ترجمة – وليد خالد احمد
تأليف _ مجيد خدوري
في 3 تشرين الأول 1932 قُبلت عضوية العراق في عُصبة الأمم بصفته دولة مستقلة بتصويت اثنتان وخمسيين دولة عضواً. رافق قرار العصبة، وهو واحد من اكثر قراراتها سلمية في تاريخها، قرار انهاء الإنتداب، وعليه فقد رُفع العراق فوراً من بلد مُنتَدَب عليه إلى بلد كامل ذي مكانة دولية تامّة.
واعلن ايم. بوليتس M. Politis رئيس الجمعية، وهو يرحب بقبول العراق في العصبة، اعلن بالكثير من القناعة ان الحدث يشهد على قدرة العصبة على تحقيق نجاحات سلمية… التي، لولا العصبة… ربما ما كانت لتتحقق إلاّ بالعنف… وعليه فان العصبة… تبيّن بانها بموجب قواعدها فحسب، قد قدّمت في الحقيقة فرصة الوصول بالتطور إلى ما لا يمكن في معظم الحالات إلاّ عبر التطور.
وصرّح ايم. ييفيتتش M. Yevititch، ممثل يوغسلافيا المعتمَد انه بصفته مقرر لجنة القبول يشيد بانضمام العراق إلى العصبة، ويضيف ايم. ييفيتتش قائلاً انها لمصادفة محض ان يقع على عاتق بلد اتسم تاريخه الطويل بالنضال المرير في سبيل الحرية ليسهم بحصته المتواضعة بمهمة قبول انضمام المملكة العراقية إلى عصبة الأمم. ولعل ييفيتتش اضاف ان كلاً من العراق وبلاده كانا ذات يوم مقاطعتين معزولتين على جانبي الإمبراطورية الممتدة من البحر الأدرياتيكي إلى الخليج العربي، وانهما كانا قبل استقلالهما النهائي قد ضعفا في ظل طغيان الإدارة العثمانية. وكانت صربيا محظوظة بحيث نالت استقلالها في مؤتمر برلين (1878)؛ ولكن حين انفصل العراق رسمياً عن تركيا في مؤتمر لوزان (1923)، لم تعترف باستقلاله سوى قوى الحلفاء اعترافاً “مشروطاً” بخضوعه لوصاية الإنتداب حتى عام 1932، حين تحققت حريته الكاملة في نهاية المطاف. لقد كانت حقاً اكثر من انها محض “مصادفة”، كما صرّح ايم. ييفيتتش، ان تقع مهمة التوصية بضم مقاطعة عثمانية سابقة إلى عصبة الأمم على عاتق يوغسلافيا، وهي مقاطعة عثمانية سابقة اخرى.
استمرت عملية تحقيق مقاطعة عثمانية سابقة للإستقلال التام لمقاطعة عثمانية سابقة اخرى. فحين اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان بامكان عصبة الأمم ان تطالب اعضائها، باستثناء البلقان، باربع مقاطعات عثمانية سابقة في آسيا وافريقيا. اصبحت الآن ثمانية في هيئة الأمم المتحدة. هذه العملية، سواء أكان ثمة اسف عليها بصفتها تفكيكاً لإمبراطورية عظيمة أم جرى الترحيب بها بصفتها تطوراً تدريجياً للشرق الأوسط، فانها في الحالتين ظاهرة مهمة في تاريخ الشرق بأسره. ولم يكن الذي لاحظ انجاز هذه الظاهرة سوى روستو آراس Rüstü Aras، ممثل البلد الأم الذي رأس الإجتماع الخاص بجمعية العصبة في 26 مايس 1937، ورحّب بقبول مصر حيث “اكملت المراحل التطورية المتعاقبة بسلام وروعة”.
الحركة الوطنية العراقية بصفتها جزءً من الحركة العربية
نيل استقلال العراق الذي لم يرَه عالم 1932 الخارجي سوى تظافر ظروف مؤاتية سعيدة- قناعة بريطانيا بالمعاهدة مع العراق ورغبة القوى العظمي في اظهار امكانية تحقيق التغيير بوسائل سلمية ورغبة العصبة بزيادة عضويتها- كان في الحقيقة ذروة مفاوضات طويلة بين العراق وبريطانيا العظمى؛ ولم يكن استقلال العراق سوى عمل واحد في حركة اكبر من تحدي القومية العربية للإمبريالية الأوربية.
الحركة القومية العربية حركة حديثة نسبياً في العالم العربي. ظل العرب منذ مطلع القرن السادس عشر، يوم سقطت البلدان العربية تحت هيمنة الأتراك حتى نهاية القرن التاسع عشر رعايا خاضعين للسلطان العثماني. ووجد المتدينون العرب ابان الفترة الحميدية (1876- 1909) عزاءً روحياً تحت ظلال اوتوقراطية الخليفة الذي ادعى انه يحكمهم وفقاً لإسلوب الخلفاء المسلمين الأوائل. غير ان انتصار فكرة القومية الغربية في البلقان، الهب خيال الأعراق الأخرى الخاضعة للإمبراطورية. يُزعم ان القومية قد تتطور بسهولة بسبب الدعاية السياسية المضللة وسوء الإدارة؛ لكن هذا الزعم لم يصح في أي بقعة كصحته في ظل الإدارة العثمانية.
حين تولى الأتراك الجُدد مقاليد السلطة عام 1908، جذبت سياستهم التي سعت إلى تحويل تركيا إلى دولة دستورية حديثة المثقفين العرب، شأنهم شأن العناصر غير التركية في الإمبراطورية. إلاّ ان الأتراك الجُدد اثبتوا انهم اكثر تمسكاً بالقومية واقل حرصاً على الليبرالية مما كانوا يدعون، فشرعوا بسياسة التتريك التي هدفت إلى تحويل كل الأعراق غير التركية في الإمبراطورية إلى اتراك. فادى هذا إلى قطيعة بين العرب والأتراك. لم يكن القوميون العرب، حتى الآن، يطالبون إلاّ بحكم ذاتي تحت ظل السلطان خشية تمزيق الوحدة الإسلامية، ولكن موقف الأتراك الجُدد السلبي دفع القوميين العرب نحو مطالب اكثر تطرفاً بلغت اوجها في ثورة 1916.
كان زعماء الحركة القومية العربية، بصرف النظر عن مدى اهميتهم، اكثر عدداً من ان نذكرهم هنا؛ غير انه حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، تبلورت القيادة حول الشريف حسين، شريف الحجاز. ونهض كل ابناء الشريف حسين بادوار مهمة في متابعة الثورة العربية، ولكن الإبن الذي نهض بالدور الأكبر والأكثر اهمية كان نجل حسين الثالث، فيصل. فقد كان هدفه النهائي، سواء أكان جندياً في الصحراء أو قائداً قومياً في سوريا والعراق، مناصرة قضية العرب العامة.
وُلد فيصل قبل نهاية القرن القرن التاسع عشر بخمس عشرة سنة، ولهذا فقد كان مهيأً ليشهد الحظوظ المتقلبة للإمبراطورية العثمانية منذ الحقبة الحميدية. أُنشئ فيصل ليكون موالياً للسلطان عبد الحميد الذي كان يحكم الإمبراطورية بصفته خليفة المسلمين قاطبة والآمر الذي يدين بالولاء له كل المتدينين الأتراك والعرب. وعليه فان الشريف حسين، ابو فيصل، ووجهاء مكة الآخرون ما كانوا ليسألوا عن سلطة عاهلهم المقدسة. دُعي الشريف حسين إلى اسطنبول عام 1893 وبقي فيها خمسة عشر عاماً بصفته ضيف السلطان المنفي. وشهد ابناء حسين الذين تلقوا تربيتهم في العاصمة العثمانية صعود نجم الروح القومية التي مزّقت امبراطورية السلطان في خاتمة المطاف. ابان العقود التي تبلورت فيها الحركة القومية الوليدة لتصبح حركة واضحة المعالم، ظهر فيصل قائداً عربياً واعداً واكثر تميزاً بين القادة العرب المميزين في الحرب والسلام على السواء.
تبدأ قصة فيصل بصفته بطل القضية العربية بالصورة الدرامية الآسرة لإستيلائه على دمشق عام 1918. كان حتى ذلك الحين، محض منفّذ لأوامر ابيه بصفته احد القادة العسكريين بمساعدة الجنرال اللنبي General Allenby ومشورة تي. إي. لورنس T. E. Lawrence، بغية الوصول بالحرب المقدّسة على الأتراك إلى نهاية مكللة بالنجاح. بعد دخوله دمشق، أُختير فيصل قائداً للقوميين السوريين الذين كانوا يسعون إلى استرداد العاصمة الأموية متألقة كما كانت في الماضي.
أًرسل القائد الصحراوي الشاب الذي كان قد انهى مسيرته العسكرية تواً اثر توقف الأعمال العدائية ضد تركيا، إلى باريس ليمثّل أباه في مؤتمر السلام ويعرض تطلعات سوريا إلى الإستقلال. ربما كان فيصل، بصفته جندياً حقق انتصارات عسكرية حاسمة في ميدان القتال، يتوقع ان يحقق نتائج حاسمة مماثلة على طاولة المؤتمر. لكنه صُدم بالمساومات الصريحة غير المواربة على ما بدى له حقوق العرب غير القابلة للنقاش. ادرك ان العالم العربي، وبتحديد ادق، سوريا، اصبحت حجر شطرنج في لعبة القوى العظمى الدبلوماسية مع انها حليفة لتلك القوى. مثّل فيصل مطالب العرب بالإستقلال أمام مجلس العشرة، لكن ترتيبات سريّة عكست مطامع القوى العظمى في العالم العربي دمّرت القضية.
عاد فيصل إلى سوريا بذاكرة يصعب محوها عن تجربته الدبلوماسية في باريس. لم يكن متفاجئاً لأن بسالة الجندية كانت ماتزال حيّةً فيه. في خطاب القاه لدى وصوله إلى بيروت في (30 نيسان 1919)، نقل إلى شعبه نتيجة مهمته الدبلوماسية. صرّح قائلاً “ان الإستقلال التام لايُمنح ابداً، بل يُؤخذ”. لم يكن ما قاله مشجّعاً، لكن السوريين استوعبوا صدى الكلمات. حثّ فيصل ابناء شعبه على الوحدة ليتمكنوا من النهوض بدورهم الصحيح في تقرير مصيرمستقبلهم. وزعم ان مصير سوريا، وإن كان يعتمد على القوى العظمى بشكل أو بآخر، فانه لاينبغي ان تحدده تلك القوى حسب مشيئتها بالكامل. أدى هذا الموقف في النهاية إلى النزاع مع فرنسا، ذلك انه لا فيصل ولا فرنسا كانا مهيأآن لتقاسم السلطة في سوريا. غير انها كانت معركة بين شريكين غير متكافئين. في غضون بضع ساعات تشتّت قوات فيصل في ميسلون (24 تموز 1920) وضاع عرشه في دمشق إلى الأبد.
