هي معركة حامية الوطيس، لكنّ أطرافها ليسوا في حاجة لأن يضربوا ويهربوا على وفق قواعد الحرب التقليدية… هنا أيضاً يوجد ضرب، بيد أن الضارب ليس عليه أن يهرب… عليه أن يلزم مكانه دون حراك يتجاوز أصابع يديه. الذي كان يضرب ويهرب في الحروب التقليدية إنّما كان معروفاً، معلوم الاسم والرسم، يهاجم بوجه مكشوف وينسحب إلى مكان غير خافٍ على الخصم… أمّا في هذه المعركة فالضارب يلوذ بمكمن موجود وغير موجود، وهو جيش إلكتروني يدير معركته في الفضاء الافتراضي، قوامه محرّرون صحافيون وكتّاب وفنّيو صوت وصورة وغرافيك مرتزقة، تُحسَب أجورهم في الغالب على عدد «اللايكات» و«الشيرات» التي تحوزها «منتجاتهم».
ما مِنْ حملة دعائية شهدها العراق منذ 2005 استعداداً لانتخابات عامة أو محلية تماثل الحملة الحالية المتميّزة بأن «الضرب تحت الحزام» أصبح فيها سافراً للغاية، فالجيوش الإلكترونية تعمل ليل نهار في عمليات تسقيط اجتماعي وسياسي لمرشحي القوائم المتنافسة، مع التركيز على النساء المرشّحات بشكل خاص، فالهدف يتجاوز التسقيط السياسي إلى إشاعة جو يُرغم المرشّحات على الانسحاب لتخلو الساحة للرجال.
على مدى الأسابيع الماضية، بُثّت عبر المواقع الإلكترونية، وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، أخبار مضللة وكاذبة تماماً، وتقارير مشوّهة وصور مُتلاعب بها ومقاطع فيديو مُحرّفة، بينها مقاطع تُظهر
مرشحات إناثاً في أوضاع جنسية مع أناس أغراب.
صحيح أن هذه «المنتجات» كان لها تأثير عاصف في البداية، لكنّها ما لبثت أن أثارت السخط على الواقفين وراء الحملة المُبتذلة، وهم بحسب السائد القوى السياسية المتنفّذة التي وحدها تملك الكثير من المال لكي تنفقه ببذخ على الدعاية السوداء من هذا النوع. هذا السخط انتقل من الأوساط الشعبية إلى بعض الدوائر الدينية، وبخاصة المرجعية الشيعية العليا في النجف، التي كرّست خطبة الجمعة الثالث عشر من الشهر الحالي للدعوة إلى الحفاظ على المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي. ممثل المرجعية في كربلاء أحمد الصافي تحدّث في خطبته التي زاد عدد كلماتها على الألف عمّا سماها «مجموعة من التصرّفات بدأت تدبّ في المجتمع دبيباً في بعض الحالات يكون بطيئاً ونفاجأ بأنها أصبحت حالة اجتماعية»، وأشار إلى تفشّي ظاهرة الرشوة والسرقة من المال العام والتجاوز على الأعراض».
وعدا عن المرجعية الشيعية العليا، استثارت هذه الحملة المتدنية بعثة الأمم المتحدة (يونامي) التي تعمل إلى جانب مفوضية الانتخابات في سبيل استمرار العملية الديمقراطية وتطويرها في البلاد. الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش ندّد في بيان بحملات التشهير، وقال إن «على الأحزاب السياسية وكل أطياف المجتمع العراقي الوقوف ضد هذه الأعمال المُبتذلة (التشهير والتسقيط) التي لا تؤدي إلا إلى تقويض العملية الديمقراطية». سفارة الولايات المتحدة في بغداد هي الأخرى أعربت عن القلق حيال «المضايقات والتشهير وتشويه السمعة ضدّ المُرشَحين»، ورأت أن الهجمات وحملات التشويه ضد النساء «مخيّبة للآمال وتستوجب الشجب»، وحضّت على التحقيق في الانتهاكات التي «تهدّد نزاهة العملية الانتخابية».
