23 ديسمبر، 2024 6:11 ص

اشتراطات النثر وارتطام الأجنحة

اشتراطات النثر وارتطام الأجنحة

بدأ القاص ” محمد سهيل أحمد” شاعراً،و نشر قصائده في الصحف البصرية-العراقية ، ثم توجه لكتابة القصة القصيرة. عام 1964تقاسم مع القاصين”محمد خضير ومحمد عبد المجيد” الفوز بمسابقة ملحق جريدة “الجمهورية” الثقافي الخاصة بالقصة القصيرة(*). أصدر مجموعته القصصية الأولى (العين والشباك) – 1985- مطبعة الرسالة- الكويت، وحظيت باهتمام بعض النقاد العرب والعراقيين. أما مجموعته القصصية الثانية “الآن أو بعد سنين”- دار الشؤون الثقافية- وزارة الثقافة – بغداد- فصدرت بعد (30 ) عاماً على صدور مجموعته الأولى. “محمد ” كاتب قصة يتقن الصنعة، وقصصه مشحونة بالتوتر، والسرد لديه يخضع لمعارفه وقدراته وخبراته المتراكمة في التكنيك الفني عند كتابته للقصة القصيرة ، وهو لظروف خاصة به ، لم يأخذ مكانه الطبيعي بين القصاصين العراقيين خاصة الذين بدأ مسيرته معهم. “محمد سهيل” في القصة القصيرة ينحو،كأي قاصٍ جادٍ ،ويحس بمسؤولية ما يكتب ويطرح أمام القراء، إلى ثلاث مراحل، نرى إنها : برق الالتماعة الأولى أو الانبثاق ، والخزن الذي قد يطول أو يقصر زمنياً،ومن ثم الاشتغال والمعالجة. نلاحظ التبدل الجوهري الذي طرأ على الخطاب السردي الذي ميز مجموعته الأولى ، حيث كان أسيراً للحالة الشعرية التي أطرت بداياته الثقافية، ومن هنا عمل على توظيف شخوص مجموعته الأولى مع إضاءة بعض هذه اللحظات شعرياً، وذلك عبر النفس الغنائي الوجداني، وهذا النزوع طبع معظم قصصها ، عدا قصة “يوميات فراشة ملونة” الذي كان مكثفاً مكتنزاً بالوقائع اليومية- القاسية و التي اكتنفت حياة طالبة مدرسة – ابنة دلالة سلع تحيطها الشائعات- إضافة إلى اعتماده في الاشتغال ،بقصته تلك،على آليات التقطيع والسيناريو السينمائي، ما أهل قصة (فراشة ملونة) لأن تتحول إلى فيلم تلفزيوني عُرض في الفضائية العراقية أواخر التسعينات، وخضع لبعض التغييرات التي كان لابد منها في ذلك الزمان،وقد أخرجه المخرج”فائز الكنعاني”. نلاحظ إن المجموعة القصصية “الآن أو بعد سنين”، تنحو باتجاه منظور علائقي ظاهراتي تميز بالتماثل والتضاد والانسجام والتنافر والقبح والجمال . ثمة ثمانٍ من قصصها دارت أحداثها في الدول العربية:” الكويت والأردن وليبيا”. وقد انصاع، القاص (محمد سهيل)، في قصص مجموعته، لاشتراطات النثر بكل ما يتوفر فيه من
خشونة وتحفرات وارتطام الأجنحة التي تمتلكها الشخصية القصصية بوحول الثرى،من ناحية لغته السردية التي لا تفتقد للعاطفة ، أو تتنكر للرؤى التي تخضع للتوجهات الفنية واشتراطاتها، وكذلك طبيعة شخصياتها ،من الناحية السايكلوجية – الاجتماعية. في (الآن وبعد سنين ) نرى ، بوضوح، إن “محمد ” يهتم جداً بالمتلقي، مهما كان مستواه الاجتماعي ، وتوجهاته الفكرية- الحياتية ، و بدت شخوص قصصه ، خليطاً من أصناف عدة، وتنتمي جميعها إلى قاع العالم الاجتماعي منها: خادمات من سيلان والباكستان ، سوداني يعمل في مزارع الزيتون الليبية يُتهم بإغواء