23 ديسمبر، 2024 7:03 ص

استلاب المعنى في رواية “الصورة الثالثة للروائي علي لفته سعيد

استلاب المعنى في رواية “الصورة الثالثة للروائي علي لفته سعيد

“البنادق تفتح الأفواه من جديد لنموت”
خوف وحذر  وذاكرة مأزومة. هكذا يحيا الإنسان العراقي بفعل الحروب المتكررة التي مزقت  كل صور الحياة في ذاكرتنا حتى تحول الواقع إلى صورة مقطعة الأطراف تشير الى  عجز تام أمام التحديات القادمة.. هذا ما يصوره لنا بطل رواية الصورة  الثالثة محسن(اننا نمسح زجاج الحياة مثلما يمسح العامل زجاج السيارة)

نحاول محو السائد المغبر بفعل الحروب الخاسرة دائما حتى لو كان هذا المحو عبر وهم المتخيل السردي الذي لطالما شكل لنا نافذة للهروب من وجع الحياة التي باتت المساحات المعتمة فيها تتسع وتزداد ضبابية وقسوة حتى غابت جميع صور الأمل.
يرسم علي لفته سعيد لوحته السردية بالحبر والدم لتكون شاهدا على ما حدث ويحدث من تدمير ممنهج للحياة، رواية”الصورة الثالثة”الصادرة عن دار فضاءات لعام (2015).
يفتتح الكاتب الرواية باستهلال شعري تصويري يكشف حجم الوجع البشري منذ كلكامش والى حد يومنا هذا  (عندما كوّن الآلهة البشر خصوا البشرية بالموت وحفظوا الحياة بين أيديهم.)
تدور أحداث الرواية حول قاص أتعبته الحروب المتكررة فقرر ان يكتب رواية عن حجم الدمار والوجع الذي تخلفه الحروب لتكون شاهدا للأجيال القادمة على قبح وقسوة هذه الحروب التي أنهكت الجميع بما في ذلك صديقته الوحيدة سلوى التي تعرف عليها في إحدى الأسواق لتكون خلاصه الوحيد من بشاعة الحياة في بلاد تتناسل فيها الحروب كتناسل الجرذان لكنه يكتشف فيما بعد أن هذا الملاك والخلاص هو أيضا مصاب بلعنة الحرب حين يكتشف سر غياب زوجها الذي كانت تحبه ولكن بفعل الحروب المتكررة التي تصنعها السلطة لقمع وإخصاء الإنسان العراقي يفقد عضوه الذكري، ما يدفع سلوى للبحث عن بديل خارج إطار الزواج الشرعي فتلتقي ببطل الرواية الوحيد لتجده أكثر وجعا من زوجها فتقرر الانتحار تاركة خلفها سؤالا لم تجد له إجابة شافية فحواه ما جدوى العيش في ظل الموت المتربص بنا؟ ورواية لم تكتمل سطورها بعد (سلوى..أرجوك، افتحي عينيك لتكملي الحكاية)ص202.
يبدأ الكاتب أحداث روايته على لسان بطله محسن المحمل بأعباء الواقع (كان الوقت بطيئا مما ساعد تناسل الخيبة) ص9 لكن سرعان ما تتغير صيغة هذه الخيبة من كونها فعل نفسي فردي مؤقت الى بعدها الاجتماعي العام الموزع على كل أشكال الحياة وهو ما يعطي لهذه الخيبة عمقا وجوديا يظهر على شكل سؤال فلسفي مغلف بنمط نقدي غير مصرح به علنا، ما يعكس طبيعة سطوة الحاكم او السلطة في وقتها (الدم سيراق من جديد لأن في عروقنا دما كثير وجب تحويله الى نفط؟)ص80.
