8 أبريل، 2024 3:47 ص
Search
Close this search box.

استقالة العقل العربي

Facebook
Twitter
LinkedIn

أجهد العرب أنفسهم غاية الجهد في القرن العشرين في التحديث ونقل المنجزات الغربية إليهم، فأصبحت المصانع والعمارات الشاهقة، والبنايات الجميلة كقلائد اللؤلؤ تزين اجياد المدن وجباه العواصم، والتكنولوجيا تمددت لحياتنا كلها ولم يبقى مجال حولنا دون ان يكون فيه لمسة حداثه حتى في غرف نومنا، ثم استعار العرب أنظمة الأمم الأخرى السياسية والتربوية، فأصبحت لدينا انتخابات وديمقراطية، ومجالس بلديه. ولكن من يقارن هذا الجهد الجبار في التحديث ينصدم عندما يجد ان المحتوى الحقيقي لهذه المظاهر الجميلة هو وجع حقيقي وانحطاط لا مثيل له، فالانتخابات تقام على أساس قبلي وطائفي ويفوز من هو لص وقاطع طريق، والتكنولوجيا منفصلة عن عقل المستخدم بحيث ان التفاعل بين الانسان والتكنلوجيا لا يطور اليات التركيب والتعقيد في عقل العربي ليؤسس الحضارة المتوقعة، فتحول المجتمع العربي الى كنتونات مستهلكه لما ينتجه الاخرون دون ان تنمو لديهم موهبة الابداع والخلق الذاتي. هنا يتفجر ألف سؤال في وجه أي باحث في العقد الحضارية للأمم إذْ سيصطدم بالسؤال الكبير هو لما لا يتقدم العرب، ما لذي يمنعهم من التقدم.إن تاريخ الفكر العربي الحديث ربما لم يشهد الكثير من المحاولات الرصينة في البحث والتنظيم والتأصيل، ولكن المشهور في رأيي فقط ثلاث موسوعات فكرية تناولت ازمة العقل العربي سواء نقدا” أو تأصيلا”، وهي موسوعة أحمد أمين فجر وضحى وظهر الإسلام، ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، اما محمد عبده وجمال الدين الافغاني وطه حسين وغيرهم كان لهم مساهمات لا يمكن انكارها في التجديد والنقد الموضوعي ولكنها لم ترتقي الى درجة بناء منظومه تجيب عن الأسئلة وتقدم بدائل المستقبل, ولم تكتسب طروحاتهم  جدلا” عميقا ينساق في ادبيات الثقافة العربية.
يعتبر محمد عابد الجابري من المع نجوم الفكر العربي، ومحاولته في بناء مشروعه الحضاري من اهم المحاولات الجدية في علاج ازمة العرب الحضارية من خلال منظومته نقد العقل العربي، والشهرة التي حازتها كتاباته، في الثقافة العربية تعود في جزء كبير منها إلى توظيفه مفهوم العقل وأعادة الاعتبار للعقلانية بعد هيمنة الايديولوجيا على المثقف العربي في القرن العشرين. عاصر الجابري الفترة التي فشلت فيها الأحزاب اليسارية ودعاة التغريب، فأيقن انه لا يمكن استعارة منظومات فكريه او طروحات تلفيقيه تستنهض جهد الامه المستقيل، لذلك انبرى يدعو الى بناء منظومه فكريه تنبع من التاريخ عن طريق اصلاح البيئة المنتجة للفكر المتجدد او كما يقول ” تجديد الفكر التراثي عند الحداثيين لكي يتحدث، وتجديد الفكر الحداثي عند الحداثيين بالتراث”، فطفق يتصفح التاريخ يحلله، ويقيم ما أستقام لديه ويرفض ما لا يستسيغه، فمجد ابن رشد ولعن ابن سينا في قراءات لم يوافقه عليها الكثيرين.  تتكون موسوعة الجابري من (تكوين العقل العربي 1984) و(بنية العقل العربي 1986) و(العقل السياسي العربي 1990) (العقل الأخلاقي العربي 2001). في كتابه (بنية العقل العربي) يمارس الجابري النقد من أجل التحرر مما تعفن في موروثنا الثقافي، واعادة كتابة الثقافة العربية، أذ دعي إلى خلق ثقافة تهتم ببناء الرؤية العقلانية المحايدة في النقد التاريخي، فالعقل العربي عند الجابري أبتدأ في عصر التدوين، اي منذ تأسيس قواعد أصول الفقه، وتفسير القران. استخدم الجابري المنهج البنيوي (Structuralism) في التحليل والتعامل مع الموروث الثقافي كبنية داخلية معزولة عن المحيط الاجتماعي، والنظر إلى النصوص كإطار لغوي فقط وبتحييد النظرة المسبقة التي يحملها القارئ لهذا التراث، وهذا ما اثار ضجة كبيره لم تتوقف لحد الان.   الجابري عمل على تشطير العقل العربي ثلاثيا إلى عقل بياني وعرفاني وبرهاني، وان هذه العقول في حالة حرب مع بعضها، فتحدث بينها تحالفات انيه مثلا بين العقل العرفاني والبرهاني (ابن سينا) او العقل التحليلي مع العقل العرفاني (الغزالي).
