعتقد أنه وصل هدفه وهو رفضه للاغتراب رفضا قاطعا، وذلك عن طريق صب حنقه وغضبه في هذا السلوك.
أما في الجزء الثاني “زمن الأخطاء” فكان محمد يخطو خطواته الأولى في الدراسة والوعي الاجتماعي والسياسي. أصبح مدرسا رغم كل الصعوبات التي واجهها لكن ملامح الجدية والالتزام والاهتمام بالمطالعة ملأت وقته أكثر. تمثلت في ثلاث قصائد شعرية متتالية. كما ختم هذا الجزء بقصيدة رابعة بعنوان “طنجيس” حفاوة بمدينة طنجة. أما سلوكه ودخوله مستشفى الأعصاب مرتين، فإنه يدل على انسحابه من المعركة وهروبه من المواجهة. ومع هذا كسب تجارب جعلته يكتب سيرته الذاتية الثالثة بطريقة أنضج.
يعد الجزء الثالث الموسوم “وجوه”، الذي يتضمن 15 فصلا معنونا، سيرة ذاتية ثقافية، تطلعنا على صيرورة محمد شكري الابداعية من خلال حياته وتجاربه مع أصدقائه، كُتابا وفنانين غربيين كانوا أم محليين. وتعرفنا على الوجه الآخر لشكري من خلال قصائده الشعرية العشرة التي نثرها داخل المتن السردي وتسليطه الضوء على معاناة المغترب عن الذات واغتراب المرأة والطفل والمسن وكذلك اغتراب المقيمين الأجانب المنفيين الذين عاشوا بالمغرب وربما ولدوا به. “وجوه” كتاب يهتم بالإضافة إلى ثيمة الاغتراب عن الذات وعن المجتمع بمؤسساته، فإنه متن يزخر بمعاني وملامح جمالية وأفكار تنم عن ثقافة الكاتب الواسعة ومتابعاته بحذر لما يجري حوله وفي العالم.
استشهد حليم بركات، في كتابه “الإغتراب في الثقافة العربية”، بفاطمة المحسن لقولها أن هناك حقا ادب منفى وأعطت مثلا في الشعر الشاعر سعدي يوسف، وفي الرواية غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي. إن الأعمال والإبداعات الأدبية لهؤلاء الكتاب تحمل هموم وأماني العراقيين بشكل عام. كما يذكر محمد شكري أن “الحلم الجوال هو الذي جعل من الشاعر الجواهري والبياتي وسعدي يوسف “المنفى” الذي لن يصبح وطنا و”الوطن” الذي يظل منفى. فهذه الغربة الجوالة هي إلهام المبدعين المتجدد. ليست غربة الوطن هي القاسية فقط لأن المبدع يحمل وطنه معه أينما ارتحل إذا اضطهده جور حكام بلاده، بل هي غربة الذات.”8
شكري الذي يشرب لكي يعي أكثر ويقول: “انا المفلس المديون لـ ( فاطي) والملعون،” (وج 33) يعبر بجمالية عن اغترابه وشكوكه وتخبطه في أول قصيدة في “وجوه” بعنوان “الميراث”:
غربة
لي غربتان
واحدة هنا وواحدة
هناك
أيهما الأغرب؟
لا خيار بينهما،
في زمن المحن،
رغم الوطن.
الضفادع هي التي
لا ترحل من مرجها،
ما كان لي أن اقول:
سأرحل غذا،
لكن انقيادي
كان قهرا،
وبقائي صمودا
كان هشا،
ها أنا ذهبت،
ها أنا عدت.
هذا ما هو أنا الآن. (وج 35-36)
لكنﱡ المغتربين كثيرون؛ ريكاردو الذي يلغي عودته إلى اسبانيا للمرة الرابعة. وذلك لأنه وُلد وترعرع في طنجة ولا يريد أن يغادرها لمجرد العمل في اسبانيا، ودادي”أول شيوعي طنجوي” الذي هرب بجلده إلى بوردو عند احتلال فرانكو طنجة في 14 حزيران- يونيو 1940. وقد كان باكو (تصغير فرانكو) يطارد ويعدم المثقفين في شمال المغرب. وفي أحسن الأحوال، يسجنون في سجن سبته الرهيب El hacho الذي لا يقل فظاعة عن سجن الكاطرات ALcatraz.