كما تنحّى عرش الأمويين المتزعزع جانباً ليتيح المجال لسلالة العباسيين الأكثر دواماً، كذلك فقد فيصل عرشه في دمشق ليجد عرشاً واعداً آخراً اقل تزعزعاً في بغداد. رأى البريطانون انه ينبغي ان يعتلي عرش العراق، لكنه ما كان ليقبله ما لم يقدمه له العراقيون انفسهم. ثم ان فيصلاً لم يكن مهيأً لقبول العرش الجديد تحت الإنتداب. وعد ونستن تشرشل Winston Churchill، وكان يومها وزير المستعمرات، فيصلاً ان تخضع العلاقات البريطانية مع العراق لمعاهدة تحالف. وعليه فان فيصلاً لم يكسب لنفسه عرشاً آخراً فحسب، بل كسب شروطاً اكثر فائدة مما كانت لتمنحها بريطانيا العظمى للعراق لولا فيصل. صحيح ان العراق كان قد وُعِد بحكم نفسه بنفسه، إلاّ ان بريطانيا لم تكن قد قررت أي نوع من الحكم ينبغي ان يُؤسس. كانت صدفة سعيدة ان يكون ثمة مرشّح متوافر ليعتلي العرش الشاغر. ولم يكن ثمة خيار افضل مما كان. فقد كانت حكومة فيصل العربية من وجهة النظر البريطانية تلبّي صخب القوميين العراقيين الغاضبين، ومن جهة فيصل، كان العراق يقدّم امكانيات جديدة للدفاع عن القضية العربية.
سياسة الملك فيصل
لم يأتِ مجئ فيصل إلى العراق بالإستقلال التام الذي توقعه هو والعراقيون مباشرةً. فقد تضمنت نسخة تشرشل من المعاهدة التي وعد فيصلاً ان تحلّ محل الإنتداب كل مضمون الإنتداب عدا شكله. تذمّر فيصل في ساعة يأس “هذا ليس نوع المعاهدة التي وعدني بها السيد تشرشل في لندن”. غير ان تجربة فيصل المريرة في سوريا علّمته درس عدم الإصطدام بالقوى العظمى في العراق. لن يستسلم مرة اخرى للقوميين المتطرّفين ابداً. وأكّد على ان موقف السوريين المتطرفين السلبي ادّى بالتأكيد إلى خسارة قومية فادحة. اعتقد فيصل في العراق ان من الحكمة قبول ما كان البريطانيون مستعدون لتقديمه، فيما يواصل الضغط في سبيل الحصول على المزيد من التنازلات تحت ظروف افضل. تبنّى فيصل سياسة يطلق عليها العرب مصطلح “خُذ وطالب”، أو بالمصطلح الغربي “الخطوة خطوة”. لم يُثبت منهج اللين هذا في العلاقات الأنكلو- عراقية انه اكثر فائدة للعراق فحسب، بل اثبت ايضاً انه الأكثر ملائمةً لنمط السياسة الإستعمارية البريطانية التي سمحت للبلدان التابعة لها بالتطور باتجاه حكم نفسها بنفسها بطريقة مسالمة بطيئة.
مع ان فيصلاً كان حاد المزاج ونافد الصبر، فقد تلقى المعاهدة يحدوه الأمل وامر وزراءه بتوقيعها في (10 تشرين الأول 1922). بيد ان ردود الأفعال المباشرة على قبول المعاهدة كانت خطيرة وكارثية حقاً. فقد سقط فيصل والبريطانيون على السواء في أعين سواد العراقيين. هوجمت بريطانيا لإنكارها عمداً حق العراق بالإستقلال، ونُدِّد بفيصل بصفته خائناً باع بلاده لينقذ جلده. اقتضى الأمر فيصلاً استنفار كل عبقريته في الإقناع ليُقنع الجمهور العراقي بجهوده الصادقة وسياسته السليمة.
علّمت معاهدة 1922 كلاً من فيصل وبريطانيا انها يجب ألاّ تكون اساساً دائماً للصداقة الأنكلو- عراقية. لم يكن الوطنيون العراقيون مستعدين لتقبّل أي خطة لاتتضمن الإسيتقلال التام والغاء الإنتداب. نُقِّحت المعاهدة عام 1923 ببروتوكول قلّص مدتها من عشرين عاماً إلى أربعة. وحلّت محلها في عامي 1926 و1927 معاهدات اخرى. ومع ان هذه المعاهدات لم تتقدم بالعراق كثيراً نحو الإستقلال التام، فانها بيّنت ان بريطانيا العظمى كانت مهيأة تماما لمنح العراق استقلاله تدريجياً.
في عام 1930 تم التوصّل إلى تسوية نهائية. فقد توصّلت معاهدة 30 حزيران 1930 إلى التوفيق بين طموحات الوطنيين العراقيين ومصالح بريطانيا العظمى الأساس. كانت هذه المعاهدة تتويجاً حقيقياً لجهود فيصل، اذ حققت للعراق استقلاله الناجز، لكنها تنازلت لبريطانيا عن مصالحها الإمبريالية الجوهرية. ندد المتطرفون في العراق بالمعاهدة، وندد بها الإمبرياليون في بريطانيا. ولكن البرلمان صادق عليها اخيراً تحت رعاية الجنرال نوري السعيد، رئيس وزراء العراق، واصبحت نافذة المفعول عام 1932.
حين قُبل العراق بصفته عضواً في عصبة الأمم، كان اسم فيصل يرتبط عن جدارة بالحدث الذي تكلم عليه كل الممثلين المعتمدين في جمعية العصبة مهنئين إياه “بالعمل العظيم الذي انجزه”. ايّد الجنرال نوري السعيد، رئيس وزراء العراق كل ما قيل عن سيادته وصرّح بأن “الإجلال والإحترام الذي منحته إياه هذه الجمعية العظيمة انما هو الإجلال والإحترام الذي يستحقّه”. وربما كان السير جون سيمون Sir John Simon، وزير الخارجية البريطاني، يعبّر عن رأي حكومة جلالته ملك بريطانيا حين صرّح في جمعية العصبة انه لولا “حكمة فيصل وتعاونه الدؤوب كان من المستحيل، مهما كان حسن نية القوة العظمى، ان تُنهي انتدابها على دولة العراق الناشئة في مدة لاتتجاوز الإثنتي عشرة سنة من التأهيل كما تأهل ليحتل مكانته كما يحتلها الآن بموافقتنا وتأييدنا جميعاً في رابطة عصبة الأمم”.
دور فيصل ملكاً وقائداً قومياً
لايدعي مؤلف هذا الكتاب وجوب تفخيم فيصل من دون تحفظات. ولا غاية هذا الكتاب تقديم صورة شاملة عن عمل فيصل، بل الغاية هي المراحل التي أثّرت على العراق بعد نيله استقلاله. ذلك ان نطاق هذا العمل يشمل المرحلة التي تبدأ بعد عام واحد من وفاة فيصل. كان دور فيصل في هذه المرحلة في غاية الأهمية، لأنه ارسى الأسس التي شاد عليها لاحقوه البُنية الحالية بهدي من انوارها. الفارق بين عراق اليوم وتوقعات فيصل له احد اهم جوانب تاريخ العراق الحديث.
لم يقدّر الشعب العراقي قيمة انجازات فيصل حق قدرها حتى وفاته. فحين طرقت انباء نهايته المفاجئة وغير المتوقعة مسامع شعبه، حدثت ردة فعل حتمية تثني عليه. استيقظ العراق بغتةً على ازمة قومية- القضية الآشورية- ليجد نفسه وقد غاب عنه قائده القومي القوي. اشر الحادث الآشوري، الذي سرّع بوفاة فيصل دون ريب، بداية اعجاب بفيصل لاتحده حدود في العراق. كان فيصل بالفعل مثل الكثير من ابطال التاريخ، لايُعبدون إلاّ بعد وفاتهم.
المبالغة بدور فيصل في بناء الدولة العراقية امر مستحيل. لابد ان نتذكر انه جاء عرش العراق بدعم البريطانيين، لكن الموافقة عليه، مع ذلك، تمت باستفتاء شعبي عام، وكانت ثمة فئات من السكان اما لم تُرِده أو لم تكن متحمسةً جداً له. غير ان فيصلاً ازداد قوة بمرور السنين. أسس حزبه الخاص وحظي بدعم شعبي متزايد لإدارته وسياسته مع كل خطوة يخطوها باتجاه الإستقلال. ومع انه كان شاباً لم يتجاوز السادسة والثلاثين من العمر يوم اعتلى عرش العراق، فان تجارب عقد حافل بالأحداث والوقائع قد انضجته. علّمه صراعه مع الفرنسيين في سوريا درساً عظيماً؛ واثبتت علاقاته مع البريطانيين في العراق انه بات دبلوماسياً مقتدراً ورجل دولة بعيد النظر اكثر مما كان يتوقع اصدقاؤه البريطانيين أو العرب.
اثمن ما كان لدى فيصل قدرته على الموازنة بين البريطانيين والوطنيين العراقيين. ادرك فيصل ان المساعدة والتعاطف البريطاني امر جوهري لحماية العراق بوجه جيران عدوانيين وللوصول بنظام الإنتداب إلى نهاية على حد سواء. واعتقد اعتقاداً صادقاً بقيمة الصداقة البريطانية، ورأى ان التوفيق بين المصالح البريطانية والمصالح العراقية ليس بالأمر المستحيل جوهرياً. وعليه فقد كان قادراً على تأمين التعاطف البريطاني مع تطلعات العراق الوطنية والسيطرة على العناصر الوطنية على السواء. لقد انتُقِد احياناً فعلاً لتشجيعه احزاب المعارضة ابتغاء الحصول على شروط افضل في مفاوضاته بشأن المعاهدة في بريطانيا. إلاّ انه صحيح ايضاً انه قيّد المتطرفين الوطنيين الذين لم يكونوا ليقتنعوا بأي معاهدة مع بريطانيا تخلو من الإستقلال التام. كان فيصل، حقيقةً، عامل تهدئة عظيم في العلاقات الأنكلو- عراقية، وتحسست الأوساط غيابه تحسساً عميقاً ابان ازمة 1941 حين وُضِعت المعاهدة مع بريطانيا على المحك.
فضلاً عما سبق، كان فيصل قادراً على كسب ثقة الوطنيين العراقيين. جمع حوله عدداً من الرجال المقتدرين المستعدين لخدمة بلادهم باخلاص. كان بعض هؤلاء الرجال من العراق اصلاًوخدموا في الجيش التركي ثم خدموا معه في الحجاز وسوريا. وحين انتقل فيصل إلى بغداد انتقل هؤلاء الرجال وبعض السوريين العرب معه. والحقيقة انه كان ثمة شيئ من الحسد الذي استشعره ساسة عراقيون آخرون ممن لم يكونوا مع فيصل اصلاً (لم يتخلَّ بعض هؤلاء عن الأتراك حتى سقوط تركيا)، وشكّلوا معارضة. لكن شخصية فيصل وقياديته سرعان ما هيمنت على جميع من حوله، واحترمه الكل، لكنهم لم يحبّوه. ولاحظ روبرت لانسنغ Robert Lansing وزير خارجية الولايات المتحدة “ما كان لأحد ان ينظر إلى الأمير فيصل دون ان يشعر شعوراً عميقاً بان ثمة رجل اختارته طبيعته ليكون قائداً للرجال، رجل كان جديراً ان يكون قائد رجال”.
ولم يكن فيصل قادراً على ضبط رجال المدن فحسب. ففي بلد كالعراق سبب فيه سكان المناطق القَبَلية الكثير من المشكلات للإدارتين العثمانية والبريطانية في ما سبق، كان الناس يحسّون بمسيس الحاجة إلى وسيط ما بين القبائل والسلطة المركزية. تفهم فيصل العقلية القَبَلية وعرف كيف يتكلم ويتصرف كالبدو، اذ كان هو نفسه قد امضى بواكير حياته وسنيّ حربه في الصحراء. كسب ثقة شيوخ القبائل في العراق، وتصرّف تصرف الوسيط بين ابناء القبائل وابناء المدن. غير ان سياسته تجاه القبائل كانت اكثر ايجابية من محض مطالبتهم بالخضوع للسلطة؛ تفهّم مشكلاتهم بعمق. وسعى في توزيع الأراضي واعادة تنظيم منظومة الري إلى توطين القبائل توطيناً نهائياً وتعويدهم على الزراعة.