تقوم الرواية على ثيمة مركزية.. موضوع الرواية الذي يتشكل من خلاله سرد الاحداث التي يسعى الكاتب الى تكسير حواجز الصمت المطبق حول الكثير من الانتهاكات البشرية التي أنهكت العراقيين جميعا،وهي ثيمة الحرب كصورة من صور القتل الممنهج لكل أنماط الحياة.. لكن هذه الصورة رغم بعدها الواقعي القبيح، إلا ان الكاتب استطاع وبحرفية عالية من سحب صورة الحرب من مجالها التدميري العنيف المباشر الى بعدها النفسي والإنساني غير المباشر، اي المسكوت عنه والمغيب خلف همجية الواقع اليومي المعاش.. وذلك عبر المتخيل السردي الذي يتيح للكاتب إعادة إنتاج الحياة عبر فضاءات السرد اللامتناهية.. لتأتي هذه المرة على شكل صورة امرأة منكسرة مسحوقة بويلات الحرب وتبعاتها النفسية.. لذلك يقوم بطل الرواية محسن من جعلها روايته التي يسعى لكتابتها وهو ما يجعلنا ندور في فلك رواية داخل رواية، تشكلان معا صورة لوجه الحرب المشوه والمهزوم من الداخل كصورة ثالثة، اذا افترضنا أن الصورة الأولى للحرب تنجز تحت شعار الدفاع عن الوطن، والصورة الثانية هي القصص التي تروى البطولة والموت في جبهات القتال، والصورة الثالثة هي ما بعد هذه الحرب.. ولكن ايضا نجد ان العنوان ارتبط ايضا كدلالة لمدلول إيحائي من جهة وواقعي من جهة أخرى وكذلك تأويلي من جهة ثالثة.. والعنوان (الصورة الثالثة) هو لزوج سلوى التي تسقط كل ما كان يتصوره محسن في الصورتين السابقتين لذلك تشكل الصورة الثالثة عند محسن الوجه غير المعلن لامتداد تأثير هذه الحروب على ما بعد الحرب وهو تأثير عميق للوجود الإنساني يعكس حجم الاستلاب لكل معاني الحياة السوية، وهو ما دفع الكاتب لاختيار عنوان روايته الصورة الثالثة مستعينا بطريقة (الميتا سرد) التي تجعل من زمن الحرب زمن حافل بالمفارقات، ففي الرواية الأولى او الأصل يروي الكاتب صورة الحرب وأثرها على الواقع اليومي للناس لذلك نجد فيها نقلا مباشرا للواقع بكل أوجاعه..جنود تقتل وتجوع وبطالة وقصف مدن وحرمان سياسي واجتماعي بحجة الدفاع عن الوطن الذي في بعده العميق هو دفاع عن الزعيم او الحاكم.. يتضح ذلك على لسان البطل (قلت لناهض وكان مهند معنا..إننا إذ نكتب علينا أن نجعل القارئ قريبا منا ليفهم أن تهشيم الحرب لا يوازي تهشيم النص)ص48، اما الرواية الثانية فهي رواية حلمية متخيلة لأنها تروي ما وراء هذه الحرب أي البعد الإنساني والجمالي الممزق بفعل سماسرة الحروب.. فكل شيء منتهك ومباح، أنها صورة النفس البشرية المهشمة نفسيا ووجوديا التي يرويها محسن عن سلوى وسبب خيانتها لزوجها الذي كانت تحبه قبل الحرب (وأنا أنتظر هذه الأوراق لأكتب فيها ما اسمعه وما أتخيله بين كلماتها يدعوني الى طرح الأسئلة)ص56. لذلك تسرد أحداثها بطريقة الاستشراف الحلمي أو كما يسمي جنيت هذا النوع الاستشراف الخارجي تميزا عن الداخلي التكميلي وهي الأحداث المكملة لصورة الحرب في الواقع المعاش في الرواية الأولى ولعل ابرز خصيصة في رواية الحلم او المتخيل هذه، كون المعلومات التي يقدمها السارد لا تتصف باليقينية وهذا ما يجعل من الاستشراف شكلا من أشكال الانتظار لما هو قادم، عكس السرد الاستذكاري الذي بدأت به الرواية وهو ما يعزز من دور الميتا سرد داخل الرواية،(هذا الصمت جعلني أحاورك..أيعقل أن تترك مثل هذه الفاتنة كالوردة المتفتحة بين الجدران)ص57.
