18 ديسمبر، 2024 10:56 م

اشكالية في التاريخ البلداني

اشكالية في التاريخ البلداني

“كويفة”
كتبت طالبة- في غضون رسالتها الماجستير- كلمة “كوفية”، وتقصد بها اسم مكان، وبعد التقصي عن مفردة “كوفيّة”، لم أقف عليها، وانما وجدتها “كويفة”. بيد أن اشكالية طفقت على سطح البحث، تحتاج الدراسة والتقصي، وتكمن في الاسم الذي نسبت اليه، أو أضيف لها. فوردت بعدة صيغ: ” كويفة ابن عمر “، ” كُوَيْفة عَمْرو”، ” كويفة عمر “. تنبثق على هذه الإشكالية سؤالات عدّة، منها: من ذا الذي نسبت إليه، بحسب ما ذكره المؤرخون وأهل اللغة، هل هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أو عبيد الله بن عمر ، او عَمْرو بن قيس، أو عَمْرِو بْنِ سَعْد، أو عمر بن سعد؟. وكيف سُمِّيت؟ وبأي حدث تاريخي استحقت تسميتها؟ هنا تعددت الأسماء وتعددت الأحداث، وتعقدت المشكلة.

الكويفة تصغير كوفة، موضع بقرب بزيقيا (قرية قرب حلة بني مزيد من أعمال الكوفة) (معجم البلدان). والتكوّف: التجمّع. قال ابن دريد (ت 321هـ): هَكَذَا يَقُول الْأَصْمَعِي (ت216هـ)، قَالَ: وَبِه سُمّيت الْكُوفَة، لِأَن سَعْدا لما افْتتح القادسيّةَ نزل الْمُسلمُونَ الأنبارَ فآذاهم البَقُّ فَخرج فارتاد لَهُم مَوضِع الْكُوفَة وَقَالَ: تكوّفوا فِي هَذَا الْموضع، أَي اجتمِعوا فِيهِ. وَكَانَ المفضَّل يَقُول: إِنَّمَا قَالَ لَهُم: كوِّفوا هَذَا الرمل، أَي نَحّوا رملَه وانزلوا. (جمهرة اللغة (2/ 970).

تشابكت أحداث عدة على هذا الموضع لتمنحه اسمه وقيمته التاريخية، بحسب القدم التاريخي: أحدها- يتقاسمها اهل اللغة والطبري، أما رواية الطبري (ت310هـ): فقال: “فَسَارَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ كُوَيْفَةَ عَمْرِو1 بْنِ سَعْدٍ، (تاريخ الرسل والملوك 3/ 579). وبعض اللغويين ، منهم ، ابن دريد (ت 321هـ): قَالَ:” والكُوَيْفة أَيْضا يُقَال لَهَا “كُوَيْفة عَمْرو”، وَهُوَ عَمْرو بن قيس من الأزْد، وَكَانَ كسرى أبْرَوِيز (590-628م) لمّا انهزم من “بَهْرام جُويِين” نزل بِهِ فقَراه وَحمله فَلَمَّا رجل الى ملكه أقطعه ذَلِك الْموضع”. (جمهرة اللغة 2/ 970). وتابعه : ابن سيده (ت: 458هـ): المحكم والمحيط الأعظم (7/ 150)؛ أبو عبيد البكري (ت486هـ) : معجم ما استعجم 4/ 1144 ؛ ابن منظور(ت710هـ): لسان العرب 9/ 312.

اشتهرت محاولة القائد “بهرام جوبين” لاغتصاب العرش الساساني، وفيها انهزم “كسرى برويز الثاني” “Khusrave Abharvezم (590- 628م) فخرج من المملكة السّاسانية، حوالي سنة 590، والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطيّ “موريق Maurice” ( -602582م) واستعان به، مما أتيح له الرجوع الى عرشه. اتفق المؤرخون المسلمون2 والمؤرخون الفرنجة 3على ذكر قصة “بهرام جوبين”، ومحاولة السيطرة على العرش الساساني. وكان

خروج “برويز” ، وترك العاصمة طيسفون عبر دجلة واختراق البادية حتى جاء الأنبار، ومنها ذهب إلى عانة “Anatha”، ومنها ذهب إلى “قرقيساء” حيث اتصل بالروم4.

ثانيها – ذكره البلاذري (ت279هـ): (فتوح البلدان 2/ 340) بسنده ، أنه: أقام المسلمون بالمدائن واختطوها ، وبنوا المساجد فيها . ثم إن المسلمين استوخموها واستوبؤها ، فكتب بذلك سعد بن أبي وقاص إلى عمر . فكتب إليه عمر أن ينزلهم منزلا غربيا . فارتاد كويفة ابن عمر . فنظروا فإذا الماء محيط بها . فخرجوا حتى أتوا موضع الكوفة اليوم فانتهوا إلى الظهر، وكان يدعى خد العذراء ، ينبت الخزامي والأقحوان والشيح والقيصوم والشقائق ، فاختطوها .