اذ احتل فيصل هذه المكانة الفريدة في حياة بلاده، فقد ظهر دون ادنى شك، بطل هذه البلاد الذي لاينازعه منازع. صحيح انه كان محدود الصلاحيات بصفته ملكاً دستورياً، إلاّ انه بمماهاته ذاته مع حاجات العراق وتطلعاته، نهض بدور المصلح والملك المجبول على حب الخير الذي بوسعه الدعوة لإنعقاد مجالس الوزراء وفضّه وفقاً لإرادته. وقد انتُقِد فعلاً لتركيزه اكثر مايمكن من السلطات بين يديه، لكن تركيز السلطة هذا في بلد كانت الإنقسامات المحلية القديمة ماتزال قوية فيه، ربما كان امراً ضرورياً لضمان تقدّم العراق. وتبنى فيصل، فضلاً عن ذلك، موقفاً معتدلاً ازاء تحويل بلاده إلى النمط الغربي. لم يكن بامكان العناصر الدينية والعرقية المختلفة في العراق الواقعة بين نظام الكماليين الثوريين في الشمال والنظام البهلوي في الشرق والوهابيين المحافظين في الجزيرة العربية في الجنوب، ان تراقب انظمة جيرانها هذه دون مبالاة. اثبت فيصل الذي فضّل ان يتّبع منهجاً توفيقياً وسطاً في التغييرات الإجتماعية انه العامل المستقر الوحيد في عمل نظام حكم اوربي استورد إلى بلد لم يتيسّر له الزمن اللازم بعد لدمج هذه العناصر العرقية- الدينية المتباينة ببعضها.
آلية الحكومة
لعل مناقشة الخلفيات الإجتماعية والإقتصادية افضل وسيلة لفهم تنظيم العراق السياسي. لأن الماضي أورث عراق اليوم مشكلات اجتماعية واقتصادية عويصة أثّرت على عمل الحكومة تأثيراً كبيراً.
كانت السلطة السياسية في العراق (وفي الحقيقة في كل العالم العربي) تتأثر تأثراً كبيراً منذ العصور الوسطى بتركيبة المجتمع العربي الإجتماعية والإقتصادية. فانقسام السكان إلى سكان قبائل وسكان مدن من جهة وطبقة الحكام وطبقة المحكومين من جهة اخرى أدى بطبيعة الحال إلى التنافس الثنائي بين البدو والسلطة المركزية وبين الأوليغارشية الحاكمة والجماهير المحكومة.
بدايةً، كان ابناء القبائل يسكنون المنطقة الصحراوية من العراق، وكان الإقتتال شغل هؤلاء الشاغل. يوم كان الخليفة قوياً بما يكفي لشن الجهاد (الحرب المقدسة) على البلدان المجاورة غير المسلمة، كان ابناء القبائل يوالون السلطة المركزية فيوجهون فائض طاقتهم نحو العدو الخارجي، وكانوا يتلقون تعويضات جمّة من غنائم الحرب. ولكن يوم اخذت الفتوحات الإسلامية تراوح في مكانها، لم يستطع ابناء القبائل الهائجين ان يظلوا خاملين؛ بل اصبحوا مصدر تهديد جدي للسلطة المركزية، وغالباً ما كانوا ينقلبون على المدن. المشكل الذي غدا فيما بعد محطّ اهتمام كبير من لدن السلطة المركزية كان كيفية حماية المدن من غارات القبائل الدورية. كانت هذه المهمة ابان فترة انحدار العباسيين وابان حقبة المغول ايضاً متوارثة لدى السادة الإقطاعيين من شتى ادارات الولايات. كانت سياسة الأتراك العثمانيين منذ القرن السابع عشر حتى اواسط القرن التاسع عشر سياسة “سحق القبائل”ففاقمت التوتر بين سكان الحضر وسكان البادية من جهة وبين ابناء القبائل والحكومة المركزية من جهة اخرى. استمر الوضع هكذا حتى الشطر الأخير من القرن التاسع عشر حين شرعت الإمبراطورية العثمانية (ابان حاكمية مدحت باشا في العراق) بسياسة التوطين بتقديمها الأراضي لشيوخ القبائل لزراعتها. هذه السياسة الجديدة التي اعانت على مصالحة الشيوخ والسلطة وعلى “اضعاف” اتباعهم، قوّت سلطة ملاّك الأراضي ان لم تكن اعادت الحياة لها. فيما اسهمت سياسة الحكومة الوطنية العراقية اسهامةً كبيرة في توطين القبائل وتنظيم حركتها، فانها لم تستطع، لاسيما بعد وفاة فيصل، ان تسهم في تعاون شيوخ القبائل مع السلطة المركزية. فغالباً ما كان شيوخ القبائل، كما سنشير لاحقاً، ينتفضون على الحكومة دفاعاً عن حقوقهم الإقطاعية.
في المدن، كان سكان العراق منقسمين إلى طبقة صغيرة نسبياً، ولكنها غنية وجماهير واسعة بائسة مستَغَلّة. كان مئات الآلاف منهم، ولا يزالون، لايملكون بيوتاً ولا ارضاً وبلا مدارس، بل وبلا ممتلكات شخصية. وكان الجوع والمرض يهددانهما على الدوام. وكانت الفجوة بينهم وبين ملاّك الأراضي، وما تزال، من السعة بحيث لايأمل الذين في المستوى الأدنى بالوصول إلى الطبقة الأعلى منهم. ويعود سبب هذا نسبياً إلى الغياب الصادم للطبقة الوسطى المهمة، غير ان السبب الأساس هو بؤس الجماهير الأميّة التي تفتك بها الفاقة والمرض. أما السادة الإقطاعيون، فسواء أكانوا تحت الإدارة العربية أو العثمانية، فانهم يدعمون السلطة طالما كانت هذه تحمي سطوتهم ومصالحهم الواسعة. اصبح هذا الملف المهمل تماماً والقنوط من أي أمل في تحسين الأوضاع، مصدراً كبيراً لإضطراب النظام القائم في العراق. وغالباً ما انتفضت هذه الجماهير في الماضي تحت شتى الذرائع كالإختلافات الدينية والوطنية؛ أما اليوم فانها تحت تأثير جذب الدعاية الشيوعية. السبب الحقيقي لإضطرابهم هو ظروفهم الإجتماعية- الإقتصادية الباعثة على الأسى.
تلقت الحركة القومية العربية، التي ظهرت احتجاجاً على الإدارة العثمانية دعماً حماسياً من الطبقات الإجتماعية الدنيا لأن قادة هذه الحركة دافعوا عن قضية العرب ككل بوجه القهر العثماني. كان قادة هذه الحركة القومية الأكثر حماسة شباباً تلقوا تدريباً عسكرياً في اسطنبول وينحدر البعض منهم من أُسرِ فقيرة. أتت فعاليات ضباط الجيش أُكُلَها في تشكيل حكومات قومية؛ غير ان ضيق افقهم القومي، عندما كُلّفوا بحكم الشعب، ما كان ليتيح للشباب ذوي العقليات الأكثر انفتاحاً وليبرالية الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الأولى مشاركتهم السلطة.
انحدر وضع الجماعات المعتدلة والليبرالية في العراق نحو المزيد من اليأس وانعدام الأمل بسبب غياب الطبقة الوسطى التي تقع مصالحها بين ملاّك الأراضي والجماهير. صحيح انه في البلدان الزراعية بصفة عامة حيث يدوم الإقطاع مدة طويلة من المستحيل توقّع صعود سريع للطبقة المتوسطة. لكن سلطات الإنتداب التي كلفتها عصبة الأمم بتقديم المشورة إلى الحكومات العربية الأصيلة اخفقت في اعارة الجماعات الليبرالية دعمها، لأنها كانت مهتمة اساساً بالمحافظة على النظام العام باقل الكُلف المالية والأيدي العاملة وذلك بتجنّب الصدامات مع الجماعات المتنفذة. بل ان سلطات الإنتداب اعانت في الحقيقة، السادة الإقطاعيين على الجماعات المتوسطة والليبرالية. وكما ذكرت الآنسة وارنر Miss Warriner، وهي على حق “كانت سلطات الإنتداب في سوريا والعراق مجبرة على الإستناد إلى سلطة ملاّك الأراضي والشيوخ اكثر كثيراً مما فعلت الحكومة العثمانية”.
لكن هذه السياسة المحافظة للقوى الغربية اثبتت انها سياسة كارثية على كل من انجيلها الديمقراطي وعلى استقرار الأنظمة حديثة النشوء في العالم العربي. وحيث ان الجماعات المعتدلة والليبرالية اخفقت في الحصول على دعم كافٍ من طبقة اجتماعية متوسطة وليدة واشمئزازهم مما نددوا به بصفته سياسة القوى الديمقراطية “الرجعية”، فقد بدأوا بالتفكير بأن مستقبلهم يعتمد على كسب دعم الطبقة العاملة وتصنيف الناس.
استعملت الجماعات الليبرالية ونفر من الإنتهازيين شعار ظروف الجماهير في العراق ودافعوا عنهم بوجه الأوليغارشية الحاكمة وملاّك الأراضي. الأيديولوجية الجديدة التي الهبت مخيلات الجماهير، اذ وعدتهم بمستقبل اكثر اشراقاً، كانت الشيوعية. صحيح ان هؤلاء الناس لم يتمكنوا حتى من المبادئ الأساس لهذا المذهب، لكن الدعاية الشيوعية طمأنتهم انه، بكلمات ماركس، “ليس لديهم مايخسروه سوى اغلالهم”.
عاملت الحكومة العراقية هذا الوضع الخطير بمحض اعتقال قادة الحركة ومعاقبتهم، ولكن لم تُتخذ حتى الآن أي خطوة جادة لتحسين الظروف الإجتماعية والإقتصادية. تتيح هذه الظروف الفرصة للشيوعيين دائماً. ولعل بامكاننا ان نقول مايلي بصدد أُس المشكل: هل سيكون بامكان الحكومة أن تُقنِع أو تُجبر السادة الإقطاعيين على التنازل عن بعض امتيازاتهم لمصلحة الإصلاح الليبرالي؟ يبدو ان المستقبل اكثر فرقعة مما تتقبله الحكومة أو ملاّك الأراضي، ذلك انهم مالم يسمحوا بالتطور الإجتماعي، فلا مناص من ثورة اجتماعية.
كتابة الدستور
قبل دراسة تأثير الظروف الإجتماعية- الإقتصادية على عمل الحكومة العراقية، لابد من مناقشة وجيزة لأصل هذه الحكومة وطبيعتها وبنيتها.