بالإضافة إلى اغتراب الهادي الذي عاد من حرب الهند الصينية مبتور الذراعين،” لقد عرف لماذا عاد ولكنه لم يعرف لماذا ذهب إليها،” (وج 36) هناك أحمد المدرس الذي يقدس توحؔده وأخوه خليل الفنان النابغة، الذي عرض في أواخر الستينات “لوحات هياكل عظمية حية، وأشباح أشخاص ينتظرون من يدفنهم، مصلوبون أو مشنوقون ومن فقدوا ملامحهم الإنسانية.” (وج 93) لكن هذه اللوحات صودرت في اليوم التالي.
أخيرا عادت فاطي محجبة من غربتها التي دامت خمسة عشر عاما في اسبانيا، تفتح حوارا مع شكري حول الكتابة وعن عملها السابق في حانة غرناطة. الأمر سواء بينهما. اللعنات موجودة في كل عمل، حسب شكري، حتى تأليف الكتب لا يسلم من اللعنات والمنع والاعتداء إلى حد المطاردة والسجن والقتل. ويُكمل”ربما تلقيتُ من الشتائم أكثر مما عانيتِ منه أنتِ. لقد بصق علي بعضهم في الشارع، في الحانات، في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وفي كل مكان لأني كاتب ملعون.” (وج 104)
أما فيرونيك فهي “ربما حريته الوهمية في العيش مع امرأة.” لكن والدتها “جاءت لترى أين تعيش ابنتها في طنجة، قيل لها ما قيل من ابنتها تعيش مع كاتب ملعون مدمن الكحول والحشيش وكل ما هو مريب. يا للعار.” (وج 149) اطمئنت الأم على ابنتها وعادت إلى ديارها. لكن شكري أقنع ابنتها فيرونيك أن تعود إلى بلدها لتكمل تعليمها وتتطلع إلى مستقبل زاهر.
التراضي مع الذات
محمد شكري كاتب عصامي. عانى الاغتراب على الصعيد الاجتماعي والطبقي والثقافي، وهو الذي في ف 9للكرامة الإنسانية. اياري الرافض شجبا للظلم وإنقاذتنفي قائلا أن في “اخالهذا حكم على نفسه بالجزء الاول من سيرته الذاتية “الخبز الحافي” عبر عن غضبه واستياءه من الوضع السياسي والاقتصادي والتمزق الاجتماعي الذي كانت تعاني منه المرأة ومعها طبقات المجتمع المنكوبة. أما في الجزء الثاني “زمن الأخطاء”، فقد كان يجسد مرحلة الوعي بالذات وبالآخر وختم الجزء الثالث من سيرته الذاتية بالمصالحة مع النفس، مُعلنا: “هكذا زال المعنى المقلق لعيد ميلادي الرابع والستين. إنها لحظة صداقة.” (وج 153) فبعدما كان يتخبط في أذيال هويته ويقول: “أنا ما هو أنا، وليس أنا ما هو أنا.” (زأ 130) ويشك في “هذا ما هو أنا.” (وج 36) إلى أن أصبح متأكدا أنه: أنا هو الذي أنا هو.” (وج 153)
الهوامش 1 -“زمن الأخطاء” طبعت في بيروت حسب رغبة الناشر تحت عنوان “الشطار”. الرواية الشطارية نسبة إلى رواية caresquePi التي ازدهرت في القرن السادس عشر في اسبانيا. وهي تعتمد على اسلوب الأتوبيوغرافيا بالضمير المتكلم ويكون البطل الرئيس picaroهو الكاتب والراوي في نفس الوقت يعيش على هامش المجتمع أو عالة عليه. يطمع أن يرتقي اجتماعيا بأسلوب النصب والاحتيال. اما أعمال محمد شكري فليست شطارية. 2(وج) “وجوه(زأ)،” “زمن الأخطاء( خح) ،” الخبز الحافي”نرمز إلى ” – 3 – Georges May, L’autobiographie, PUF, 1979, p.26 4 – Philipe Lejeune, L’autobiographie en France, Colin, Paris, 1971, p.14 5 – Ibid., pp. 73-75 1186 .، ص1998، منشورات الجمل، كولونيا، بيضالأ غواية الشحرور ،محمد شكري – 7 – سعدون هليل ، الإغتراب في الثقافة العربية لحليم بركات، طريق الشعب، يوم 23 شباط 2010 8 – شكري، غواية الشحرور الأبيض، ص. 4 449