< الحديثُ هنا يقتصر على العراق ولا تمتد اطرافه شرقاً او غرباً , كما أنّه يتجرّد من اية اعتباراتٍ سياسية سواءً قبلَ او بعد الإحتلال > ..
يجدرُ بي هنا أن أجرّ الذاكرةَ جرّاً الى الأيام التي التحقنا فيها الى قسم الإعلام \ فرع الصحافة التابع الى كلية الآداب في جامعة بغداد , وهو القسم الوحيد لكلّ العراق , وكان العدد المقرّر للطلبة في هذا القسم 40 طالباً فقط , لكنه وازاء اعتباراتٍ واستثناءاتٍ خاصة ارتفع العدد الى نحو الضّعف , واستمرّ ذلك في سبعينيّات القرن الماضي , وربما الى الثمانينيات وما بعدها , وحتى استقلّ القسم واضحى ” كلية الإعلام ” قبل وقوع واقعة الإحتلال .
المقصودُ بهذه المقدّمة شبه التأريخية ! هو تبيان الحرص على الجانب النوعي للذين يتخصّصون في دراسة الإعلام < بأقسامه الثلاثة ” الصحافة , الإذاعة والتلفزيون , والعلاقات العامة > وبهدف ان يغدو استيعاب الطلبة اكثر واوسع بهذا العدد القليل المخصص لكلّ المحافظات , وخلافاً لكلّ الكليات الأخرى فكان على المتقدمين للدراسة الى هذا القسم أن يخضعوا الى اختبارٍ او امتحانٍ تحريري لمعرفة مدى قابلياتهم ومؤهلاتهم المعرفية التي تمكّنهم من دراسة الإعلام , وبلغَ الحدُّ حدّاً اكثر أنّ بعض اساتيذ القسم يصارحون الطلبة منذ البدء بالدراسة بأنّ قسم الإعلام هذا لا يُخَرّج صحفيين او رجال إعلام , وانما فقط يزوّد الطلبة “بالثقافة الصحفية ” , لكنَّ هذه العبارة الأخيرة كانت ثقيلة الوزن , فكنّا ندرس على مدى السنين الأربعة حسبما اتذكّر : < مادة التحرير الصحفي , علم الإتصال , الرأي العام , القانون الدولي , علم النفس الإعلامي , الحرب النفسية , الصحافة المتخصصة , ادارة المؤسسات الإعلامية , الصحافة العربية , تقنيات اعلامية , الإخراج الصحفي , الأنكليزية والأدب العربي , وموادٌ اخرى لا اتذكّرها > , ومن المفارقات الموضوعية أنْ في كل دورة تتخرّج لا يمتهن ولا يمارس ايّ من الخريجين للعمل الصحفي
إلا واحد او اثنين ممّن لهم ممارسات سابقة في الصحف او المستمرين فيها .!
ربما لا يعرف البعض من الجيل الجديد بأنّ خمسة صحفٍ يوميةٍ فقط كانت تصدر في العراق قبل الأحتلال , بالإضافة الى الصحف الأسبوعية وجرائد المحافظات , لكنه بعد ان وقع الغزو الأنكلو – امريكي بفترةٍ قصيرة انبثقت ” فورة صحفية ” اسفرت عن صدور العشرات من الصحف حتى تجاوز عددها المئة وخمسين جريدة , وبتمويلٍ امريكي فاضح ,ورافقه صدور العشرات من القنوات الفضائية , والغالبية العظمى لتلك المطبوعات تعود للأحزاب ولذوي المصالح السياسية الضيقة , وكانت جميعها تفتقد الى الكوادر الإعلامية المهنية والمتخصصة , وامسى الإعلام العراقي في أسوأ وأردأ احواله , ” وكما اشرنا من قبل ” أنّ الهدف من وراء هذا الكمّ الإعلامي هو لتشتيت الرأي العام العراقي , علماً أنّ العديد من تلكم الصحف قد تلاشت واختفت عن الأنظار .