حكومة العراق حكومة برلمانية، صِيغت بوعي، من حيث الشكل على الأقل، وفقاً لإنموذج حكومة المملكة المتحدة. كانت الخطوة الأولى بعد الإنتفاض بوجه الإدارة البريطانية تأسيس حكومة اقليمية (تشرين الأول 1920) تخضع لقيادة نقيب بغداد، عبد الرحمن الكيلاني. وكانت مهمة الحكومة الإقليمية اعداد الترتيبات الأولية قبل يتسنم العرش فيصل الذي اقتُرِح تعيينه للعرش في مؤتمر القاهرة (آذار 1921) وأيّده في العراق الإستفتاء الشعبي الذي جرى في تموز. نودي بفيصل ملكاً في 23 آب 1921، وأشرت هذه المناسبة بداية الحكم الوطني في العراق. ولكن مع ان الحكومة تأسست عام 1921 فان تنظيمها الدستوري لم يكتمل حتى عام 1924 حيث انتهت صياغة القانون الأساسي (الدستور) وقُدِّم إلى الجمعية التأسيسية للمصادقة عليه.
كانت الحكومة الدستورية أمراً مُتخيَّلاً احيانا قبل ان تُشكّل الحكومة العراقية. فالمادة 22 من ميثاق العصبة تنص على انه لايمكن الإعتراف بالمناطق المُنتدب عليها التي كانت عثمانية سابقاً كدول مستقلة إلاّ بشرط تقديم سلطة الإنتداب “المشورة والمساعدة الإدارية” حتى يحين الوقت الذي تكون فيه قادرة على الوقوف بذاتها، وقد اشار مشروع الإنتداب الأصلي على العراق الذي حلت محله معاهدة التحالف لاحقاً إلى حاجة العراق إلى دستور. وحين نادى مجلس السيادة بفيصل ملكاً على العراق (11 تموز 1921) كان قد تقرر وجوب ان تكون الحكومة “حكومة دستورية تمثيلية ديمقراطية، يحكمها القانون”. وصرّح الملك فيصل نفسه، عندما اعتلى العرش انه سيعلن دستوراً.
وعلى كل حال، فقد جسّدت المادة 3 من المعاهدة العراقية البريطانية في 10 تشرين الأول 1922 احكام الدستور الأساسية بنصّها على:
وافق جلالة ملك العراق على أن ينظم قانوناً أساسياً ، ليعرض على المجلس التأسيسي العراقي، ويكفل تنفيذ هذا القانون الذي يجب أن لا يحتوي على ما يخالف نصوص هذه المعاهدة، وأن يأخذ بعين الاعتبار حقوق ورغائب ومصالح جميع السكان القاطنين في العراق، ويكفل للجميع حرية الوجدان التامة، وحرية ممارسة جميع أشكال العبادة، بشرط أن لا تكون مخلة بالآداب والنظام العموميين، وكذلك يكفل أن لا يكون أي تمييز بين سكان العراق، بسبب القومية أو الدين أو اللغة، ويؤمن لجميع الطوائف عدم نكران، أو مساس حقها بالاحتفاظ بمدارسها، لتعليم أعضائها بلغاتها الخاصة، على أن يكون ذلك موافقاً لمقتضيات التعليم العامة التي تفرضها حكومة العراق، ويجب أن يعين هذا القانون الأساسي، الأصول الدستورية، تشريعية كانت أم تنفيذية، التي ستتبع في اتخاذ القرارات في الشؤون المهمة المرتبطة بمسائل المالية، والنقدية ، والعسكرية.
يُلاحظ ان المادة الآنفة لاتضع أسس وثيقة حقوق العراق فحسب، بل تضع المبادئ الأساسية التي تحكم اطارها الحكومي ايضاً. ولهذا فان المادة 3 من معاهدة 1922 علامة بارزة مهمة في تاريخ الدستور العراقي.
كانت كتابة القانون الأساسي (الدستور) ومناقشة احكامه من اعمال اللجان التي أعدّت لائحته اكثر مما كانت من اعمال الجمعية الدستورية. وسرعان ما تشكّلت في خريف 1921 لجنة من اثنين هما الرائد (الآن سير) هوبرت يونغ Hubert Young والسيد (الآن سير) ادون دراور Edwin Drawer بالتشاور مع السيد (الآن سير) نيغيل دافيدسن Nigel Davidson أعدّت اللائحة الأولى، مستلهمةً احكامه من دساتير استراليا ونيوزيلندا وغيرها.
فيما قبل الملك فيصل مبدئياً اللائحة الأولى، احالها إلى لجنة عراقية من ثلاثة اعضاء: ناجي السويدي، وزير العدلية، وساسون حسقيل، وزير المالية، ورستم حيدر، سكرتير الملك فيصل. اعترضت هذه اللجنة على اللائحة الأولى لأنها خصّت التاج بالكثير من السلطة. واعدّت اللجنة لائحتها هي، مستلهمةً احكامها الرئيسة من الدستور العثماني.
أُرسلت اللائحتان منفصلتان إلى وزارة المستعمرات في لندن، لكن اللجنتين اجتمعتا في ما بعد، ومن الواضح ان اجتماعهما كان بأمر من لندن، واعدّتا لائحة مركبة من اللائحتين. قُلّصت سلطة التاج في هذه اللائحة المركبة واصبح الوزراء بموجبها مسؤولين امام البرلمان، ولكن التاج مُنح سلطة التشريع بمراسيم (ارادات ملكية) حين لايكون البرلمان منعقداً. اعترض الوزراء العراقيون على هذه اللائحة. ولذلك فقد اعيدت اللائحة المركبة إلى لندن في شباط 1923. أيّدت وزارة المستعمرات وجهة النظر العراقية. ثم اعيدت اللائحة مع بعض التعديلات الطفيفة في نيسان 1923. أجريت بعض التنقيحات البسيطة الأخرى في بغداد وصادقت عليها وزارة المستعمرات، وانتهت كتابة القانون الأساسي (الدستور) اخيراً في خريف 1923.
كان على لائحة القانون الأساسي (الدستور) ان تنتظر انعقاد الجمعية التأسيسية قبل ان تُقدَّم للمصادقة. في 19 تشرين الأول صدرت ارادة ملكية (مرسوم) تأمر بالبدء باجراء انتخابات الجمعية التأسيسية في 24 تشرين الأول 1922. قاطع علماء (رجال الدين) الشيعة الإنتخابات وعارضوها اولاً، لكنها استؤنِفت في 12 تموز 1923، ثم اكتملت اخيراً في 25 شباط 1924. باشرت الجمعية التأسيسية عملها يوم 27 آذار 1924.
كُرس معظم عمل الجمعية التأسيسية لمناقشة معاهدة 1922 التي دامت شهرين ونصف الشهر. اما مناقشة القانون الأساسي (الدستور) فدامت شهراً واحداً بالكاد- من 14 حزيران إلى 10 تموز 1924. كانت لائحة القانون الأساسي (الدستور) قد احيلت في وقت مبكر، 10 نيسان 1924، إلى لجنة خاصة لم تعمل علاً جاداً على اللائحة اذ ان مناقشة المعاهدة بالكاد تركت وقتاً للتركيز على مسائل اخرى. وحينما انتقلت الجمعية فجأة وعلى غير توقّع إلى المصادقة على المعاهدة، بالكاد استطاعت اللجنة الخاصة ان تتفحص مايربو على ست عشرة مادة.
ربما امكن القول ان الجمعية التأسيسية لم تُجرِ تعديلات جوهرية في العموم. يُلاحظ انه في بعض المناسبات، بعد ان يتم اعتماد بعض المقترحات الجوهرية، كانت مقترحات مضادة تُقدّم للعودة إلى اللائحة الأصلية. ومن تلك المناسبات المقترح المتعلق بحل البرلمان بموافقة مجلس الأعيان. فقد ارتؤي ان لاتكون لمجلس الوزراء الحرية في حل البرلمان، فقُدم اقتراح بأن الحل يجب ان يكون فقط بموافقة مجلس الأعيان. تم اعتماد المقترح ووافقت عليه اغلبية الجمعية. اعيد تفحص المادة في جلسة لاحقة، فأعيدت المادة إلى ما كانت عليه اولاً. تمت الموافقة على بعض التعديلات، لكنها كانت تتعلق بمسائل صغيرة يتعلق معظمها بالألفاظ. قد يُقال ان القانون الأساسي (الدستور) اعدّته لجان مختلفة شُكّلت لتغطية الأعمال التحضيرية ووفرت فعلاً مقداراً كبيراً من وقت الجمعية التأسيسية وعملها. صادق الملك في 21 آذار 1925 على القانون العضوي ووقّعه، فاصبح نافذ المفعول فوراً.
اذا فُسِّر دستور العراق بمعنى انه يعني كل القوانين الأساسية التي تتناول اطار الحكومة وتوزيع السلطات وحقوق الشعب والتزاماته، فانه اكثر من محض وثيقة تُعرف باسم القانون الأساسي (دستور) العراق. كان العراق، ابّان حقبة الإنتداب، خاضعاًفي نهاية المطاف لهيمنة عصبة الأمم. وعلى هذا فان المادة 22 من ميثاق العصبة كانت القانون الأسمى للعراق وللمناطق الأخرى المُنتدَب عليها على السواء. وعليه، يمكن النظر إلى دستور العراق، من وجهة نظر تاريخية، على انه يتضمن اصولاً تعود إلى:
المادة 22 من ميثاق العصبة.
المادة 3 من المعاهدة العراقية- البريطانية في 10 تشرين الأول 1922.
المواد 30 إلى 36 من معاهدة لوزان (التي تتناول جنسية العراقيين)
القانون الأساسي في 21 آذار 1925.
المعاهدة العراقية- البريطانية في 30 حزيران 1930 (المواد المختلفة التي تتناول سياسة العراق الخارجية والسيطرة على الإتصالات الداخلية)
ضمانات عصبة الأمم.
القواعد والتقاليد الدستورية التي تطورت بالممارسة أو التي تم تبنيها من دساتير اجنبية وفق ما ذكرته المادة 124 من القانون الأساسي.
ليست الوثائق آنفة الذكر قوانين أو تشريعات اعتيادية بأي حال من الأحوال؛ انما هي قوانين “اساسية”، اذ ما من جهة تشريعية تتمتع بسلطة تغييرها بعملية تشريعية اعتيادية. انها قوانين لايمكن تغييرها من خلال قوانين اخرى، بل بالعكس، يجب ان تُسن القوانين الأخرى وفقاً لها. غير انه لابد من ملاحظة ان بعضاً من هذه الوثائق لاتتمتع اليوم إلاّ بقيمة تاريخية، لأن احكامها اما انتهى مفعولها أو حلت محلها قوانين اخرى عند تحرر العراق من الإنتداب عام 1932. ومن امثلم ذلك المادة 22 من ميثاق العصبة والمادة 3 من معاهدة 1922. فالمادة 22 من ميثاق العصبة لم تعد ملزمة منذ اللحظة التي اصبح فيها العراق بلداً مستقلاً. وانتهى مفعول المادة 3 من معاهدة 1922 حين حلّت المعاهدة العراقية- البريطانية لعام 1930 محلها. واُدمجت مواد معاهدة لوزان 30 إلى 36 في المادة 5 من القانون الأساسي (الدستور) (على النحو الذي حدده قانون الجنسية في 9 تشرين الأول 1924 وتعديلاته).
يُصنَّف الدستور العراقي ضمن ما يُسمّى “الدساتير المكتوبة”. فكل الوثائق التي يجسدّها الآن الدستور العراقي، على خلاف الدستور البريطاني، “مكتوبة”، أي انها شُرِّعت وصدرت في زمن محدد. الوثيقة التي تُعرف على انها القانون الأساسي (الدستور) هي الوثيقة الأكثر اهمية من كل السندات الدستورية. وافقت الجمعية التأسيسية على القانون الأساسي (الدستور) في 10 تموز 1924، لكنه لم يصبح نافذاً حتى 21 آذار 1925 حين وقّعه الملك واصدره رسمياً.
