الفساد كائن يبحث دائما عن البيئة التي تتاسب وجوده وتساعد على بقائه وتطوره، عندما يراد مكافحته، يفترض ان تكون البداية من دراسة العوامل البيئية التي يستغلها الفساد ليعيش وينمو، حتى يتغول وتتعدد اشكاله، عندها يقف الباحث عن المعالجة عاجزا امام المكافحة، وكلما تقدم الزمن اصبحت المعالجة اصعب.
العراق منذ نشوء الدولة فيه، عانى من الفساد باختلاف اساليبه وطرقه وتشعباته، ذاكرتنا كجيل عاصر فترة الثمانينيات نتذكر الرشوة والواسطة والمحسوبية والمنسوبية والتعامل بطائفية ظاهرها سياسي، لكن واقعها مذهبي، والمصاديق على ذلك كثيرة، يتذكر جيلنا كيف ان المسؤل انذاك بعنوانه الحزبي او الطائفي يسخر كثير من امكانات الدولة لمصلحة شخصه وعائلته وطائفته، تغول هذا الفساد في التسعينات، ليخترق اجهزة الدولة والدوائر الحكومية كافة، ليصل الى ان طالب في المرحلة الابتدائية يرشي معلمه لينجح! وكذا تمويه القائد الضرورة! بالانجازات الوهمية للتصنيع العسكري مقابل ملايين الدنانير التي كانت مخصصة لهذه الاغراض، كذا حال الجيش والاجهزة الاخرى التي لم تكن معنية بشكل مباشر بحماية النظام ورأسه، حتى وصل الحال ان تجد جندي في احد كراجات النقل يستجدي اجرة النقل، ليتمتع بأجازته الدورية، اثر وتأثير هذا الحال، انعكس على قيم واخلاقيات المجتمع، ليتضاعف في ظل الفوضى بعد تغيير النظام، حيث زحف اغلب منتسبي الدولة على دوائرهم، ليسرقوا ماغلى ثمنه وسهل حمله، عندما انهارت الدولة وشرع المحتل في اعادة بنائها، رسم هيكليات مشوهة، ضاعفتها الحكومات المتتالية بعده، لغاية ٢٠١٤، بسبب غياب الرؤية والتخطيط.تجد في هيكلية الدولة على سبيل المثال، هيئة للسياحة وهيئة للاثار، تم استحداث وزارة للسياحة، مع الابقاء على هيئة السياحة مستقلة! كذلك استحداث وزارة للعلوم والتكنلوجيا مع وجود دوائر تشبهها عمل وتخصص في مختلف وزارات الدولة، من المصاديق على عشوائية هيكل الدولة، في كل محافظة هناك هيئة استثمار تابعه للمحافظ، وهناك هيئة وطنية للاستثمار ليس لها سلطة على الهيئات في المحافظات، ربما يكون بينهما تنسيق مشترك، كأي دائرة اخرى، ماهو التوصيف القانوني لهذه الهيئة لايعرفه احد! كذلك هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية، كلاهما جهة رقابية، ولهما تمثيل في كل وزارة، امانة ومحافظة بغداد، والتداخل الفاضح بينهما، وزارة الاتصالات وهيئة الاتصالات، وغيرها العشرات من الامثلة.
تلج الوزارات تجد في هيكليتها دوائر لايعرف مدرائها تخصصها الدقيق، واختلافها عن دوائر اخرى، وهناك مئات الامثلة والمصاديق للعبث والتداخل في هيكلية الدولة، هذا انتج بيئة مثالية لنشوء الفساد بنوعيه المقنن والغير مقنن، ليضاف الى العوامل الاخرى الموجودة لانعاش الفساد” تضارب القوانين، تعيينات الوكالة، الامتيازات المبالغ فيها”.
اذا كانت هناك نوايا حقيقية لمكافحة الفساد، بعيد عن شعارات الاستغفال والتمويه على المواطن، يجب ان تبدأ بتفكيك عناصر بيئة الفساد، والبداية من اعادة هيكلية الدولة، ثم اعادة تقييم القوانين بشكل كامل، وضع قانون واضح للامتيازات، وضع تشريع ملزم يمنع التعيين بالوكالة، عندها يكون شعار مكافحة الفساد واقعي ومنتج، اما البقاء عند الخطابات والشخصنة وتبادل الاتهامات، يعني ان الفساد سيكون امر شرعي وماعداه شذوذ، والعراق يزحف سريعا بهذا الاتجاه….