19 ديسمبر، 2024 1:53 ص

اشكالية الدور الايراني في العراق والمنطقة

اشكالية الدور الايراني في العراق والمنطقة

الحلقة الاولى

من الإشكاليات الكبرى في الوضع العراقي على وجه الخصوص والوضع الاقليمي بشكل عام هو الدور الايراني. والدور الايراني اصبح محوراً جليا للصراع في المنطقة منذ اندلاع الثورة الايرانية في خريف 1978 وبعد الإطاحة بنظام الشاه في شباط 1979. والبعض يظن ان النظام الديني الجديد في ايران هو سبب هذه الفوضى الكبيرة في المنطقة, وانه فقط بالخلاص من هذا النظام الجديد ومن الطبقة الحاكمة فيه التي تعتمد على الدين وإحلال نظام علماني بديلا عنه سيجلب الخلاص والامان للمنطقة بشكل عام وللعراق بشكل خاص. وان المشكلة كل المشكلة هي في الدين السياسي الحاكم وفِي مفهوم تصدير الثورة الذي تبنته طبقة حكام ايران ما بعد ١٩٧٩, واننا لو ساعدنا امريكا وحلفاءها بالقضاء على هذا النظام الشرير فسوف نتخلص من كل الشرور التي جاءت بها هذه العمائم المزيفة التي تستغل الدين لأغراضها السياسية الخاصة.
السؤال هل حقا الأمورهي فعلا هكذا وهل انها بهذه البساطة التي تطرح, ام ان لها مسارا اخرا؟ وهل ان هذا هو المنطق العقلائي الذي لو تبنيناه فسوف نحل به الجزء الاكبر من المشكلة, ام انه منطق خاضع لتشويش اعلامي وعوامل اخرى تسبب له كثير من الضبابية في الرؤية والفهم؟
لنحاول تفكيك المسألة ومناقشتها بهدوء بعيدا عن الصخب الاعلامي وثقافة الكراهية المستعرة في اوساط المتابعين للشأن العام.
لنبدأ اولا في هذه الحلقة بالسؤال هل ان ايران تبحث عن نفوذ خارج حدودها ام لا؟ والجواب بكل سهولة مما لا شك فيه ان ايران لا تبحث عن نفوذ خارجي وحسب بل ان لها نفوذ خارجي فعلي. وهذا النفوذ الخارجي ليس نابعا من فراغ ولا شهوة حاكم معين, بل هو يخرج من مسألة استراتيجية أساسية في بناء الدولة الايرانية. وهذه المسألة تتلخص في ان ايران ترى نفسها دولة كبرى في حجمها السكاني ومساحتها الجغرافية ومواردها الطبيعية والبشرية، اضافة الى عمقها التاريخي الحضاري. فايران ترى نفسها دولة قائمة على تاريخ طويل ممتد لحقب طويلة متواصلة وليس منقطعاً كما في دول اخرى في المنطقة، وحال ايران في ذلك حال تركيا التي لديها نفس الشعور القومي والثقة الكبيرة بحجمها. ولذا فان التحركات الإيرانية والتركية على حد سواء يغذيهما هذا الشعور والاعتداد بالنفس، فالإيراني دوما يرى ايران كبيرة الحجم والقوة سواء كانت شاهنشاهية قاجارية او بهلوية او صفوية او إسلامية تحت حكم ولاية الفقيه والمرشد الأعلى. كما ان التركي يرى تركيا عظيمة سواء كانت خلافة عثمانية او علمانية اتاتوركية او تحت حكم الرجل القوي اردوغان وتوجهات حزبه الاسلامية حزب العدالة والتنمية. ولذا من يلقي نظرة بسيطة على تاريخ الدور الايراني والتركي في المنطقة يجد ان هذا الدور لم يقف أبداً عند حدود البلدين الحالية. ورغم كل التغيرات في هوية نظام الحكم في البلدين الا ان هذا الدور لم ينحسر ولم يتوقف رغم كل الانقلابات الجذرية في هوية ادارة البلدين. ولنركز على ايران بعد ان عقدنا المقارنة مع تركيا فقط لتوضيح حقيقة دور الدول القائمة على قضية استراتيجية وليس على شأن متعلق برغبة حاكم ما. ايران كانت مصدرا لمشاكل كبيرة للعراق بدولته الحديثة التي تأسست في 1921, فقد كانت إيران هي الدولة الوحيدة التي امتنعت عن الاعتراف بالمملكة العراقية، ولم تغير إيران موقفها إلا عام 1929. وقد حدثت الكثير من المشاكل الحدودية والنزاعات بين البلدين خصوصا على شط العرب المنفذ المائي التجاري الاهمية القصوى بالنسبة للعراق اكثر من ايران. ولذا عقدت اكثر من اتفاقية لحل هذه المشاكل اخرها اتفاقية الجزائر