واخيراً فان الدستور العراقي دستور جامد مقارنة بالدستور البريطاني المرن، لأن تعديل احكامة غير ممكن إلاّ وفق اجراءات محددة. يقول دايسي Dicey “ان الدستور المرن هو الدستور الذي يمكن بموجبه لنفس الهيئة التي سنته ان تغيّر كل قانون أياً كان وصفه تغييراً قانونياً بنفس سهولة سنه” ويضيف قائلاً ان “الدستور الجامد هو احد القوانين التي لايمكن بموجبها تغيير بعض القوانين عموماً بالطريقة اتلتي تُغيَّر بها القوانين العادية نفسها”. وعلى أي حال فان جمود الدستور العراقي تضاءل قليلاً بادخال مادة في قانون التعديل الثاني حيز النفاذ الذي يجيز تبني أي ممارسة دستورية في أي بلد اجنبي بموجب قرار لجلسة مشتركة لمجلسي البرلمان ما لم تناقض القانون الأساسي (الدستور).
احدى نتائج دستور “جامد”، كما في الولايات المتحدة، هي وجوب تقسيم قوانين بلديات البلاد، وهي قوانين (داخلية) إلى قوانين اعتيادية وقوانين دستورية، وهذه الأخيرة تسمو دائماً على القوانين ا‘تيادية التي يجب ان تتفق معها. يُستخدم مصطلح “دستوري” دائماً في البلدان ذات الدساتير الجامدة بمعنى ان قانوناً ما يتفق مع احكام الدستور؛ فيما يعني مصطلح “غير دستوري” انه يخالف احكام الدستور. وتضع محاكم خاصة كالمحكمة العليا في الولايات المتحدة ومحكمة التمييز في العراق في البلدان ذات الدساتير الجامدة اجراءات تحديد ما اذا كانت القوانين دستورية أم لا.
حدد القانون الأساسي (الدستور) خطوات معينة للتعديل. فاستناداً إلى المادة 118 “يجوز لمجلس الأمة، خلال سنة واحدة ابتداء من تنفيذ هذا القانون، أن يعدل أياً كان من الأمور الفرعية في هذا القانون، أو الإضافة إليها… على شرط موافقة مجلس الأمة بأكثرية ثلثي الآراء في كلا المجلسين”. يمكن عدّ المدة المحددة في هذه المادة (أي من 21 آذار 1925 إلى 21 آذار 1926)، وهي المدة التي مُرِّر فيها قانون تعديل في 29 تموز 1925 مدة أقل جمود في الدستور العراقي. تعامل قانون التعديل في تموز 1925 مع مسائل ذات اهمية ثانوية من قبيل طريقة تعيين ممثل الملك ابان مدة غيابه خارج العراق، وتحديده مدة اربعة اشهر حداً اقصى لغيابه ما لم يقرر البرلمان خلاف ذلك.
في السنوات الخمس التي تلت نفاذ القانون الأساسي (الدستور) (أي المدة بين 21 آذاؤ 1925 و21 آذار 1930) لم يطرأ أي تعديل عليه اطلاقاً، ولهذا فقد كان في حالة جمود تام. ولكن يلاحظ ايضاً انه من الناحية العملية لم تكن سوى اربع سنوات مدة جمود تام، ذلك ان المادة 118 سمحت بتعديل المسائل الفرعية في غضون سنة واحدة من تاريخ نفاذه. انقضت مدة السنوات الخمس ايضاً ولم يظل عملياً سوى واحد من اجراءات التعديل.
منذ آذار 1930 بات بالإمكان تعديل القانون الأساسي (الدستور) وفق المادة 119 كما يأتي:
كل تعديل يجب أن يوافق عليه كل من مجلس النواب والأعيان بأكثرية مؤلفة من ثلثي أعضاء كلا المجلسين المذكورين، وبعد الموافقة عليه يحل مجلس النواب، وينتخب المجلس الجديد فيعرض عليه، وعلى مجلس الأعيان التعديل المتخذ من المجلس المنحل مرة ثانية، فإذا اقترن بموافقة المجلسين بأكثرية مؤلفة من ثلثي أعضاء كليهما أيضاً، يعرض على الملك ليصدق وينشر.
عُدِّل القانون الأساسي (الدستور) العرراقي عام 1943 بقانون التعديل الثاني في 27 ايلول. وستتناول الفقرات اللاحقة من هذا الفصل الأحكام الجديدة لهذا القانون طالما أُدخلت في نص الدستور. أما الظروف والإجراءات التي اعقبت عملية التعديل فسيتناولها بالكامل فصل لاحق.
أما المواد الدستورية الأخرى فانها، بسبب من طبيعتها الدولية، تُعدّل أو تُغيَّر عبر القنوات الدبلوماسية الإعتيادية باتفاق الأطراف المعنية.
النظام الملكي
علينا ان نتذكر ان تأسيس النظام الملكي في العراق سبق كتابة القانون الأساسي (الدستور). وقد قررت هذا النظام التقاليد العربية والدعم البريطاني للأسرة الهاشمية والنظام الملكي. وحدد تصريح للحكومة المؤقتة في 11 تموز 1921 وجوب ان تكون مَلَكيّة العراق “دستورية وتمثيلية وديمقراطية”. واكد القانون الأساسي (الدستور) على وجوب تأسيس المَلَكيّة، لكنه اضاف “السيادة للأمة، وهي وديعة الشعب للملك فيصل بن الحسين، ثم لورثته من بعده”. “فإذا انتقل العرش إلى من هو دون هذا السن، يؤدي حقوق الملك الوصي الذي اختاره الملك السابق، ذلك إلى أن يبلغ الملك سن الرشد”. وعلى البرلمان مصادقة هذا التعيين. “فإذا لم يوافق البرلمان على ذلك، أو إذا لم يعين الملك السابق وصياً، فالبرلمان هو الذي يعين الوصي”. لم يكن جلالة الملك فيصل الثاني قد بلغ سن الرشد عند وفاة الملك غازي في 4 شباط 1939، وعليه فان صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله الذي عُيِّن وصياً، سيظل وصياً حتى يبلغ الملك فيصل الثاني رشده عام 1953.
“الملك مصون وغير مسؤول”. وهو رأس الدولة الأعلى والقائد العام للقوات المسلحة. يصادق على القوانين ويأمر بنشرهاويشرف على تنفيذها. وله ايضاً أن يعلن الأحكام العرفية، وفقاً لشروط القانون الأساسي (الدستور). ويصدر الأوامر باجراء الإنتخابات العامة ودعوة البرلمان. وله افتتاح البرلمان أو فضّه أو تأجيله أو حلّه. وحين لايكون البرلمان منعقداً، وتنشأ الحاجة إلى حفظ النظام أو ضرورة صرف اموال لم تسمح الموازنة أو قانون خاص بصرفها أو لتنفيذ التزامات تفرضها معاهدة، يصدر الملك مراسيماً بموافقة مجلس الوزراء توجّه باتخاذ الخطوات اللازمة وفقاً للظروف. ولهذه المراسيم قوة القانون شرط ألاّ تناقض احكام الدستور، ووجوب تقديمها امام البرلمان في اولى جلساته.
يختار الملك رئيس الوزراء، ويعين الوزراء الآخرين بناءً على توصيته. ولم يجرِ اختيار الملك (أو الوصي) لرئيس الوزراء عملياً إلاّ بعد مشاورة عدد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين. وللملك، وفقاً لقانون التعديل الثاني لسنة 1943، بالمثل، اقالة رئيس الوزراء “اذا اقتضت المصلحة العامة ذلك”.
يعيّن الملك، بناءً على توصية مجلس الوزراء، اعضاء مجلس الأعيان. لم يحدد الدستور وجوب ان تكون هذه التعيينات بناءً على توصية رئيس الوزراء، لكن الممارسة جرت على ذلك.
يمارس الملك سلطاته عن طريق الإرادات الملكية. وتصدر هذه الإرادات بناءً على اقتراح الوزير أو الوزراء المسؤولين، وبموافقة رئيس الوزراء، ويوقعون عليها. ان نقل المسؤولية هذ1ا إلى وزراء الملك، كما هو الحال في العديد من الحكومات البرلمانية الأخرى، فوّض عملياً ممارسة صلاحيات التاج إلى مجلس الوزراء، شرط موافقة الملك فقط.
مجلس الوزراء
يتألف مجلس الوزراء من رئيس الوزراء وعدد من الوزراء. “لا يقل عدد الوزراء عن السبعة بضمنهم رئيس الوزراء. ويُعيَّن عدد من وكلاء الوزارات والوزراء بلا حقائب وزارية وفقاً لمقتضيات الحاجة. يتألف مجلس الوزراء العراقي حالياً من:
رئيس الوزراء
وزير الداخلية
وزير الخارجية
وزير المالية
وزير الدفاع
وزير المواصلات والأشغال
وزير العدلية
وزير التربية
وزير الإقتصاد
وزير الشؤون الإجتماعية
وينبغي ان يكون عضو مجلس الوزراء عضواً في البرلمان. ولا يجوز احتفاظ شخص من خارج البرلمان عُين وزيراً بمنصبه لمدة تربو على ستة اشهر، مالم يُعيَّن في غضون هذه المدة عيناً أو يُنتخب نائباً.
مجلس الوزاراء مسؤول عن تصريف الشؤون العامة، والوزراء مسؤولون مسؤولية تضامنية امام مجلس النواب عن اعمال مجلس الوزراء كافة، كما انهم مسؤولون فرادى عن سياسات وزاراتهم. واذا صوّت المجلس على عدم الثقة بمجلس الوزراء، فعلى مجلس الوزراء تقديم استقالته. واذا كان هذا التصويت متعلق بوزير واحد، فعلى الوزير الإستقالة. غير انه يمكن ارجاء التصويت بعدم الثقة بناءً على طلب رئيس الوزراء، ولكن لمرة واحدة فحسب، لمدة لاتزيد عن ثمانية أيام. ولا يجوز حل المجلس في هذه المدّة.
يجتمع مجلس الوزراء مرة أو مرتان اسبوعياً برئاسة رئيس الوزراء، وترفع قراراته كافة إلى الملك للمصادقة عليها قبل تنفيذها.
البرلمان
السلطة التشريعية في العراق، كما في بريطانيا العظمى، مناطة بالبرلمان والملك. ويتألف البرلمان من مجلسي الأعيان والنواب.
ولا يجوز ان يزيد اعضاء مجلس الأعيان عن ربع عدد اعضاء مجلس النواب. ويعيّن الملك الأعيان من بين العراقيين البارزين في الحياة العامة وقدموا خدمات مميزة لبلدهم. ويجب ألاّ يكون العين دون الأربعين من العمر. ومدة العضوية ثمان سنوات، “ويجوز اعادة تعيين العضو السابق”. ويجوز انتداب العين “كالنائب”، بموافقة مجلس الأعيان “للقيام بمهمة خاصة في خدمة الدولةلمدة لاتتجاوز السنتين”. يجتمع مجلس الأعيان عند اجتماع مجلس النواب ويعطل معه.
مجلس النواب هيئة تمقيلية منتَخَبة على اساس نائب واحد عن كل 20.000 نسمة من الذكور. ويجب ألاّ تقل اعمار النواب عن ثلاثين عاماً ومنتَخَبين وفقاً للقانون الإنتخابي بالإنتخاب غير المباشر والإقتراع السري. مدة مجلس النواب اربع دورات اعتيادية، مدة كل دورة سنة واحدة، تبدأ في الأول من كانون الأول. ومدة كل دورة سنوية ستة اشهر، والأشهر الستة الأخرى عطلة برلمانية.