فتاة قاصر ، ونماذج أخرى مُنسحقة بيد إنها تحيى، عبر أحلامها الخاصة، واقعاً آخر ، مرفهاً وباذخاً. تتسم الشخصيات القصصية، في “الآن أو بعد سنين” بشرائح تبدو سايكولوجيتها مركبة، بحكم تباين عوالمها. ومنها قصص: امرأة بلون الشاي(ص75) و البانكوكيات (ص97) وثلاثة طوابق(ص103)،و أخرى غيرها ، وقسم من القصص لا يتجاوز صفحة ونصف الصفحة. بعض شخوص ((الآن وبعد سنين)) مقتربات لشخصيات حقيقية التقاها “القاص” وتعايش عبر علاقات خاصة معها ، وأخرى سمع عنها وعن الأحداث الغرائبية التي أطرتها ، ومنها الطاهر النقي الذيل، وبعضها الآخر المدنس، و لم تخلُ ،القصص، من الجانب ألابتكاري في رسمها وما خضعت له من وقائع صادمة . (( الآن وبعد سنين)) تكشف أن القصص ليست في الاختلاق من عدمه، فما أكثر الشخصيات المبتكرة التي تخلقها ذائقة أو رغبات القاص، أي قاص. نلاحظ أن القصص الأربع الأولى تدور إحداثها في الشمال الإفريقي،وكل نص من النصوص الأربعة يعمل على رسم صورة شخصية محورية تتحكم بالحدث أو يتحكم هو بها ، وتتميز بغرائبية أفعالها ، ولا اعتيادية هواجسها فقصة “مملكة الرجل الوحيد”(ص5 ) تتناول مدرس مصري يعاني الوحدة والحرمان الجنسي فيداوي آلامه بمراسلة أعداد كبيرة من الفتيات، يعشن في مدن افريقية وآسيوية، ما يقوده بالتالي إلى الوقوع تحت براثن الروتين ، إذ يخصص ركناً سريا لسجلات رسائل العشق، الواردة والصادرة. أما قصة “دوار الريح”(ص13 ) فهي نص غنائي النبرة تتوزع أحداثه بين عالمين متباينين : عالم الريح والرمل في الجانب الليبي وعالم ريح الصبا وسط حاضرة اسمها (تونس) العاصمة . وتنتهي الحكاية حين يتحقق للسارد،البطل، ما يريد : البحث عن امرأة لكنه يفقدها من جديد؟!. قصة ” أحلام خفاش” (ص23 ) تتناول مدير مدرسة يقلب المدرسة التي يديرها إلى ما يشبه القلعة المغلقة ويبدو شخصياً أشبه بسجان: ” تتدلى من كمر بنطاله عشرات
المفاتيح” ، ويعد النص صورة كاريكاتيرية مريرة لطاغية مستبد يمثل الصورة المصغرة لطغاة ووحوش السياسة والتوجهات والممارسات (التوتاليتارية) في كل مكان من هذا العالم، وخاصةً في عالمنا العربي. أما قصة “خبز وجمر”(ص37 -72) فهي مطولة وقد بذل القاص فيها جهداً كبيراً لضغطها كي لا تتمدد ، باتجاه الرواية القصيرة ، وثيمتها حكاية مطاردة لشاب أفريقي يعاني قدراً من النظرة الدونية في قلب بيته (أفريقيا السوداء ) إذ يتهم البطل( عثمان كومبو) بإغواء فتاة قاصر. وبعد أن يقبض عليه تنفذ فيه أبشع أصناف العقوبات؟!. ويعد النص لوحة لوسط مكاني يقع بين الساحل الليبي والواحة وما يدور في رؤوس رجال الواحة ، وما عرف عنهم عبر قناعات وتقاليد فيها قدر كبير من القسوة والعنف .أما تجربة القاص”محمد سهيل أحمد” الخليجية، وعمله وحياته هناك، فتضم أربع قصص أيضاً ، فكانت ،بعضها، ترسم لوحات سردية تتباين وتتماثل في آن معا: فقصة “الخروج من النقعة” (ص67 ) تروي عن شخصية بحار،خليجي، عجوز تخونه زوجته الشابة، بسبب عدم مقدرته على إشباعها جسدياً .