23 ديسمبر، 2024 5:50 م

حجمُ جبل كان حزني ، تجولُ بي المصادفةُ في ساحة مجهولة لم ترمشْ بها عيني . خلقٌ كثرٌ تعجّ بهم . كنتُ لا أعرفُ أحداً ، لكنّي لم احسّ بغربة . واذا لم تخني ذاكرتني فقد كان المكانُ ساحة ًخالية من الشجر مُحاطٌاً بعدد من المباني ينتشرُ فيها عددٌ من الطلبة .أمرّ بهم ولا اعيرلأيّهم اهتماماً . استوقفتني فتاة ٌ يافعة ، بل وقفتْ في طريقي وبادرتني :
– في أيّة كلية أنت ؟
هززتُ لها رأسي :
– لا أعرف ُ ، أنا لستُ من هنا .
ابتسمت وغادرتني ، وسمعتُها تهمس مع نفسها :
– قالوا : مجنونٌ ، لم اصدّقهم .
هل أنا مجنون حقاً ؟ .
كنتُ أدور بلا هدى ، فجأة ً امسكتْ بيدي يدٌ ووجدتُني أمضي معها . كانت أمرأة ً أكبرَ مني سنّاً ، أدخلتني في بوّابة ، ومضينا عبرَ ممرّ طويل . وما أن تجاوزنا أربعة أبواب حتي ولجنا الباب الخامس . نعم كنتُ في قاعة امتحان . هدوء يعمّ ، والطلاب / بنات وبنون / منشغلون بالكتابة . اجلستني المرأة في مكاني المخصص لي . رأيتُ اسمي على الورقة المُلصقة على الجهة اليمنى من طبلة الكتابة . تركتني صاحبتي ، جاءت احدى المراقبتين ورمت أمامي ورقة الأسئلة ودفتر الآمتحان ، وقلماً جافاً . وسمعتها تهمس في اذني :
– أمامك ساعة واحدة .
أيّة مصادفة سخيفة هذه ؟  فأنا لستُ من هنا ، ولا أعرف أيّ أحد .
كانت ورقة ُ الأسئلة تنطوي على سؤالات في النحو والبلاغة والنقد .وبسرعة اجبتُ عنها . أذكرُ أني كنتُ مدرّساً في مكان ما ، وقد درّستُ بضعَ سنين طلابي اللغة العربية . وقبل أن ينتهي أيّ طالب سلمتُ دفتري الى المراقبة وغادرتُ المبنى . لكنّ احدى المراقبتين خرجتْ من الباب ونادتني باسمي ، التفتُّ الى الوراء ورأيتُها تتبعني :
– لاتنسَ ، غداً في الثامنة يبدأ امتحان اللغة الإنجليزية ، فلا يُسمح للمتأخرين دخول القاعة .
هززتُ لها رأسي شاكراً . وصرتُ خارج المبنى .
ولا أذكرُ أني عدتُ الى ذا المكان ثانية . خارج الساحة سوقٌ تضج بخلائقه ، كنتُ احتاج أن التقي أحداً أعرفه فيدلّني على بيت يؤويني .
فجأة ً ناداني صوتٌ :
– استاذ أحمد .
كان المقهى ورائي على جهة اليسار ، وكانت فسحتُها الخارجية تنطوي على مناضد وكراس اغلبها مشغولة بروّادها . لقد رأيتُه ، اذن شيُنهي مشكلتي . كان يجلس مع رجل عُماني ، عرفته من عمامته الزاهية وثوبه الأبيض . وثمة الى جوارهما مقعد كما لو كان ينتظرني .
صافحتُهما وجلستُ على المقعد الشاغر . كان ابو غسان يتصفح كتاباً عرفتُ بعدئذ أنه ديوان شعر لصاحبه العماني .
ولم أكد استقرّ في مكاني حتى وضع النادلُ استكانة الشاي أمامي . وبشكل آلي حرّكتُ الملعقة . ورفعتها الى شفتي واحتشيتُ رشفة  ثّمّ ثانية واعدتها الى الطبق .