حق التصويت ليس شاملاً، فالنساء لايصوّتن، لكنه حق يشمل “الذكور”. لكل شخص حق التصويت اذا كان (1) مواطناً عراقياً، (2) اكمل العشرين من العمر، (3) لم يفقد حقوقه المدنية، (4) لم يُدان بأي جريمة مهما كانت أو بجنحة مخلّة بالشرف (كالسرقة أو الرشوة أو الإختلاس أو التزوير أو التدليس الخ)، (5) ليس مجنوناً أو معاقاً عقلياً، (6) غير معلن افلاسه، (7) لم يصدر بحقه امر بالمنع ولم يُنفّذ بعد. كل المواطنين الذين ليس لديهم احد موانع الأهلية هذه “ناخبون اساسيون”ويمكنهم انتخاب “الناخبين الثانويين”. وثمة ناخب ثانوي واحد عن كل 250 ناخب اساسي، ومن واجب هؤلاء انتخاب النواب. ويحتفظ الناخبون الثانويون بمكانتهم طيلة حياة برلمان واحد لغرض انتخاب نائب جديد أو سد شاغر. يُنتخب النواب لمدة اربع سنوات ويجوز اعادة انتخابهم. حتى عام 1935كان عدد النواب 88 نائباً (من ضمنهم 8 نواب يمثلون المسيحيين واليهود)، لكن العدد رُفع إلى 108 نواب عام 1935، ثم إلى 118 نائباً عام 1943. وارتفع عدد النواب المسيحيين واليهود إلى 12 نائباً، 6 لكل طائفة بموجب القانون الإنتخابي الجديد لعام (1946). ويبلغ العدد الإجمال للنواب حالياً 132 نائباً بسبب زيادة عدد سكان العراق.
يمكن ان يبدأ التشريع في مجلس النواب أو ان تقترحه الحكومة. ولكل نائب ان يقترح تشريعاً ما اذا أيده عشرة من زملائه إلاّ في المسائل المالية. واذا وافق المجلس على المقترح، يُرسل إلى مجلس الوزراء بغية كتاية لائحة القانون. واذا رُفض المقترح فلا يجوز اعادة تقديمه في الدورة نفسها. وتحال لائحة القانون التي يتلقاها احد المجلسين، كقاعدة عامة، بعد القراءة الأولى، إلى احدى اللجان الدائمة للفحص والتقرير. وغالباً ما توصي اللجنة بتعديلات جوهرية يوافق عليها المجلس عادةً في القراءة الثانية للائحة القانون. أما لوائح القوانين التي تعدها الحكومة فيجب ان تقدَّم إلى احد المجلسين، فاذا وافق عليها هذا المجلس، قُدِّمت إلى المجلس الآخر. ويقدّم وزير المالية لائحة قانون الموازنة إلى مجلس النواب. واذا رفض احد المجلسين لائحة قانون مرتين واصرّ عليها المجلس الآخر، فانها تُقدم إلى جلسة مشتركة، ولا يتم قبولها إلاّ بأغلبية الثلثين. تُمرر لوائح القوانين مادةً مادة، ثم اللائحة اجمالاً؛ لكن كل من المجلسين له ان “يقرر كفاية البت بشأن اللائحة اجمالاً فحسب، وفي هذه الحالة يكون من حق كل عضو مناقشة المواد”. ولا تًصبح لوائح القوانين التي يمررها المجلسان قوانيناً إلاّ بعد مصادقة الملك عليها. وللملك ان يصادق على التشريعات أو يردّها، مبيناً الأسباب، في غضون مدة ثلاثة أشهر. واذا قرر احد المجلسين ان قانوناً ما ذو طبيعة عاجلة، وجبت المصادقة عليه، أو رده لإعادة النظر فيه في غضون خمسة عشر يوماً، مع بيان اسباب الرفض.
لكل عضو في البرلمان ان يطرح عليه اسئلة ويطلب من الوزراء ايضاحات. واجتماعات المجلسين مفتوحة امام الجمهور ما لم يطلب احد الوزراء أو أربعة اعيان أو عشرة نواب ان تكون المناقشات مغلقة.
لاعضاء البرلمان حرية مطلقة في الكلام ويتمتعون بحصانة برلمانية. ولا يجوز توقيفهم أو تقديمهم للمحاكم ابان انعقاد الجلسات البرلمانية مالم يتم القاء القبض عليهم متلبسين بالجريمة، او ان يكون المجلس الذي يشغلون عضويته قد اصدر قراراً بطلب توقيفهم.
السيطرة على العلاقات الخارجية
تدار العلاقات الخارجية باسم الملك. ولا يخضع تعيين وفصل جميع الممثلين الدبلوماسيين وابرام المعاهدات (بموافقة البرلمان) واعلان الحرب إلاّ لموافقة البرلمان. ولابد من مصادقة البرلمان على ابرام معاهدات السلام.
في 7 ايلول 1927 اصدر مجلس الوزراء قراراً نافذا بان “المعاهدات الدولية قليلة الأهمية أو ذات الطبيعة العلمية ولم يبرمها رئيسا الدولتين، بل مسؤولين كبار في كلتا الدولتين، لاتقتضي بذاتها تقديمها إلى البرلمان…” وعليه فان المعاهدات محدودة النطاق يبرمها المسؤولون التنفيذيون فحسب.
وللملك، بالمثل، اصدار مراسيم وفقاً للحاجة دون تقديمها إلى البرلمان، بهدف تنفيذ التزامات معاهدة وافق عليها البرلمان أو الجمعية التأسيسية اصلاً.
لكن ثمة التزامات دولية تقيّد سلطة الملك في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية. اولها المعاهدة العراقية- البريطانية في 30 حزيران 1930 والعراق بموجبها ملزم “بالتشاور التام والصريح مع بريطانيا العظمىفي مسائل الشؤون الخارجية كافة”؛ وان يكون حليفاً لبريطانيا العظمى اذا دخلت الحرب؛ وان يقدّم المساعدات الممكنة على الأراضي العراقية، وبضمنها “استخدام السكك الحديدية والأنهار والموانئ والمطارات ووسائل النقل”. وثانيها: العراق ملزم بالتصريح الذي قبله رئيس الوزراء نيابةً عن حكومته في 9 مايس 1932. وقد جسدت ما تُدعى بالضمانات السبع هذه التصريحات التي على المناطق المُنتدب عليها قبولها قبل انهاء الإنتداب عليها، ومنها احترام حقوق الأقليات وامتيازات الأجانب وحصاناتهم والإلتزامات التي اخذتها سلطة الإنتداب السابقة على عاتقها كافة وأي حقوق اكتُسِبت ابان نظام الإنتداب.
واخيراً فان العراق كان عضواً في عصبة الأمم منذ 3 تشرين الأول 1932، وعضواً اصيلاً في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. والعراق ملزم بعشرات المعاهدات مع بلدان الجوار ومع البلدان الأوربية وبلدان المشرق تنظم علاقاتهم.
النظام الإداري
كان العراق في ظل الإدارة العثمانية مقسّماً إلى ثلاث ولايات (مقاطعات)، يحكم كل منها والي (حاكم) مسؤول مسؤولية مباشرة امام اسطنبول عن ادارته. كانت الولايات الثلاث: الموصل وبغداد والبصرة. وكانت كل ولاية تنقسم بدورها إلى سناجق (مناطق) يحكمها قائممقام مسؤول امام الوالي.
وبعد تأسيس الحكومة العراقية، اقيم نظام اداري جديد يعتمد جزئياً على النظام العثماني. وفي عام 1927 صدر قانون يقسّم العراق إلى اربعة عشر لواءً (قطّاعاً)، يحكم كل منها متصرّف. والمتصرّف الذي يمثّل الحكومة المركزية في اللواء مسؤول امام وزير الداخلية. ويعاونه في ادارة اللواء مجلس اداري. وينقسم كل لواء إلى عدد من الأقضية، يديرها قائممقامون. وينقسم كل قضاء بدوره إلى عدد من النواحي، يديرها مدراء. ويشرف المتصرّف على ادارة اللواء كله. مدير الناحية مسؤول امام القائممقام، وهذا مسؤول امام المتصرّف.
وتُدار الشؤون البلدية عن طريق مجلس بلدي لكل مدينة أو بلدة ينتخبه السكان ويرأسه رئيس بلدية يعينه وزير الداخلية ويكون مسؤولاً امامه عن الشؤون البلدية.
النظام القضائي
صُمم نظام العراق القضائي بحيث يكون متحرراً من أي تدخل اجنبي. وقد نصّت الإتفاقية القضائية، ملحق المعاهدة العراقية- البريطانية في 30 حزيران 1930 على استخدام الحكومة العراقية عدداً من القضاة البريطانيين لضمان الإدارة القانونية الصحيحة في البلاد. وبسبب هذه الإتفاقية، أُلغيت اخيراً “الإمتيازات” الموروثة عن الإمبراطورية العثمانية السابقة.
“المحاكم مصونة من التدخل في شؤونه” . هكذا نظم الدستور، من حيث المبدأ على الأقل، مذهب الفصل بين السلطات (قدر تعلق الأمر باستقلال القضاء)، اسوة بما في أي دولة حديثة اخرى، لضمان العدالة. “يجب أن تجري جميع المحاكمات علناً، إلا إذا وجد سبب من الأسباب المبينة قانوناً في جواز عقد جلسات المحاكمة سراً نشر أحكام المحاكم والمرافعات، إلا ما يعود منها إلى الجلسات السرية”. يُعيّن الملك القضاة بناءً على ترشيح وزير العدلية الذي تساعده، بدوره، لجنة اختيار، والقضاة “لا يعزلون إلا في الأحوال المصرحة في القانون المخصوص، المبينة فيه شروط أهليتهم، ونصبهم، ودرجاتهم، وكيفية عزلهم”.
ثمة ثلاثة انواع من المحاكم في العراق: (1) المحاكم المدنية، و(2) الماكم الدينية، و(3) المحاكم الخاصة.
يشمل اخصاص المحاكم المدنية كل المسائل المدنية والتجارية وقانون العقوبات والأفعال ضد الحكومة (وتُستثنى في كل حالة المسائل الواقعة ضمن اختصاص المحاكم الدينية).
وتشمل المحاكم الدينية المحاكم الشرعية، سنيّة كانت أم شيعية، التي تتعامل مع احوال المسلمين الشخصية وادارة الأوقاف (المؤسسات الخيرية) والمحاكم الروحية للمسيحيين واليهود والطوائف الدينية الأخرى التي تتعامل بالمسائل المتعلقة بالزواج والمهر والطلاق الخ والأمور الشخصية الأخرى لغير المسلمين. تقيم المحاكم الدينية العدل وفقاً للقوانين الدينية أو التقاليد كالشريعة (القانون الإسلامي) أو العقائد الدينية للمسيحيين واليهود. وتمتثل المحاكم الشرعية لقواعد الشريعة الخاصة بكل مذهب اسلامي، “ويكون قاضي من مذهب أكثرية السكان في المحل الذي يعين له”. ويبقى القاضيان السني والشيعي (او الجعفري) في مدينتي بغداد والبصرة.