الشهيرة التي انهت اكثر حقبة من التدخل العسكري الواسع الذي قامت به ايران بدعمها للمعارضة الكردية المسلحة في العراق والذي فجر حروبا اهلية طويلة في العراق قضى على كم كبير من الضحايا من الطرفين سواء من الجيش الحكومي او المعارضة الكردية. ولعل من يبحث في التاريخ قليلا يرى انه في ابان الحرب العالمية الاولى طلبت ايران رسميا من روسيا القيصرية في شباط 1915، تقديم مقترح إلى بريطانيا على شكل عقد أسموه بـ”اتفاقية شكلية” بين إيران وبريطانيا العظمى تتنازل فيها بريطانيا بموجب بنود هذه الاتفاقية عن منطقة بغداد والمدن المقدسة وهي ليست النجف وكربلاء وحسب بل تشمل سامراء ايضا لإيران. بل وطالبت في عام 1919 في مؤتمر باريس للصلح بمناطق اخرى من الموصل واعالي الفرات. هذا الطلب يؤشر حدود التفكير الايراني في العراق ونظرته الى ما يظن انها مصالحه الاستراتيجية وان لم يتحقق هذا الطلب عمليا لكنه لا يفقد اهميته لمدى عمق النظرة الايانية للعراق. وهذا ليس تفكير نظام الملالي كما يتحدث البعض الان, بل هذه خطوات عملية موثقة كلها جرت تحت حكم الاسرة القاجارية التي اطاح بها رضا بهلوي مؤسس الدولة البهلوية والذي استمر به الشاه البهلوي الذي اطاحت به هو الاخر بريطانيا فيما بعد ومكنت ابنه محمد رضا اخرشاه يحكم ايران من استلام الحكم خلفا له بعد مخاوف من انحياز والده لهتلر ابان الحرب العالمية الثانية. ومن هذا نرى ان الدور الايراني في العراق لم يتوقف لا في زمن الصفويين ولا في عهد القاجاريين ولا في حقبة البهلويين. فلماذا يتوقع المراقب ان يتوقف هذا الدور في زمن الاسلاميين وولاية الفقيه؟ أليس من السذاجة اذن ان يعلق الدور الايراني على اسم حاكم ما او هوية نظام امسك بزمام السلطة في ايران؟ انها مصلحة استراتيجية لبلد يرى نفسه كبيرا كما ترى ذلك الدول الكبرى في المنطقة مثل تركيا ومصر الى اخر زمن عبد الناصر قبل ان يتلاشى الدور والاعتداد المصري بعد الانقلاب الجذري في سياسة الدولة من وصول السادات الى يومنا هذا وتحول مصر من دولة رائدة قوية في عهود الخديوي والملكية وجمهورية ثورة يوليو الى دولة تابعة منذ زمن السادات والاستسلام لاسرائيل. هذا الدور تراه ايضا لنفسها الدول العظمى عالميا مثل امريكا وروسيا وبريطانيا وتعتبر ان لها مصالحا استراتيجية في المنطقة وهي التي تبعد الاف الكيلومترات عن المنطقة. واذا كان بالامكان فهم مصالح هذه الدول واطماعها ففهم الدور الايراني والتركي اسهل بكثير من فهم مصالح هذه الدول البعيدة. واذا كان للتدخل الخارجي له مقبولية عند بعض المحللين والمهتمين بالشأن السياسي وتبريره بسبب او اخر فيمكن لمحللين اخرين تبرير الدور الايراني او التركي او اي دولة كبيرة في المنطقة بسهولة اكبر فلا يعقل ان يقبل ان لدول غريبة عن المنطقة ان تكون لها مصالح استراتيجية ولا يقبل لدولة في المنطقة ان يكون لها مصالح استراتيجية. طبعا هنا لابد من التأكيد ان هذا ليس لشرعنة التدخلات الاقليمية في المنطقة او تبريرها. فكما نرفض التدخلات الخارجية نرفض ايضا التدخل الاقليمي. انما الرفض لابد ان يكون قائما على بناء استراتيجي وفهم موضوعي وليس شعارات فارغة لا تأخذنا الا الى مزيد من التبعية والضياع.
هذه مقدمة تمهيديد لمحاولة توصيفية لدوافع التحركات الاقليمية من دول المنطقة في المناطق الرخوة والهشة مثل العراق والشام والخليج التي لا تمتلك وجودا حقيقيا للدولة التاريخية والكبيرة فكل دول هذه المناطق هي دول حديثة ضعيفة انشأت بموجب اتفاقية رسمت حدودها ولم يكن لاهل هذه الدول اي دور فيها بل جرى الاتفاق بعيدا عنهم ولم يؤخذ اي رأي لهم فيه لا من قريب ولا من بعيد.
يتبع……

أحدث المقالات

أحدث المقالات