استخدم الكاتب أسلوب الاستعارة الصورية التي تعطي للصورة بعدا دلاليا ورمزيا أكثر منه واقعيا وذلك عبر شحن مخيلة القارئ بسيل من الإحداث المتقابلة والمتداخلة التي تتيح للتلقي مساحة تأويلية واسعة مثل المقاربة الصورية ما بين والد محسن الذي ينتهي بالمرض والموت بعد ان أتعبته ويلات الفقر والحروب حتى بات مسلوب الإرادة،وزوج سلوى الذي يعود من الحرب خاسرا لكل أشكال الحياة.. ولتأكيد رمزية هذه الاستعارة جاءت صورة الزوج، صورة مستلبة من كل هوية سوى هوية الانهزام والانكسار والصمت، وهو ما كشفته الصورة الثالثة له التي تصدم محسن وتجيب عن سؤاله المحوري.. كيف لرجل محارب ويقاتل في سبيل الواجب وله هذه الهيبة ان يترك زوجته تنتهك؟ ليأتي الجواب أنها الحرب كصورة تحمل في طياتها حقيقة الوجع والحرمان والذل الذي ينهك ويقمع وجودنا تقول سلوى لمحسن (ترك الرجل ملامحه الجديدة بين أصابعي، لذلك أردتك) ص130، للرواية بطل واحد وهو السارد كلي العلم وظيفته الوحيدة هي ان يكون شاهدا على حجم الدمار الذي تخلفه الحروب على شخوص روايته مهند، ناهض، سلوى، زوج سلوى فكل هذه الشخصيات تعلن تمردها في وجه الحروب.. لكنه تمرد لا يرتقي لحجم الانتهاك الذي تعرضت له.. لذلك تختبئ وراء وجعها.
المكان في الرواية هو مكان منعزل مثل شخوص الرواية الرئيسين فاغلب الأحداث تدور في أماكن مغلقة، السقيفة،وبيت سلوى مما انعكس على فضاء الرواية بشكل سلبي، استخدم الكاتب لغة وصفية تقترب ان تكون لغة شعرية مكثفة لتحفيز النص ومد زمن الرواية رغم كونه زمنا قصيرا هو يوم واحد يتسع ليكون ذا تفرعات مختلفة (البنادق وهو تفتح الأفواه من جديد لنموت) ص152،استطاعت الرواية من الولوج الى ما وراء ستار المجتمع والواقع لتثير أسئلة عديدة حول حجم الانتهاك النفسي الذي زرعته هذه الحروب في الإنسان العراقي المستلب بفعل السياسات الخبيثة التي تتبعها السلطة ضد شعوبها ((ثوان معدودات غيرت معنى أن يكون رجلا)ص175 تصنف الرواية ضمن تيار روايات الواقعية النقدية التي ظهرت وبقوة ما بعد التغيير والتي تتخذ من الواقع مجالا حيويا لنقد وتعرية كل أشكال السلطة التي أنتجت لنا هذا الواقع (وأنا في المستشفى عرفت، أنني لم أعد أنا..لقد شوهتني الحرب وتركتني رجلا لا يملك إلا اسمه))ص178.
وأخيرا، لقد تمكنت الرواية من تسليط الضوء على الأثر النفسي والاجتماعي الذي تخلفه الحروب والسياسات الخاطئة على الإنسان العراقي وحجم التهشيم والانكسار المصاحب له أينما حل او ارتحل، تهشيم بات يتغلغل في كل مجالات حياتنا المختلفة لذلك خسرنا وجودنا الإنساني وتمسكنا بوجودنا العدواني.