أختطت الكوفة في المحرم من سنة 17هـ ، بحسب الطبري( تاريخ 3/147)، ويبدو ان الدينوري (ت282هـ) يرى أنها أختطت بعد وقعة القادسية ، أي قبل هذا التاريخ، إذ قال: أقام سعد في عسكره بالقادسية إلى أن أتاه كتاب عمر ، يأمره أن يضع لمن معه من العرب دار هجرة ، وأن يجعل ذلك بمكان لا يكون بين عمر وبينهم بحر ، فسار إلى الأنبار ليجعلها دار هجرة ، فكرهها لكثرة الذباب بها ، ثم ارتحل إلى كويفة ابن عمر ، فلم يعجبه موضعها ، فأقبل حتى نزل موضع الكوفة اليوم ، فخطها خططا بين من كان معه ، وبنى لنفسه القصر والمسجد .(الأخبار الطوال ، ص 124). وذكره -أيضا- ابن حبان (ت354هـ) (السيرة النبوية وأخبار الخلفاء 2/ 472)، الثقات 2/212.

وبنظرة تلفيقية يتكور الرأي عندي، أنهم كانوا في الكويفة سنة 16هـ. وهذا تاريخ مهم -في نظري- تفرضه طبيعة الموضوع.

ثالثها- أنها تنسب الى عبيد الله بن عمر، ذكرها البلاذري :”كان عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قتل أبوه ، اتّهم الهرمزان ، ورجلا من أهل الحيرة – نصرانيا كان سعد بن أبي وقاص أقدمه المدنية معه ، فكان يعلم ولده والناس الكتاب والحساب، يقال له : جفينة – بالموالاة لأبي لؤلؤة ، فقتلهما وقتل ابنة أبي لؤلؤة ، فوقع بينه وبين عثمان في ذلك كلام حتى تغاضبا، ثم بويع عليّ فقال : لأقيدنّ منه من قتل ظلما . فهرب إلى الكوفة فلما قدمها عليّ نزل الموضع الذي يعرف بكويفة ابن عمر ، وإليه ينسب – ودسّ من طلب له من عليّ الأمان ، فلم يؤمنه وقال : لئن ظفرت به فلا بدّ لي من أن أقيد منه وأقتله بمن قتل . فأتاه الأشتر – وكان أحد من طلب له الأمان – فأعلمه بما قال علي ، فهرب إلى معاوية “. (أنساب الأشراف 2/294 ). وأكدها اليعقوبي (ت292هـ)، وأضاف:” وأكثَرَ الناسُ في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيد الله بن عمر ، فصعد عثمان المنبر ، فخطب الناس ، ثم قال : ألا إني ولي دم الهرمزان ، وقد وهبته لله ولعمر ، وتركته لدم عمر . فقام المقداد بن عمرو فقال : إن الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله . قال : فننظر وتنظرون . ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة ، وأنزله دارا ، فنسب الموضع إليه ، كويفة ابن عمر ، فقال بعضهم :

أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان (تاريخ 2/ 163).

هذه النسبة الى عبيد الله قال بها أغلب المؤرخين، نحو: الشيخ المفيد (ت413هـ) الجمل ، ص 95؛ الشريف المرتضى (ت436هـ) الشافي في الامامة 4/ 305؛ ياقوت (ت626هـ): (معجم البلدان 4/ 496) ؛ الصغاني (ت 650هـ): (العباب الزاخر 2/ 10)؛ ابن أبي الحديد (ت656هـ): شرح نهج البلاغة 3/ 61؛ ابن عبد الحق (ت 739هـ): مراصد الاطلاع على

اسماء الامكنة والبقاع (3/ 1189)؛ المجلسي (ت1111هـ): بحار الأنوار 31/ 225؛ الأميني: الغدير 8/ 132 ؛ محمد تقي النقوي: مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة 3/ 371؛ مرتضى العاملي: الصحيح من سيرة الإمام علي 16/ 192؛ حبيب الله الهاشمي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 16/ 242؛ باقر القرشي : حياة الإمام الحسين 1/ 360؛ محمد الريشهري: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ( ع ) في الكتاب والسنة والتاريخ 5/ 325 ؛ محمد مهدي الخرسان: موسوعة عبد الله بن عباس 2/ 161، 218.