فلسفة الجابري تقوم ببساطه على انه لا يمكن صناعة مشروع نهضه دون تكوين العقل (الفكر) الخلاق الذي يعيش الحاضر ويكون الصانع لهذه النهضة، ولا يمكن صناعة هذا الفكر دون نقد حقيقي لبنية العقل العربي، وبحث صيرورته التاريخية اي تحديد ديناميكيات الشروع التي تنشطه وتأسس لأحكامه وتخلصه من عوامل الانحطاط.الجابري من القلائل اللذين أسسوا للصراحة الموضوعية والتأسيس النظري لمشكلة ما تسمى (أزمة الإنسان العربي) التي يعزوها الجابري الى (العقل العربي) باعتباره السبب الأساس في فشل مشروع النهضة العربية، وبالتالي وصول العرب اليوم إلى ما هم فيه من انحطاط. ولكن الجابري يعزوا ازمة العقل العربي الى تبنيه ثقافه اجنبيه عانقته ووثقت رباطه في اللامعقول الهرمسي والغنوصية، بالإضافة الى تركيب ادواته التحليلية من مزيج من التصوف وتأويل باطني وفلسفة إشراقية. 
توجه انتقادات شديده للجابري رغم هذا الجهد الجبار, حيث سببت مقولاته الكثير من الجدل.  فمثلا يقول ان  الكشف العرفاني ليس شيئاً فوق العقل، بل أدنى درجات الفعالية العقلية وهذا ما يتعارض مع المنهجية التقليدية للكثير من المدارس الإسلامية, وكذلك توجه انتقادات الى  نظريته في كتاب العقل المستقيل  حيث يرى الكثيرين ان استقالة العقل في الإسلام هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه, وليس بفعل ثقافات صوفيه او اشراقيه خارجيه وافده , والدليل ان العزلة التي عاشها بعض المجتمعات الإسلامية كالأدارسة في المغرب , و بني الأحمر في تونس وحتى حديثا كإمارة الإمام يحيى حميد الدين في اليمن لم تتقدم  عن محيطها رغم تضاؤل المؤثرات الخارجية والتي ربما كان يعنيها الجابري.. هاجم الكثير من عمالقة الفكر العربي نظريات الجابري ومنهم من ادعى بطلان وعدم اصالة نظرياته ومشروعه الحضاري ومنهم الكاتب الكبير جورج طرابيشي حيث يرى ان الجابري استعار مفهوم العقل المكَوِّن والعقل المكوَّن من الفيلسوف الفرنسي لا لاند، وهو المفهوم الذي استمد بناءه من التراكم الكمي للثقافة الغربية والمدارس العقلية التي ازدهرت في اوربا، ثم يقول ان الجابري يقارن عبثا” بين مقولات ارسطو والقوالب النحوية للغة العربية، ليستنتج ان اللغة اليونانية أحد مصادر قوة الثقافة الأرسطيه. تعرض الجابري الى الكثير من التهديد والتشهير بعد كتابه (مدخل الى القران)، حيث اعتبرته جريدة الجمهورية المصرية أخطر اعداء الإسلام وترى في كتابه افتراء على الكتاب المقدس والنبي الاكرم ونادت بتكفيره كما فعلو بعد ذلك مع نصر حامد أبو زيد، ويؤخذ عليه برأيي انه لم يعتبر صراع البداوة والحضارة والنظريات الاجتماعية الحديثة كعلل اساسيه في التراجع المدوي للثقافة العربية, حيث ان بعض هذه العلوم الاجتماعية تبين ان الواقع العربي مسبب جذري لهزيمة العقل الفاعل او الجوهر كما يصفه، واعتقد انه لو عاش فترة الربيع العربي لادرك ان مسببات استقالة العقل العربي لم يتم حصرها جميعا في كتيه، وان هناك من العيوب مالا يمكن رتقه, لأنه   لا جدوى من الركض إن لم يكن بالاتجاه الصحيح كما يقول الالمان. يجسد الجابري رغم الخلاف والاختلاف عليه صوره مشرقه ومتوهجة للمثقف العربي المسؤول الذي تتواتر عظمته في الزمن العربي الرديء، فقد تألق وفيا” للفكر والقيم الأخلاقية التي امن بها بصدق، وعاش مناضلا” لتأصيلها، فكتبه ومؤلفاته ستنحت اسمه عبر التاريخ مخلدا، فالعظماء امثاله لا يموتون. [email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب