18 ديسمبر، 2024 9:50 م

اشكالية الدور الايراني في العراق والمنطقة

اشكالية الدور الايراني في العراق والمنطقة

الحلقة الثانية

بعد ان بَينّا في المقال السابق ان الدور الايراني في المنطقة تقف وراءه نظرة استراتيجية كدولة وليس كنظام حكم وان هذا الدور مستمر في حضوره وليس منقطعا. نحاول في هذه الحلقة ان نعالج الاستفهامات الاخرى القائمة على هذا الدور.ولنبدأ بالسؤال هل كانت ايران تحمل افكارا توسعية فقط ولم تحولها من من القوة الى الفعل ام الامر غير ذلك؟ من يرجع الى تاريخ المنطقة في زمن الشاه محمد رضا بهلوي سوف يجد ان ايران ليس حاضرة في العراق فقط عبر دعمها لجهات معينة سواء كانت كردية او غيرها ولا داعي لللاسهاب في هذا لكثرة حضوره في الذهنية العراقية, بل يجد المتابع ان ايران كانت حاضرة بوجود عسكري مباشر في سلطنة عمان وتشارك بكل قوة في قمع ثورة ظفار وبطلب من السلطان العماني قابوس ووصل الاف الجنود الايرانيون الى السلطنة واخمدوا الثورة. وتشير احصاءات قدمت في حينها ان ايران وحدها خسرت اكثر من الفين جندي بين قتيل وجريح في حملة اخماد الثورة ومن هنا للقارئ ان يعرف حجم الوجود الايراني المباشرهناك. اما الخليج فكان البحرين يجري عام 1970 استفتاءا بالاستقلال او الانضمام لايران بعد الانسحاب البريطاني, ومجرد وجود مثل هكذا استفتاء بغض النظر عن النتيجة يكشف حجم الوجود الايراني في البحرين والخليج. ومن جهة اخرى كانت ايران تدخل جزرا ثلاث ويستقبلها شقيق حاكم الشارقة بنفسها. هذه الجزر التي كانت دوما تسعى للسيطرة عليها منذ بداية القرن العشرين وبمحاولات عسكرية مباشرة وتحقق لها ذلك اخيرا بالانسحاب البريطاني والاتفاق مع حكام الشارقة لقاء ترتيبات من بينها ترتيبات مالية حين لم يكن هناك من وجود لدولة اسمها الامارات. ودور ايران في حلف بغداد المركزي في الخمسينات يظهر ان ايران كانت لاعباً كبيرا ومهما. ظلت ايران في هذا الحلف الذي تغير اسمه الى الحلف المركزي بعد انسحاب العراق منه بعد ثورة تموز 1958 ولم تنسحب منه الا بعد انتصار الثورة الايرانية 1979. ويضاف لكل هذا العلاقات المتميزة مع الكيان الصهيوني الذي كانت تقاطعه ليس الدول العربية وحسب بل كثير من دول العالم حتى ان عضويته في الاتحادات الرياضية الدولية تم نقلها من اسيا الى أوربا لان كثير جدا من الفرق الآسيوية كانت تمتنع من اللعب ضده مما سبب إحراجا في كثير من المناسبات القارية وبالمقابل كانت ايران تقيم علاقة متميزة مع اسرائيل. الدور الايراني كان كبيراً جدا وكان يشكل خطراً حقيقيا على العراق ودوّل الخليج وعلى دول المواجهة العربية بدعمها لاسرائيل العدو الرئيسي للدول العربية آنذاك. وكان التنسيق بين ايران واسرائيل لا يقف عند حدود معينة، الامر امتد لكل النواحي سياسيا وثقافيا وعسكريا. وعندما نقول الخطر الايراني فلم يكن الامر مجرد إشاعة إعلامية بل كان واقعا يجسده دور شرطي الخليج الذي يقوم به الشاه وجيش تابع له كان يعد من أقوى الجيوش بالعالم. ومع كل هذا الدور والخطر الحقيقي في محاولة بناء الامبراطورية التي أقام لها شاه ايران احتفالات خرافية في بداية السبعينات عند قبر كورش، بل وأصبح التقويم الايراني مرتبطا بهذا الحلم الامبراطوري. ومع كل ذلك لم تَر الولايات المتحدة الامريكية في ايران خطراً ولم تفعل كذلك دول الخليج والانظمة الاخرى المرتبطة بامريكا. بل كانت العلاقات على افضل ما يرام وكان شاه ايران يحظى بمراسم استقبال ذات حفاوة شديدة عندما يزور هذه الدول مع ان ايران الشاه هي من احتلت الجزر التي تطالب بها الان الإمارات وليس ايران اخرى. اذن لم يكن لا هذا الدور ولا الحلم الايراني هو الخطر على امريكا والغرب واتباعهم من العرب بدليل دعم امريكا العسكري الكبير للجيش الايراني حتى قيل انه كان لكل ثلاثة جنود إيرانيين مستشاراً أمريكياً وكانت كل الأسلحة المتطورة تحت إشراف أمريكي مباشر وهذا الامر تحديداً سبب مشكلة كبير ة للإيرانيين بعد ١٩٧٩ فقد وجدوا أنفسهم امام كم كبير من سلاح لا يعرفون استعماله. بعد ان انسحب جيش المستشارين المدلل وفق قانون خاص لمعاملته يستثنيه من محاسبة القانون الايراني على اي جريمة يرتكبها وتحول سادس الجيوش العالمية الى جيش بدائي لا يقوى على إيقاف الفوضى وانعدام الأمن الذي استشرى في الفترة اللاحقة لقيام الجمهورية الاسلامية وسقوط نظام الشاه.
اذا لم يكن هذا الدور الكبير والخطر لايران مدعاة قلق امريكا والغرب واتباعهم فما هو مدعاة القلق الامريكي اذن؟ هل هو النظام الديني الذي يحكم ايران الان ولم يكن يحكمها من قبل؟ وهل هي حرب بين العلمانية ودعاة فصل الدين عن السياسة وبين الاسلام السياسي وزج الدين في السياسة بنظرية ولاية الفقيه التي جاء بها الزعيم الايراني الراحل؟ وهل القضية هي قضية افكار دينية ونزاعات طائفية مذهبية كما يقول البعض؟ للاجابة سريعا على هذا التساؤل لنرى متى كانت امريكا تستشعر خطرايران قبل مجئ الخميني للسلطة؟
المرة الاولى حين جاءت امريكا بقوتها الاستخبارية واطاحت بحكومة مصدق كانت في عام 1951 بالتعاون مع المخابرات البريطانية في عملية اجاكس المشهورة واعادت بانقلاب الجنرال زاهدي, حكم الشاه الهارب الى العراق وقتها ومن ثم الى ايطاليا . اسقطت حكومة مصدق التي كانت تتمتع بتأييد شعبي جارف وحتى يومنا هذا يرسخ هذا التأييد في ذاكرة الشعب الايراني. مع ان مصدق لم يذهب خارج الحدود لا يمينا ولا يسارا وركز على الاصلاحات الاقتصادية الداخلية وانعاش الوضع الاقتصادي وامم النفط الايراني الذي كانت تستحوذ عليه بريطانيا. هنا لم يكن ما يقلق امريكا والغرب واتباعهم الدور الايراني التوسعي ولا تأثير الدين وقادته على الوضع السياسي, بل شئ اخر. فمصدق هو قائد حقيقي لثورة مدنية تعيش حتى اللحظة في وجدان الشعب الايراني, ولم يعرف عنه الانحياز الديني بل ان مدنيته هي التي دفعت زعماء الدين للتخلي عنه, وكان احد اسباب سقوط حكومة مصدق هو تخلي زعماء الدين عنه بسبب مدنيته وتعاونه مع اليسار اوتبني اليسار له. ومات مصدق في الاقامة الاجبارية بعد صدور احكام قضائية ضده.
ومرة اخرى من قبل مصدق استشعرت بريطانيا خطر ايران وتدخلت لتغيير النظام الحاكم وكان ذلك في ابان الحرب العالمية الثانية حينما تعرضت ايران للغزو واحتلت القوات الروسية والبريطانية اجزاءا من ايران واطاحت بشاه ايران رضا بهلوي عام 1941 ونفي الى الهند ثم مورسيوش واخيرا جنوب افريقيا ولم يجد مدفنا له الا في مصر حين رفض استقبال رفاته.
في هذين المرتين تدخل الغرب بكل قوة وكبح الجماح الايراني ولم يكن في المرتين السبب هو الحلم التوسعي الايراني ولا بسبب الدين بل لاسباب اخرى هي التي تدفعه لمواجهة ايران الاسلامية الان وسنوضح هذا في الحلقة القادمة.
يتبع……..