على وقع تصاعد انتفاضة تشرين الثورية، التي راح ضحيتها نحو٥٠٠ شهيد، وما يقرب العشرين ألف جريح حتى الآن، قدم رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي استقالته إلى مجلس النواب، في مخالفة لدستور عام ٢٠٠٥.
لكن ما يلفت الانتباه هو استشهاد عبد المهدي في بيان عزمه الاستقالةبالآية الكريمة “يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله منالصابرين“، في إشارة منه إلى خطبة المرجعية الجمعة الماضية، التيدعت فيها مجلس النواب إلى إعادة النظر في خياراته، لترميم العمليةالسياسية، وتثبيت أركانها بعد أن أصابها زلزال الانتفاضة، إلا أنعادل المهدي الذي تجاهل دماء الضحايا استغل هذه الرسالة ببيانه، ووظف الآية الكريمة بطريقة تنم عن جهالة، حينما وضع نفسه بمنزلةنبي الله اسماعيل عليه السلام، والمرجعية محل سيدنا ابراهيم عليهالسلام، ليكشف بذلك عن خضوعه التام لمرجعية النجف، وضارباعرض الحائط الأطر الديمقراطية التي يتغنى بها ومن معه طيلة ستة عشر عاما.
وهذا يعني أن المرجعية هي “مايسترو“ المشهد السياسي والضامن للعملية السياسية، كما أكد سابقا عضو التحالف “الوطني“ عباسالبياتي، وهي التي تأتي بالحكومات، وهي من تباركها، وهي منتقيلها ببضع كلمات.
هذا المشهد يطرح عدة تساؤلات: إذا كان كل ذلك يعود للمرجعية.. لماذاإذن لدينا مجلس نواب، ولِمَ تُجرى انتخابات نيابية كل أربع سنواتيُصرف عليها الملايين، وأين ذهبت أصوات الشعب الذي لوّن أصابعهباللون البنفسجي؟!.
والسؤال الأهم: هل انتظرت المرجعية التي تتباكى على دم سيدنا الحسين عليه السلام، اراقة دماء ألاف الشهداء والجرحى حتى تأذنبتغيير الحكومة ؟!.
المرجعية أوردت بعد أسبوع من خشيتها زوال الحكم وانتقاله إلىأخرين، تصريح جديد مفاده “إنّ الأعداء وأدواتهم يخططون لتحقيقأهدافهم الخبيثة من نشر الفوضى والخراب والانجرار الى الاقتتالالداخلي ومن ثَمّ إعادة البلد إلى عصر الدكتاتورية المقيتة، فلا بد منأن يتعاون الجميع لتفويت الفرصة عليهم في ذلك“.
هذه اللغة التي تنتهجها المرجعية عبر مواصلتها المغالطات في كلخطبة جمعة، تحمل في ثناياها رسائل مشفرة، ينتج عنها مزيد منالقتل والقمع ضد المنتفضين السلمين بعد كل جمعة، كما إنها لغة بات الشارع العراقي يرفضها الآن، بعد أن أظهر تلاحمه للقاصي والداني، ضاربا كل أشكال الطائفية والمعتاشين عليها، وإلا ما معنى الحديث عن مؤامرة ومندسين وعودة للدكتاتورية التي تحذر منهاالمرجعية؟!.
هناك اصرار واضح من قبل المرجعية، ومن منطلق طائفي، علىالاستمرار برعايتها للعملية السياسية المشوهة، رغم علمها ويقينهابفشل هذه العملية على الصعد كافة، وأن رجالها فاسدون وسراقوقتلة، وفي الوقت عينه تطالبهم بالإصلاح، وهذا ما لا يقبله عقل أومنطق.
وبالعودة إلى استقالة عبد المهدي، التي كان يفترض به أن يتقدمبطلب إعفائه إلى رئيس الجمهورية، حسب المادة ١٨ من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم ٢ لعام ٢٠١٩، وبذلك يُعدّ مستقيلا دون الحاجة لموافقة مجلس النواب، لأن الأخير لا يجوز له قبول الاستقالة، وإنما سحب الثقة، بموجب البند الثامن من المادة ٦١ من الدستور.
وربما كان الهدف من ذلك رغم قبولها، اللعب على عامل الوقت من قبلالكتل السياسية، بالرجوع إلى المربع الأول بأحجية الكتلة الأكبر، لتراهن بذلك وهي واهمة على يأس المنتفضين وضعف عزيمتهم، إلا أنهم يظهرون كل يوم إصرارا منقطع النظير على بلوغ هدفهم فياسقاط العملية السياسية برمتها، حتى يستردوا وطنهم.
هذه التطورات تزامنت، إضافة إلى استمرار نزيف الدم، مع تسابق عدد من الذين تسببوا بخراب البلد على تقديم أنفسهم كمرشحينلرئاسة الحكومة، وهو ما سيزيد الوضع تعقيدا، لكن رد المنتفضين فيساحة التحرير جاء سريعا، وهو رفض أي مرشح، مؤكدين أن القرارأصبح بيد الشعب، ولن يقبلوا بأي تحرك سياسي قبل تحقيق المطالبالتي خرجوا من أجلها في مختلف مدن الوطن، والتي تمثلت بوضوحتام، حل مجلس النواب ومجالس المحافظات، وإنهاء المحاصصةالطائفية، ومعاقبة مَن فرط بكرامة الوطن ومصالحه، ومَن سرق ثرواتالشعب، ومَن سلّم تنظيم داعش محافظات نينوى والأنبار وصلاحالدين وأجزاء واسعة من محافظتي ديالى والتأميم، ومَن استخدمالرصاص الحي ضد المتظاهرين السلميين.
هذه المطالب والإصرار على تنفيذها، تشير إلى حقيقة واحدة، هي أن هذا الجيل الذي يتلقى رصاص الغدر بصدور عارية إلا من الإيمان، قد برهن على إنه صاحب وعي أذهل به الجميع، لدرجة أنه اعتبر استقالة الحكومة الحلقة الأولى في طريق تحقيق جميع مطالبه.
الآن وقد طويت صفحة عادل عبد مهدي، الذي تكلم طويلا عن منجزاتحكومته الوهمية، دون أن يعطي أي اهتمام إلى ما جرى للعراقيينالنجباء من قتل وخطف وتعذيب ومعاملة وحشية على أيدي الأجهزة الأمنية والمليشيات الولائية التي يقودها، لكن لن تطوى جرائمه التيارتكبها ومن معه بحق الأبرياء، لأن الجرائم لا تسقط بالتقادم.