استنساخ الكتب في زمن العتمة تجارة محفوفة بالمخاطر

استنساخ الكتب في زمن العتمة تجارة محفوفة بالمخاطر

في لقاء مع الروائي والكتبي السابق، الأديب حميد المختار، تحدث عن ظاهرة استنساخ الكتب، متطرقًا إلى بعض أنواع الكتب التي جرى استنساخها في زمن النظام المباد، مثل الكتب الادبية والمنهجية والدينية، إلى جانب كتب أخرى كانت تُطبع في بيروت وسوريا والأردن وغيرها من الدول العربية.
بدوري كنت من هؤلاء الكتبيين الذين يستنسخون بعض الكتب الثقافية والدينية، وهي ممارسة لم تكن تخلو من الخطورة، إذ حُكم على بعض الكتبيين بالسجن المؤبد أو لسنوات وأشهر بسبب تعاملهم في استنساخ الكتب وبيعها وتوزيعها. أتذكر الأماكن التي كانت تُباع فيها هذه الكتب، مثل شارع المتنبي، ومقابل مسجد الخلاني يوم الجمعة، وبعض الأسواق الشعبية كسوق مريدي والحي والداخل في مدينة الصدر. ولا أخفيكم سرًا، كانت هذه التجارة تدر أرباحًا مغرية، نظرًا لأن الكتب المستنسخة كانت نادرة وممنوعة من التداول.
واتذكر ذات يوم، كنت أبيع الكتب في سوق مريدي، حين اقترب مني شخص بدا مختلفًا عن المتبضعين، من طريقة لباسه وهيئته، فأحسست أنه رجل أمن. سألني: “كيف تبيع هذه الكتب؟” مشيرًا إلى بعض الكتب الدينية لمؤلفين إيرانيين. فأجبته : “هذه كتب أخلاقية، ولا تحتوي على أي محظورات سياسية”. ثم أشار إلى كتاب آخر وسأل عنه، فقلت: “فيه موافقة رسمية”. في تلك اللحظة، شعرت بالطمأنينة، وثقة نزلت على قلبي ورددت على كل أسئلته بثقة وبدون خوف أو تردد. بعدها أمرني بنبرة تهديد ان اجمع الكتب ومغادرة المكان فورًا. عندها، اضطررت إلى الامتثال، جمعت الكتب ورحلت، ونجوت بأعجوبة من الاعتقال.
من بين الكتب التي جرى استنساخها أيضًا الكتب السياسية، وكان السيد حيدر، صاحب مكتبة المجلة، معروفًا باستنساخ المجلات السياسية التي كانت تصدر في بعض الدول العربية وتهاجم النظام المباد. لكنه اعتُقل في كمين مدبر، كما اعتُقل عدد من الكتبيين في شارع المتنبي بالتهمة نفسها، مثل الدكتور عبد الحسين الساعدي صاحب مكتبة اللغة العربية، والأستاذ أحمد أبو محسن والشيخ فاضل الغزي والاخ جلال نوار وسلام وحسين أبو جعفر وصادق الصغير وصادق المعروف بالشيرازي ورحيم وغيرهم كثير. ولا ننسى حميد المختار، الذي سُجن أيضًا بتهمة استنساخ الكتب، إلى جانب المخرج بشير الماجد، والاعلامي عدنان الساعدي.
وهكذا، في زمنٍ كان فيه الكتاب جريمة، والفكر تهمة، والمعرفة طريقًا محفوفًا بالمخاطر، كان هناك رجال نذروا أنفسهم لحراسة الحروف وحملوا على أكتافهم رسالة التنوير رغم الظلام المخيّم. هؤلاء الكتبيون لم يكونوا مجرد باعة كتب، بل كانوا حرّاسًا للمعرفة، وسدنة للحقيقة، وأبطالًا مجهولين في معركة الصمت والإقصاء.
تحية لكل من قاوم العتمة بورقٍ مستنسخٍ وحبرٍ ممنوع، لكل من خاطر بحريته ليُبقي نافذة الفكر مشرعة رغم الأبواب الموصدة.
قد تُصادر الكتب، وقد تُحرق الأوراق، لكن الأفكار تبقى عصية على القمع، خالدة في العقول، متجددة في الأرواح. وسيظل الكتاب دائمًا نبراسًا يهتدي به من أصرّ على النور، ولو كان ثمنه حريته.