المحاكم الخاصة التي تُشكّل عادةً عندما تقتضيها الضرورة هي ما يأتي:
المحكمة العليا، وتتألف من ثمانية اعضاء، ماعدا الرئيس، ينتخبهم مجلس الأعيان ويعيّنهم الملك، اربعة منهم نواب، واربعة قضاة من محكمة التمييز أو من كبار القضاة الآخرين. وتنعقد المحكمة برئاسة رئيس مجلس الأعيان، أو نائبه اذا تعذّر حضوره. واذا كان البرلمان غير منعقد، عينهم الملك ومجلس الوزراء. تستدعى المحكمة للإنعقاد “لمحاكمة الوزراء واعضاء البرلمان بسبب جرائمهم الاسياسية المتعلقة بواجباتهم العامة؛ أو لمحاكمة قضاة محكمة التمييز، و”للتقرير في المسائل المتعلقة بتفسير القوانين ومدى تطابقها مع الدستور “. وعليه فان المحكمة العراقية العليا، شأنها شأن المحكمة العليا في الولايات المتحدة، الجهة الوحيدة التي يمكنها التصريح بعدم دستورية قانون ما، ولكن فيما تستمر الأخيرة منعقدة بصفة دائمة للقيام بمثل هذه المهام، فان السابقة لايمكتها التقرير إلاّ اذا استُدعِيت للإنعقاد.
تلتئم المحكمة الخاصة (الديوان الخاص) بناءً على طلب احد الوزراء، ويُنتخب اعضاؤها بموجب قانون خاص (ثلاثة منهم من قضاة محكمة التمييز وثلاثة من كبار الضباط، اذا كانت القضية متعلقة بالجيش، أو ثلاثة من كبار المسؤولين الإداريين). الغرض من هذه المحكمة هو التعامل مع تفسير القوانين (غير التي تتعامل معها المحكمة العليا) أو الأنظمة لتقرير ما اذا كانت تخالف القوانين التي قامت عليها. وتُتّخذ قرارات الديوان الخاص باغلبية الثلثين.
محاكم أو لجان خاصة للتعامل مع جرائم عسكرية معينة او النزاعات العشائرية (وفقاً للعادات العشائرية التي جاءت في قانون العشائر)، أو النزاعات بين مسؤولين حكوميين والحكومة، او النزاعات المتعلقة بحيازة الأراضي أو حدودها. وتقام المحاكم العرفية، وفق ما جاتء في المادة 120 من القانون الأساسي (الدستور) بصفتها محاكم خاصة في المنطقة التي يُعلن انها في خطر أو حيث تكون ثمة قلاقل.
في حالة حدوث قلاقل، أو ما يدل على حدوث شيء من هذا القبيل في أية جهة من جهات العراق، أو في حالة حدوث خطر من غارة عدائية على أية جهة من جهات العراق، للملك سلطة بعد موافقة مجلس الوزراء على إعلان الأحكام العرفية بصورة مؤقتة في أنحاء العراق التي قد يمسها خطر القلاقل أو الغارات. ويجوز توقيف تطبيق القوانين، والنظامات المرعية، بالبيان الذي تعلن به الأحكام العرفية وذلك في الأمكنة وبالدرجة التي تعين بالبيان المذكور على أن يكون القائمون بتنفيذ هذا البيان معرضين للتبعة القانونية التي تترتب على أعمالهم إلى أن يصدر من مجلس الأمة قانون مخصوص بإعفائهم عن ذلك. أما كيفية إدارة الأماكن التي تطبق فيها الأحكام العرفية فتعين بموجب إرادة ملكية.
فيما النظام القضائي العراقي سليم من حيث المبدأ، انتقد عدد من المحامين العراقيين ممارسات معينة، كالحاجة إلى ضمان استقلالية النظام من تأثير اعضاء السلطة التنفيذية. فقد يُقدِم وزير العدلية الذي ليس له تأثير مباشر على القضاة على التأثير غير المباشر عليهم عن طريق تخويل تفويض بعض السلطات القضائية إلى مسؤولين حكوميين. كما اشتكى هؤلاء المحامون من اساءات استعمال السلطة في اوامر القاء القبض والتحقيقوتكاليف الإجراءات القضائيم المرتفعة نسبياً قياساً إلى معدل تكاليف المعيشة العام في البلاد.
عمل الحكومة
نُشر القانون الأساسي (الدستور) في 21 آذار 1925، بيد ان الملكية ومجلس الوزراء كانا موجودين منذ عام 1021. ولم يبقَ، لإستكمال شكل الحكومة البرلمانية سوى الأمر بالمباشرة باجراء انتخابات عامة. انتهى انتخاب النواب في حزيران، وعُيّن الأعيان في تموز 1925. وانعقد اول برلمان في 16 تموز 1925 في دورة خاصة، اذ ان القانون الأساسي (الدستور) نص على وجوب ان تبدأ جلسة البرلمان الإعتيادية في 1 تشرين الثاني وتستمر لمدة اربعة اشهر.
تعاقب على عرش العراق منذ تأسيس المَلَكية ثلاثة ملوك: الملك فيصل الأول (23 آب 1921 إلى 8 ايلول 1933)، الملك غازي الأول (8 ايلول 1933 إلى 4 نيسان 1939)، وحين توفي الملك غازي، كان ولي العهد في الخامسة من العمر لا اكثر، وعليه فقد استُدعي الأمير عبد الإله ليُعيّن وصياً حتى يبلغ الملك فيصل الثاني سن الرشد عام 1953.
كانت لدى العراق، منذ تأسيس الحكومة العراقية عام 1921 حتى انهاء الإنتداب عام 1932 اربعة عشر مجلس وزراء، بضمنها الحكومة المؤقتة. ومنذ عام 1932 حتى تاريخ تأليف هذا الكتاب (كانون الثاني 1950) شهد العراق واحداً وثلاثين مجلس وزراء، أي ما مجموعه خمسة واربعون مجلساً وزارياً في غضون تسعة وعشرون عاماً، بعبارة اخرى، كان لدى العراق ما معدّله تشكيلاة وزارية جديدة كل سبعة اشهر ونصف الشهر. عدّ ايم. اورتس M. Orts، احد اعضاء لجنة الإنتداب الدائمية في عصبة الأمم عام 1930 هذا التغيّر المتعاقب في المجالس الوزارية العراقية دليلاً محتملاً على عدم القدرة على حكم الذات بالذات. وفيما يقر الرائد هوبرت يونغ Hubert Young، بسرعة وتيرة التغيّر، لايوافق على ان هذا دليل على عدم القدرة السياسية، بل ان معناه، كما يرى، هو ان الجماهير العراقية لم تقدّر فوائد نظام الإنتداب قطّ. فكل حكومة تتولى المناصب وتسعى إلى مصالحة نفسها مع هذا النظام تُهاجَم لعدم قدرتها على تحقيق الإستقلال التام، فتفسح المجال للمعارضة لترى ان كان بمقدورها ان تفعل ما هو افضل. وفيما يقرّ الرائد يونغ بلا جدوى هذا النظام، فانه يرى فيه عنصر تعويض هو ان عدداً اكبر من الأفراد تُتاح لهم الفرصة لإكتساب الخبرة البرلمانية. ثم استدرك وخفف عبارته باضافته ان كل تشكيلة وزارية جديدة لم تكن تتألف بالضرورة من افراد جدد، فبعضهم “يأتي مراراً وتكراراً، ولو كان ضمن اطراف مختلفة”. تدعم عبارة الرائد يونغ حقيقة ان التشكيلات الوزارية الثلاثة عشر الأولى (حتى نهاية الإنتداب) لم يشغل فيها منصب الوزارة سوى ستة واربعون فرداً مختلفاً. واصبح العدد في اجمالي الخمسة والأربيعين وزارة مايقارب 120 فرداً.
والسبب في تسارع وتيرة تغيرات المجالس الوزارة بعد صعود العراق إلى مستوى الدولة يكمن في عدم تضامن اعضاء كل تشيلة وزارية تقريباً، والتنافس الحاد بين السياسيين، وغياب الأحزاب السياسية التي كانت لتهئ قنوات قانونية للصراع السياسي، وتدخّل الجيش في السياسة.
استمر البرلمان بعقد اجتماعاته الإعتيادية منذ عام 1925. وظل اعضاء مجلس الأعيان الذين عُيِّنوا في تموز 1925 في مناصبهم حتى حزيران 1929 حيث اجريت قرعة لإحالة نصف اعضائه على التقاعد.أُعيد تعيين خمسة اعضاء، واُضيف اربعة اعيان جُدُد. وفي عام 1933 احيل بقية اعضاء مجلس الأعيان على التقاعد لإكمالهم مدتهم البلاغة ثمان سنوات. ومنذ عام 1933 يتقاعد نصف اعضاء مجلس الأعيان اعتيادياً كل اربع سنوات. اما بخصوص مجلس النواب، فقد انتُخِب حتى الآن اثني عشر مجلساً مختلفاً. الأول عام 1925، الثاني عام 1928، الثالث عام 1930، الرابع عام 1933، الخامس عام 1934، السادس عام 1935، السابع والثامن عام 1937، التاسع عام 1939، العاشر عام 1943، الحادي عشر عام 1947، الثاني عشر عام 1948. كان المجلس التاسع المجلس الوحيد الذي اكمل دورته البالغة اربع سنوات. في الإنتخابات الأولى كان البعض متردداً في دخول البرلمان، اما في الإنتخابات الثانية فقد المرشحون كثيرون جداً وكشفوا عن رغبتهم القوية في الحصول على المقاعد في مجلس النواب. كان شيوخ القبائل وسكان المدن مُمَثَّلين ، لكن سكان المدن كانوا يتذمرون دائماً من تمثيل شيوخ القبائل تمثيلاً زائداً. النقد الآخر الذي وجهه سكان المدن هو ان الحكومة تحكم قبضتها بقوة على الإنتخابات في البلاد، إلى درجة ان مرشحي الحكومة يُنتخبون نواباً على الدوام. اسفر هذا الإتجاه عن نفسه مؤخراً في المدن ايضاً، واصبح البرلمان تابعاً للسلطة التنفيذية، وفقد روح المعارضة الأصيلة فيه. وضعت الهيمنة على الإنتخابات وحل البرلمانات المتعاقب البرلمان بالكامل تحت رحمة مجلس الوزراء وغير قادر على التصويت بسحب الثقة من أي من التشكيلات الوزارية الخمس والأربعين.
الأحزاب السياسية
منذ البدايات الأولى لتشكيل الحكوومة العراقية كانت ثمة رغبة قوية بتنظيم احزاب سياسية على غرار النمط الآوربي الغربي لتطوير شكل حكومة ديمقراطية. وكان ثمة حزبان موجودان اصلاً في ظل النظام العثماني، العهد وحرس الإستقلال، وهدفهما الدفاع عن حقوق العرب بوجه الأتراك. وبعد تسنّم فيصل عرش العراق عام 1921 تأسست ثلاث احزاب جديدة: (1) الحزب الوطني، بقيادة جعفر ابو التمن، و(2) حزب الشعب، بقيادة ياسين الهاشمي، و(3) حزب التقدّم، بقيادة عبد المحسن السعدون. لهذه الأحزاب الثلاثة هدف واحد من حيث الجوهر: انهاء الإنتداب وكسب الإستقلال. لكنها تختلف من حيث وسيلة تحقيق الهدف، لا في المسائل الإجتماعية أو الإقتصادية. انحل حزب التقدّم حين انتحر السعدون.
