برغم ثورة الاتصالات التي ينعم بها العالم اليوم، والمتاحة لشعوبنا، إلا أنَّ أفقَ المعرفةِ قد بدا أضيقَ مما كان عليه قبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين عاماً، لهذه الشعوب. فإذ أنَّ التوقَ إلى المعرفة كان يتجلى في الحرصِ على الذهاب إلى دور العلم والجامعات خارج البلاد بكلفتها العالية على دُخولٍ (يا دوب تكفي إعالة أسرة) أو عندما امتلكنا جامعاتنا الوطنية، ومتابعة آخر إصدارات ما تجود به دور النشر في لبنان والقاهرة والعراق ودمشق، وحضور ندوات موسميّةٍ هنا وهناك، ثم إقامة مهرجانات ومؤتمرات تجمع أهل الفن الواحد والعلوم الواحدة.. فإن الأوتوسترادات إلى المعرفة الهائلة الاتساع والطول التي يُتيحها الإنترنت ووسائط الاتصال الحديثة الآن والتي لا يشبهها شيءٌ في ماضي أي أمةٍ من الأمم، ليست هي التي تسلكُها شعوبنا، باستثناءات ضئيلة من شبابٍ ذي خلفيات تعليميّة مختلفة. فالغالبية، فيما يبدو من النتائج على الأقل، تتجه إلى عدد قليل من الخيارات، ليس من بينها تعميق المعرفة بفروع المعرفة أو متابعة ما يستجدُ من النظر في شؤون الحياة أو في العلوم. بل إنَّ عداءً بات يتخذ حيزاً واضحاً ضدَّ المنطق الموضوعي للعلم، متجليّاً بتبني الخرافة والأساطير والغيبيات كمصدرٍ أساسيٍّ لمعرفة النفس والعالم من حولنا، وتفسير الظواهر والكوارث الطبيعيّة (غضب من الله، الابتعاد عن الدين…إلخ).
وتشير إحصاءات متعددة إلى أنَّ الشعوب العربيّة تتفاوت في اقتحامها عالم البورنو على مواقعه، واستخدامه النَّهم في تلبية حاجة طبيعيّة إلى الجنس، ظل الاختلاط العاديّ في هذه المجتمعات عنواناً للعدوان على العفّة، وتدمير الأخلاق! ومع ذلك فإن الخفاء عن العيون في استخدامات المواقع الإباحية يضمنُ تلبيةً سريّةً للحاجة البدنية المسؤولة عن استمرار الجنس البشري والكائنات الحية.
ولربما من دون أي ترتيب، تأتي المواقع الدينيّة والفضائيات العقائدية من بين أولويات ما تذهبُ إليها هذه الشعوب، التي تعمّقت فيها أنواع من الأميات، ليست أمية القراءة والكتابة أخطرها. فليس في هذه المواقع ما يشفي غليل المعرفة العقلية، ولا ما يدفعُ باتجاه السلام المجتمعي والوئام بين الشعوب، بل بين فئات الشعب الواحد.. بل هي حروبٌ تُشنُّ على التفكير والاختلاف، ودعواتٌ صُراحٌ إلى العنفِ اللفظي والفكري والجسدي، تتجلَّلُ بغطاءٍ بالٍ مليءٍ بالثقوب، من التديّن القروسطيّ، الفاسد ومنتهي الصلاحية.
وكلُّ ذلك يجعلُ من المعارف الموضوعية، وعالم الأفكار التي تبني حياة الجنس البشريّ وتدفعُ بها إلى الإبداع، غريبةً غربةَ الحجارة الكريمة في كيس القمامة. فأن تكون غاية كلية للعلوم في جامعتنا الأم مثلاً، لا أن تنصرفَ إلى البحث العلمي، بل إلى دعوة واحدٍ من كبار الأفاقين في تفسير النصِّ المقدَّس منسوباً إلى العلم، فتلك كارثةٌ معرفيّةٌ تُظهرُ ما آلَ إليه أفقُ المعرفةِ نفسه من اضمحلالٍ. وأن يتحوَّلَ هاجسُ المثقَّف والفنان من رصدِ مسارات مجتمعه، وتحرير العقلِ، وطرح الرؤى، وابتكار الجمال، إلى مجترٍّ للأدعية وللنصوص التي تصنعُ قطعاناً من الخراف، هو من بينها، فتلك كارثةٌ أخرى تنبئ عما آل إليه أفق المعرفة، ووراء أي سديمٍ غاب!
تحريرُ آفاقِ المعرفة يبدأ من تحرير العقلِ من ركام الغيبيات والخرافات والخزعبلات التي ملأت خطاب اليوم، سياسيّاً أم ثقافيّاً أم دينياً..
ودعونا أن لا نفقد الأمل..!
نقلا عن الغد الاردنية