يوم الخميس الماضي نقل موقع القناة الروسية «RT» عن مسؤول في مفوضية الانتخابات التأكيد بأن حجم إنفاق الأحزاب على الحسابات الإلكترونية وعمليات المونتاج بلغ أكثر من ربع مليون دولار شهرياً، وأن «الأحزاب الإسلامية تصدّرت المتورطين في ذلك»، وقال: «هناك استعانة بشركات فيديو وبرمجة عالمية لصناعة الصور أو أفلام الفيديو ضدّ شخصيات مختلفة ومحاولة استئجار ساعة أو اثنتين من بثّ قنوات محلية وعربية وقعت في الفخ».
الحملة الدعائية المتدنّية هذه تعكس التردّي المريع للممارسة السياسية بعد خمس عشرة سنة من قيام العهد الجديد في العراق، وهذا راجع إلى الصراع الضاري على السلطة والنفوذ والمال فيما بين القوى السياسية المتحكّمة بالعملية السياسية، وهي من قوى الإسلام السياسي في الغالب.
هذه القوى باتت تواجه الآن مأزقاً حقيقياً، فالعراقيون الذين اعتقدوا بعد سقوط نظام صدام حسين أن الإسلاميين «التُقاة» و«الورعين» سينتشلونهم ممّا كانوا فيه من أوضاع حياتية صعبة وتخلّف شامل ناجم عن حقبة الديكتاتورية وحروبها، وجدوا الآن أن أحوالهم لم تتحسّن، بل ساءت، رغم تدفّق موارد مالية هائلة على العراق في العهد الجديد (أكثر من 800 مليار دولار).
الرأي العام العراقي استهجن بشدّة هذا النوع من الدعاية السوداء، وتساءل كثير من الناس عن سرّ اهتمام القوى المتنفّذة الواقفة وراء هذه الحملات بالتصرّفات الشائنة المزعومة لبعض المرشّحات فيما هي تصمت تماماً حيال قضايا الفساد الإداري والمالي الفاقعة التي لا تهتّم الجيوش الإلكترونية بفضحها. وقد صرّح النائب السابق والمرشح في الانتخابات الوشيكة فتاح الشيخ منذ أيام بأن القضاء العراقي لم ينجح في حسم 13 ألف قضية فساد، مشيراً إلى أن الكثير منها «تورط فيها عدد غير قليل من المسؤولين العراقيين الذين جاءوا إلى دفة الحكم من خلال الكتل السياسية التي تعاقبت على حكم العراق في ثلاث دورات متتالية».
فضلاً عن السعي لتسقيط المنافسين وعرقلة وصولهم إلى البرلمان، فإن هذه الحملات هي في الواقع عملية لخلط الأوراق قبل حلول موعد الانتخابات وللتغطية على الفشل الذريع الذي حقّقته الأحزاب المتنفّذة (الإسلامية) في إدارة الدولة والمجتمع على مدى السنين الخمس عشرة الماضية. هذه القوى تسمع بآذانها وترى بأعينها التساؤلات الملحّة من عموم الناس عمّا فعلته هذه القوى، فثمة حملة قوية لعدم التصويت لصالح القوى المتنفذة وزعمائها تحت شعار «المُجرّب لا يُجرّب» الذي أطلقته المرجعية الشيعية، بل إن البعض دعا لمقاطعة الانتخابات بذريعة أن العملية الانتخابية الوشيكة لن تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الطبقة المتنفّذة الفاسدة نفسها. الأرجح أن نتائج انتخابات الشهر المقبل ستُظهِر أن حملة الدعاية المُبتذلة هذه، المكلّفة ملايين الدولارات، لم تكن مُجدية مثل العملية السياسية القائمة منذ خمس عشرة سنة.