في عام 1930، حين ابرم الجنرال نوري السعيد المعاهدة العراقية البريطانية، تبع ذلك مباشرةً اعادة تنظيم الأحزاب. فشكل الجنرال نوري السعيد حزب العهد (احياءً لحزب العهد الذي كان قبل الحرب العالمية الأولى)، وكان هدفه ادخال معاهدة 1930 حيز التنفيذ والوصول بالإنتداب إلى نهاية. ولم تكن المعاهدة من وجهة نظر السياسيين المنافسين، كياسين الهاشمي واتباعه تلبي مطامح العراق القومية. اجتمع الأعضاء السابقون في حزب الشعب وفي الحزب الوطني ونظّموا حزب الإخاء الوطني. كان قائد الإخاء ياسين الهاشمي، وابرز قادته رشيد عالي الكيلاني وحكمت سليمان ومحمد زكي. ظل الحزب الوطني حزباً مستقلاً بذاته رسمياً، لكنه كان متحالفاً مع الإخاء بغية معارضة معاهدة 1930. كانت هذه الأحزاب، شأنها شأن الأحزاب السابقة، تهدف إلى تحقيق استقلال العراق، والخلافات الوحيدة بينها هي سبل تحقيق ذلك.
بعد ان فاز العراق بالإستقلال، حُلَّ حزب العهد. اما الحزبان الآخران، فمع انهما ظلا موجودين بعد عام 1932، فانهما فقدا غرضهما، ثم انحلا عام 1934 وعام 1935 على التوالي. وعليه فان كل الأحزاب السياسية ماتت موتاً طبيعياً لأن سبب وجودها توارى.
دعا الملك فيصل الأحزاب السياسية البارزة بعد ان كسب العراق استقلاله بفترة وجيزة لمناقشة امكانية تأسيس احزاب جديدة على اساس المبادئ الديمقراطية، إلاّ ان وفاة فيصل اجلت كل فعل. بعد وفاته، اصبحت قيادية الساسة التي تطورت ضمن حاشيته والحاجة إلى احزاب سياسية اكثر الحاحاً. ولكن لم تُشكّل احزاب جديدة، واستغل السياسيون البارزون الظروف المحلية، الفرص المناسبة لتحقيق القوة.
الخلاصة
يلاحظ ان شكل الحكومة العراقية وفق ما جاء في الدستور، ديمقراطي، ولكن كانت ثمة بضع قوى محلية أثّرت على عمل الحكومة. كانت المُثُل الغربية العليا هي التي حددت شكل الحكومة؛ وكانت القوى المدمّرة تكمن في الظروف الإجتماعية والإقتصادية. وعلينا ان تستذكر ان العراق ورث هذه الظروف من الماضي. وعلى هذا فان حكومة العراق اليوم انما هي نتاج صراع بين الشكل والقوى المنبثقة من الظروف المحلية. ولابد لصراع من هذا النوع ان يؤدي إلى اعتماد الشكل، غير انه اذا كان على هذا الإعتماد أن يقود إلى التقدم، ان لا يضحي بالشكل اجمالاً في سبيل ارضاء الظروف المحلية. يمكن تكييف هذه الظروف المحلية تدريجياً عن طريق تطوير ظروف جديدة متأثرة بالشكل. ولكن عملية تعدديل تقتضي بطبيعة الحال قيادة حكيمة ومتوازنة كي تحافظ على التوازن اللازم للتعديل الصحي.
حتى نهاية الإنتداب كان قادة العراق، بتوجيه من فيصل وسلطة الإنتداب قادرين على مباشرة عملية تعديل واعدة بالتقدم. وحين انتهى الإنتداب، كانت ثمة ارضية للثقة بان تقدم حكومة العراق اصبحت مضمونة. لدى العراق، وفق المعايير ذات الصلة، حكومة حديثة الشكل، ورأي عام حسن التوجيه، وعاملين مدنيين يتعلمون من خلال التجربة وترتفع كفاءاتهم. وفوق هذا كله، كانت قيادة فيصل الحكيمة التي الهمت كل دائرة من دوائر الحكومة بالروح العامة.
لكن تقدم العراق المتسارع قوطع فجأة وعلى حين غرة. كان من سوء حظ العراق ان تُقطع حياة الملك فيصل عام 1933. تراجعت صحته، جزئياً نتيجةً الإجهاد في العمل، بُعَيد نيل العراق استقلاله. ذهب إلى اوربا للراحة، وتوفي في ايلول 1933. اعقبت وفاته فترة من عدم التوازن. ازدادت حدة الخلافات الشخصية بين الساسة، ولم يعد ثمة فيصل للتوصل إلى حل توفيقي، او للحفاظ على بين القبائل وسكان المدن.
بوفاة الملك فيصل، تسنم العرش ابنه، الملك غازي، وكان يومها في الحادية والعشرين من العمر. افتقد العراق ابان فترة حكمه القصيرة (1933- 1939) القيادة التي كان لامناص منها للإستقرار والتقدّم. كان العراق بعد انتهاء الإنتداب بحاجة إلى نوع القيادة الذي قدمه فيصل اكثر من اي وقت آخر للمحافظة على التوازن بين شكل الحكومة والظروف المحلية، فلا يمكن للعراق ان يتقدم من دون هذا التوازن. بعد وفاة فيصل، وفيما كان خليفته ما يزال شاباً عديم الخبرة في الشؤون العامة، تطورت القيادة لدى مجموعة من السياسيين الذين كانوا يحيطون بفيصل سابقاً. كان بامكان السياسيين التعامل مع الوضع عن طريق احزاب سياسية. لكن الأحزاب السياسية لم تكن موجودة اصلاً لأنها كلها، كما نتذكّر، ماتت موتاً طبيعياً بعد انتهاء الإنتداب. وتضاءلت الثقة بآفاق التقدّم في ظل نظام ديمقراطي، ولم ينفد صبر الجيل الجديد من العراقيين على هذا النظام فحسب، بل وشككوا تشكيكاً جدياً بقيمته.
تأمل آفاق حكومة برلمانية في الشرق الأوسط امر مثير للإنتباه ومشوّق. ناقش الموضوع عدد من المختصين بالشؤون العامة والنقّاد. فكتب اللورد كرومر Lord Cromer وهو في مصر عام 1908 مؤكداً على ان “تحولت الجمعية التشريعية عملياً لتصبح الأقل فائدةً وكفاءة. فقد كانت، وما تزال، متقدمة جداً على متطلبات البلاد وتربيتها السياسية. ولن يحدث أي ضرر لو انها بمنتهى البساطة اُلغيت”. ويكاد يكون لدى الكتّاب الأحدث، وهم ليسوا اقل تشاؤماً من اللورد كرومر، الآراء نفسها. فقد صرّح احد المسؤولين في فلسطين إلى احد المثقفين الأميركان قائلاً “في… بلدان كعبر الأردن والعراق، يمكنك تشكيل حكومة من ابناء البلاد، وتقدم لهم النصيحة وتتركهم. أما إن اردت التقدم، فلا بد ان تكون لديك ادارة مباشرة”. وفيما يقر القومي السوري د. شاهبندر بقيمة الحكومة البرلمانية في بلاد تحت السيطرة الأجنبيةبصفتها وسيلة للحد من التدخّل، فانه يؤكد على عدم امكانية تحقيق المزيد من التقدم السريع إلاّ على يدي حاكم مطبوع على الخير”.
الآراء الأحدث اقل تشاؤماً في نبرتهاواكثر تفضيلاً للمؤسسات الديمقراطية في الشرق الأوسط. فقد اكّدت بريطانيا العظمى في معرض مناقشة مسألة انهاء الإنتداب على العراق في لجنة الإنتداب الدائمية على ان “العراق دولة تحكم نفسها بنفسها… لديه هيئة تشريعية وهيئة قضائية مستقرتان وانظمة ادارية، وكل آلية عمل حكومة مدنية “. صادق ايم. اورتسM. Orts عضو لجنة الإنتداب الدائميةعلى التصريح واضاف “لدى العراق كل الآلية السياسية والإدارية للدولة ويجسد دستوره المبادئ التي تقوم عليها معظم الدساتير الحديثة، وهذه حقائق تؤكدها لجنة الإنتداب، اذ انها في نطاق ملاحظتها”. اراد ايم. اورتس فقط “ان يعرف ما اذا كانت في البلاد الروحية التي تبث الحياة في هذه المؤسسات، وهذ1ا هو الشرط الأساس لعملها”. اجاب السير فرانسس همفريس Sir Francis Humphrys، الممثل البريطاني المعتمد، انه يمكن العثور على افضل جواب في التقرير الخاص، ص 11- 12 حيث ذُكر:
…في هذه المدة قيد الإستعراض ثمة دافع سياسي واضح وراء كل هذه المتغيرات. فمن جهة كل المسؤولين العراقيين ثمة بدايةً نفاد صبر واضح من قيد الإنتداب ورغبة مستعرة للإستقلال. وينبغي ألاّ يُعزى هذا إلى نكران الجميل ولا إلى عدم تثمين جهود المُنتَدِب وعصبة الأمم المبذولة في العراق، وانما تُعزى إلى تنامي الشعور الوطني الذي لن يهدأ إلاّ بتحرير البلاد من الهيمنة الأجنبية. وهذه الرغبة بالإستقلال التي عبّرت عن نفسها في الضغط المستمر للتخلص من هيمنة الإنتداب، ليست علامة غير صحية. فهي تبيّن، في اقل تقدير، ان العراقيين عموماً راغبون ومتطلّعون لأخذ العبء والمسؤوليات على عاتقهم. ويتناول التقرير لاحقاً فحص مسألة قدرة العراق على تحمّل هذه المسؤوليات؛ غير ان حقيقة الرغبة في ذلك الواضحة في عموم العراق هي بذاتها دليل على روح وطنية متحمّسة، ومنح الإستقلال من دون هذه الروح لن يكون مريحاً ولا مستحقاً على السواء.
من غير المتوقع، في بلد مازالت فيه التقاليد القديمة قوية كالعراق، ان يُقبل عمل المؤسسات الديمقراطية مقارنةً بالبلدان الغربية المعتادة منذ القفِدَم على التقاليد الديمقراطية. وعليه يجب ان تعتمد قيمة المؤسسات الديمقراطية في الشرق الأوسط على امانياتها في المستقبل. أما في الوقت الحالي فينبغي عدّ قيمتها تربوية اساساً؛ أي انها تساعد على تطوير العادات والتقاليد الديمقراطية اللازمة لتشغيل الآلية الديمقراطية. بيد ان شباب العراق لايطيقون صبراً على تقدم بلادهم البطئ وغير الكافي في الإجراءات الديمقراطية؛ إلاّ ان التغير الإجتماعي بطبيعته بطئ وتطوري. ما يمكن توقعه، بانصاف، من النظام الحالي، هو خطة بنيوية للنهوض بالظروف المحلية التي ورثها العراق من النظام العثماني القديم. ولا شك ان الحكومة العراقية قادرة على تنفيذ خطة اصلاحية اذا بُعِثت فيها روح اكثر ليبرالية وصبراً وروح تعاطف تستطيع بها ان تحقق الإنسجام والتعاون بين شتى فئات السكان. هذا مُستلزَم ضروري لعمل حكومة ديمقراطية في العراق، بل وفي الشرق الأوسط اجمالاً.
*المادة :الفصل الاول من كتاب / العراق المستقل :دراسة في السياسات العراقية منذ عام 1932 /الذي نشره عام 1951 ، برعاية المعهد الملكي للشؤون الدولية ، لندن // المترجم : وليد خالد احمد
[email protected]