بيد أن الطالبة اقتبست من مصدر مهم في البلدانيات، ألا وهو ياقوت (ت626هـ) ، قوله: “الكويفة : تصغير الكوفة، يقال لها كويفة ابن عمر ، منسوبة إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب” (معجم البلدان 4/ 496). تساءلت: كيف أشتبه على ياقوت الأمر؟، هل عبد الله بن عمر وصل الكوفة أم أخوه عبيد الله ؟. يبدو أن تصحيفا لاحد النساخ اعتور النص، فهو عبيد الله الذي قدم الكويفة، بقرينة الحدث الذي أضافه ياقوت في تكملة النص: “نزلها حين قتل بنت أبي لؤلؤة والهرمزان وجفينة العبادي “.

هنا يجدر السؤال: لماذا لم ينتبه اليه محقق كتاب ياقوت، وستنفلد1899 (F.Wustenfeld )، أحد المستشرقين الألمان الذين ضرب مثالا نادرا في تحقيق النصوص5 . غير أن الأنكى منه أن عالما لغويا كبيرا هو الصغاني (ت 650هـ) يقع في الإشتباه نفسه، بحسب ما نقله عنه الزبيدي (ت1205): ” كُوَيْفَةُ كجُهَيْنَةَ : بقُرْبِها أَي الكُوفَة ، ويُضافُ لابنِ عُمَرَ ، لأَنه نَزَلَها، وهو عبدُ الله بن عُمَرَ بنِ الخطابِ ، هكذا ذكره الصاغانيُّ “(تاج العروس 12/ 470)، ونقله عنه بلفظه، دون أن يسمّي مصدره، “البراقي” (تاريخ الكوفة، ص 126 ). الا أنني حينما راجعت نص الصغاني وجدته صحيحا يذكر عبيد الله، قوله: كُوَيْفَةُ: موضع قريب من الكوفة، يقال لها: كُوَيْفَةُ ابن عُمر؛ مُضافة إلى عُبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان نَزَلها. (العباب الزاخر 2/ 10).

نخلص الى أنّ المؤرخين والبلدانيين والعلماء جميعا غلب عليهم الإشتباه؛ ما عدا الطبري، إذ أن كيف تتم تسمية موضع، في وقت يسبق الحدث الذي سُمِّيَ به بحوالي 20 سنة، فمرور المسلمين عليها في أول الفتوح، واقترحنا سنة 16هـ، وإبعاد عبيد الله اليها في أخر الفتوح، وقبيل خلافة الامام علي سنة 36هـ؛ فكيف إذأً، والإشكال يبقى قائما.

لعل أول من انتبه الى الإشكالية، ومال الى رواية اللغويين، دون أنْ يعللها، هو الزبيدي (ت1205)، بقوله: كُوَيْفَةُ كجُهَيْنَةَ : بقُرْبِها، أَي الكُوفَة ، ويُضافُ لابننِ عُمَرَ ، لأَنه نَزَلَها وهو عبدُ الله بن عُمَرَ بنِ الخطابِ ، هكذا ذكره الصاغانيُّ ، والصوابُ ما في اللسان ، يقال له : كُوَيْفَةُ عمْرٍو وهو عَمْرُو بنُ قَيْس من الأزدِ ، كان أَبْرَوِيزُ لما انْهَزَمَ من بَهْرام جُورَ نَزَل به ، فقَراهُ ، فلما رَجَع إلى مُلْكِه أَقْطَعَه ذلك المَوْضِعَ .( تاج العروس 12/ 470).

ثمة إشكال في الإسم الذي أورده الطبري وابن دريد، فهو عند الأول: عمرو بن سعد، ولعله نسبه الى جده سعد. وعند الثاني: عَمْرُو بنُ قَيْس من الأزدِ، وللتحقيق إن ابن دريد كان

أكثر دقة، فقد ذكر النسب، وفيما أحسب، أنّ المقصود، كما أورده ابن الاثير: عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة بن شنين بن زيد بن سعد بن عدي بن نمر بن صوفة بن العاص بن عمرو ابن مازن بن الأزد وهم عباد بالحيرة، وهو أبو عبد المسيح بن بقيلة وقصته مشهورة مع خالد بن الوليد. (اللباب في تهذيب الأنساب 1/167). ومع كسرى برويز في ارساله الى خاله سطيح.( الصحاري (ت511هـ): الأنساب، ص: 178)

نتحصل أخيرا ، في حادثة وموضع يخصان المؤرخين والبلدانيين، أن اللغويين كانوا يتوخون الدقة في التسمية والتصويب أكثر من أهل التاريخ والبلدان. ولعل هذه الإلتفاتة تغني التحقيق الموضوعي، وتجلي غبار الوهم والاشتباه عن إشكالية مهمة في التاريخ البلداني.