– إنّه شهاب الواصلي ، شاعرٌ وصديقٌ جاء الى هنا بناءً على دعوتي .
تناولتُ منه الكتاب ، كان عنوانه غريباً / اصابعُ الصبر /  وبسرعة تمكنتُ من قراءة 98  صفحة ، لم يستغرق مدى قراءتي سوى فترة تقليب الصفحات والنظر الخاطف في السطور .
– قرأتُها كلها .
– كيف ؟ سألني مستغرباً .
– لا أعرفُ ، لكني وجدتُني مستطيعاً قراءة أيّ كتاب في دقائق معدودة .
– الهي ، هذه موهبة فوق طاقة الكائن البشري .
لاذ كلنا بالصمت . لكني قطعتُ دابره :
– يا شهاب ، لك اسلوبٌ مميّزٌ وصورٌ غرائبية غير متداولة . ما أجملَ قولك : / شجَجتُ حجرَ الصمت فسال ماءُ صبره /… وفي مكان آخر تقول :/ لو عدتُ طفلاً لما غيّرت نهجي ، بل اعمّقُ فيه غاياتي / اذن، أنتَ راضٍ بما أنت عليه … لا اريدُ ازعاجكما ، لكن ما شدّني الى شعرك هذا الإقتصادُ في الكلام ، هذا الإيجاز المشحون بالمعنى والصورة . كثافة فيما تريدُ قوله وأنتَ مُمتليءٌ بمشاعر ، تغترفُ من قاعك العميق المُتماهي غرائببية ًغيرَ مُستهلكة  . لن انسى ما حييتُ حين تقول في ص 43 : / جئتُ أصنعُ عالماً آخر . لا يُذبحُ فيه الرأي والعقلُ / … وكذا : / كلُّ ما حولنا اشبه بشريط حلمي على حاشية المُجازفة /  بيدَ أنك في ص 81 تصدمنا  بالقول : / بشرٌ كالعقارب يقرعون كؤوس التناحر / فهل نحن الجالسين معاُ نقرعُ اقداح الخلاف ؟
– كلّ ما قلته سليم ٌ ، ولا يُمكنُ أن نتشابه ، ولكلّ منا خصوصية تميّزه عن سواه . مع ذلك لا ينبغي أن يتسعّرَ بينا عراك وتناحر يُؤديان الى تصفية الآخر . عموماً ، أقولُ : ما اسعدني وأنا اتعرّفُ اليك . ولولا أنك تتذكّر كل ما في الديوان لكنتُ أهديتك الكتاب ، وابعثُ آخر الى / ابو غسّان / .
وبادر صديقي سائلاً :
– تعالَ الى بيتي تستَطِعْ ان تمكث معنا بضعة أيام ، نتمتّعْ بصحبة بعضنا .
– نعم أنا غريبٌ هنا ، ٍسامكث ُ يومين معكما .
لا أكذبُ على أحد إنْ قلتُ : لقد اختفى المشهدُ برمته . وصارصديقى وصديقُه في خبر كان .  وفي صباح اليوم الثاني لم أكن لا في قاعة الآمتحان ولا لدن صديقيّ ، بل في بيت عاد اليّ من أيام طفولتي الاولى ، الفناء الواسع الحجري البلاط . وامي وجاراتها . لكني لا أذكر أكنتُ لم أزلْ طفلاً أم كنت في سنا سبعينياتي . ولأنّ طفولتي بصحبة امّي هي نفسُها تمرع في حنانها قبل أنْ يتخطفها الموتُ اللئيم الشرس الذي يتّمني وسلمني الى امرأة ابي وهي تقمع طفولتي ويفاعتي ثمّ الى دنيا جديدة عرّفتني بذاتي وحقيقتي  . اذن، لن اغادر هذا البيت ما دام رواقُ الحلم يتسعُ لقامتي ، ولْاشاركْ رفاق طفولتي في اللعب قبل أن يهرب بي حلمي الى احضان اليقظة …..