أما قصة “البانكوكيات” (ص97 ) فهي نكتة شديدة الإيلام وإبطالها فئة من المتقاعدين المترفين الذين يسافرون إلى(بانكوك) بحثاً عن بقايا قوة علَ أعضاءهم الجنسية المتهالكة تجود بها!!.أما قصة “امرأة بلون الشاي”(ص86) فتتفرد بتناولها الغنائي أسلوباً، والإنساني اختياراً لشخوصه المكبلة بالتابوات والحرمانات الجنسية والوقوع تحت براثن الفقر والاستلاب ، وتتلخص بتعاطف يصل لحد عشق الراوي ،خادمة (سيلانية)، تدفع بها ريح الفاقة إلى عالم الدعارة العلنية . أما قصة “ثلاثة طوابق” (ص103) فهي متعددة المستويات ، وتحكي قصة فتاة عاملة في إحدى شركات الأثاث بـ(الكويت) يدعوها رب العمل إلى عالمه السري في الطابق السفلي لتكتشف أركاناً تضم مقتنيات مثيرة للفزع والاستغراب وتفر عائدة إلى الطابق الأرضي قاذفة بنفسها إلى بحيرة من الكرات الملونة في القسم الخاص بالأطفال.بقية نصوص المجموعة تضم عدداً من القصص القصيرة جداً ونصاً مطولاً واحداً هو “هدايا مارس”(ص150 ) تستظل جميعاً بعنوان واحد هو( سطوح). و يلتقي القارئ بقصص متفرقة وعلى النحو التالي : “فانتازيا حساء القش”(ص125 ) وهي من قصص الإدانة اللامباشرة إذ تشتغل على شخصية ( الأب ) الذي يطعم أبناءه حساء القش ليل نهار ، إنها استعارة تحمل مزيجا من الغرائبية والجنون عبر تناول أسلوبي يعتمد السرد الوصفي و الداخلي والغرائبية – الترميزية في آن معاً. أما قصص “من يقرع الباب ، و الأزرق الكبير، واسميك التايتانيك أيضاً ،
و أمام الشباك، ورحيل غالى السراب ، والحبل السري” (ص171- 199) فهي، بحكم ثيماتها وحجمها تقع ضمن جنس (القصة القصيرة جداً). و تعتمد الصورة الموحية ،أو الومضة ، من خلال تقنية تتشابه في تبنيها للغنائية المتقشفة والسرد الشاعري العبارة ، دون الوقوع في فخاخ المباشرة و التميع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)بعد تخرجه في قسم اللغة الإنكليزية- كلية التربية – جامعة البصرة، نشر تراجم عدة ، منها رسائل”رامبو” ، مجلة (الأقلام) حزيران1974،و رواية (أردابيولا) لـ (يفتوشينكو) 2014 – دار تموز- دمشق. نهاية السبعينات ولظروف شخصية غادر إلى (الكويت)، وعمل في صحافتها ، وأضطر للعودة بعد احتلالها ، وفي تسعينات الحصار، هاجر خارج العراق، وعمل في الصحافة الأردنية، ثم ذهب إلى ( ليبيا) لتدريس اللغة الانكليزية. بعد سقوط النظام، عاد إلى العراق وعمل محرراً في صحيفة “المنارة” نصف الأسبوعية، والتي كانت تصدر في البصرة، عن مؤسسة الجنوب للنشر والإعلام، وتوزع في كل أنحاء العراق، وبعض دول الخليج العربي. اختار (الصليب الأحمر الدولي) قصته ” متاهة الجندي” ضمن كتاب، صدر في بيروت عام 2007 باللغتين العربية والانكليزية،وحمل عنوان (جروح في شجر النخيل)، وضم (20) قصة لعدد من القصاصين العراقيين. ولـه مساهمات قصصية – بحثية في كتابي “المشغل السردي- البصري”- بقعة زيت، و ذاكرة المقهى. وقد صدرا ضمن “فنارات “مجلة (اتحاد أدباء وكتاب البصرة). كما صدر له عن اتحاد أدباء وكتاب البصرة،عام 2014 مجموعته القصصية الثالثة المعنونة ” اتبع النهر”.