عموماً , استمرّت عدوى رداءة الصحف في العراق الى يومنا هذا , وبأستثناء صحيفة او صحيفتين , فالجرائد الأخرى تفتقد الى القرّاء والزبائن ويجري تصريف معظم اعدادها على الدوائر الرسمية ومكاتب الأحزاب , علماً أن لا علاقة لذلك في امكانية قراءتها عبر شبكة الأنترنيت .
وبتدرّجنا البطيء ” المؤسف ” في الحديث عن الإعلام , نشير الى معلومة تتعلق بوزارة الإعلام السابقة او التي أمر بريمر بحلّها , ففي عام 2004 كتبَ السيد ” فريد ايار ” الأمين العام لإتحاد وكالات الأنباء العربية ” وكان موظفاً سابقاً في وكالة الأنباء العراقية ” وفرّ من العراق والتحق بصفوف المعارضة , حيث اشار الى أنّ السياسيين العراقيين المعارضين لنظام الحكم السابق , هم الذين طلبوا من الأمريكان حلّ وزارة الإعلام قبل حلول الإحتلال , وكان ذلك بحضوره في اجتماعات المعارضة في واشنطن .
قد يترآى أنّ الإبقاء على وزارة الإعلام السابقة هو أمرٌ يتعارض مع مفهوم الإعلام الحرّ , والحقيقة أنّ جزءاً من ذلك صائب , فبجانب أنّ مفردات وآليات الإعلام الحر في عالم الغرب لا تتناسب كلّ تفاصيلها في مجتمعٍ مثل العراق , وإنّ الغاء وزارة الإعلام قد افقد البلاد القدرات في مجال الرقابة على المحظورات الأعلامية – الأخلاقية المنتشرة في وسائلٍ عدّة , واضحى البلد مفتوحاً للذين يمارسون عمليات التبشير من كل الأديان , بجانب انتشار الكتب والمطبوعات ذات العلاقة بالتضليل الفكري وغسيل الدماغ , وكان الإفتقاد الآخر ” لدائرة الإعلام الخارجي ” في الوزارة المنحلّة , والتي من اولى مهامها ايضاح وابراز صورة العراق في الخارج والتعامل ميدانياً مع الصحافة العالمية عبر الملحقيات الصحفية في العديد من دول العالم , نكتفي بهذين المثالين لننجرّ مرةً اخرى نحوَ شبكة الإعلام العراقي التي تأسست بعد الأحتلال , وجرى محاصصتها بين احزاب الأسلام السياسي , ولم تكن تمثّل إعلام الدولة وانما فقط اعلام الحكومات ورؤساء وزرائها , كما لم يكن مسوّغاً لتقليد نظام اذاعة ال BBC وتشكيل مجلس أمناء ! من الساسة الذين معظمهم لاعلاقة لهم بالإعلام او من غير المستقلين , وما تصدره هذه الشبكة من مطبوعات او فضائيات محدودة فهي دون مستوى معظم وسائل الإعلام العربية على الأقل , وقد لا يعلم البعض أنّ اموالاً باهضة مخصصة لهذه الشبكة , وبلغت حدّاً أنّ الهيأة العامة للتقاعد رفضت اجراء وتمشية معاملات بعض متقاعدي الشبكة ممّن يبلغ راتبهم التقاعدي نحو ثمانية ملايين دينار , حيث لا يوجد ذلك في رواتب متقاعدي دوائر الدولة .!
الشبكة هذه المنغلقة على نفسها , والتي طالما تتسرّب اخبارٌ عن خلافاتٍ بين كوادرها , فكان من الأفضل لها تشكيل هيأة استشارية من الأكاديميين في كلية الإعلام ومن المتمرّسين العريقين في هذا الميدان , بدلاً من ” مجلس أمناء ” وهو مصطلحٌ غريب على الوسط الإعلامي في العراق . وفي الواقع فليس هنالك من غرابة في واقع هذه الشبكة في ظلّ الوضع السياسي القائم والقاتم , ولابدّ للمرآةِ أن تعكس صورة ما أمامها او مَن وضَعها .! , أمّا الآن فتكاد تظهر صورة أمل لخيطٍ رفيعٍ للتغيير في هذه الشبكة المتشابكة خيوطها مع بعضها .!