السؤال الذي يطرح في اطار التنمية الاقتصادية العراقية، ماهي خطط الحكومة العراقية في السنوات الثلاث الاخيرة في مجال تحقيق الامن الغذائي الوطني؟
فالخطط التنموية التي قدمتها الحكومة بدت خالية من اي مشروع يقود باتجاه النهوض بأدوات الامن الغذائي وفق جداول زمنية محددة، وجل ما يتم طرحه هو نظريات اقتصادية لا تتحقق مع غياب المتابعة لشروط التنفيذ على الرغم من أن النقص في الامن الغذائي الوطني يشكل اكبر تحدٍ للدوله العراقية لاسيما مع غياب تام للخطط التنموية الهادفة الى النهوض بالواقع الزراعي والحيواني.
ولحد وقت قريب شكل الامن الغذائي تهديدا حقيقيا للعديد من البلدان وما شهدته دول شرق اوروبا من انتفاضات شعبية في نهاية الثمانينيات بسبب فشل النظام السياسي في توفير المواد الغذائية كحد ادنى ونقص متطلبات المعيشة يمثل مؤشرا مهما لتحديد مسارات الامن الغذائي المستقبلي واعطائه الاولوية في مجال التخطيط الاقتصادي.
فماهي متطلبات النهوض بالأمن الغذائي الوطني؟.. وكيف نستطيع رسم ملامح سياسية ستراتيجية لتحقيق هذا الامن بالاستناد على ما تمتلكه الدولة من موارد محلية والانتهاء من الاعتماد على البضائع والمنتجات الزراعية المستوردة؟.
تكمن اهمية الامن الغذائي في قدرة الدولة على التحكم بمتطلبات المعيشة للمجتمع وفي كل الظروف تزاما مع قدرتها على توفير متطلبات الطاقة بالظروف ذاتها لأن الامن الغذائي يمثل شرطا من شروط السيادة الوطنية للدولة، وفق ذلك فان عملية تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الغذائية تتوقف على الخطط الناجحة للدولة في هيكلة القطاع الزراعي بجانبيه الزراعي والحيواني، وفي بلد مثل العراق فان شروط النهوض بالقطاع الزراعي متوفرة( مياه، اراضي صالحة للزراعة، ايدي عاملة) لكنّ هناك ضعفا خطيرا في الارادة السياسية والاقتصادية لتحقيق هذا النهوض وهو ما حال دون ديمومة الزراعة وتراجع واضح في البيئة الريفية التي تمثل البنى التحتية للأمن الغذائي.
فكما هو معروف فان الزراعة بالعراق مرت ومنذ تأسيس الدولة العراقية بتحديات عديدة، ولحين اقرار قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 نجد ان نسبة 75% من سكان العراق يعملون في الزراعة وهي احصائية كشفت عنها وزارة التخطيط بعنوان ” تقييم النمو الاقتصادي ما بين عام 1950 الى عام 1970″ وحتما ان هذه الاحصائية زادت بعد قانون الاصلاح الزراعي، الا ان هذه الزيادة رافقها ضعف في الانتاجية وعدم تحقيق متطلبات الامن الغذائي في كل المراحل اللاحقة بسبب سوء التشخيص وعدم ايجاد الحلول لها من قبل المخططين.
ان عملية النهوض بالقطاعين الزراعي والحيواني خضعت بشكل كبير للمزاج السياسي للسلطة الحاكمة على مختلف المراحل، ففي العهد الملكي اصدر النظام قانون رقم (29) لسنة 1938 والذي حدد بموجبه حيازة الاراضي الزراعية الاميرية بأسماء شيوخ العشائر في حين ظل ابناء العشائر مجرد مزارعين يعملون بنظام الاجرة والسخرة واصبحت خمس عائلات اقطاعية تمتلك (68%) من الاراضي الزراعية الامر الذي انعكس بشكل سلبي على الواقع المعيشي للفلاح وضعف الانتاج، وحتى المحاولات التي قام بها النظام الملكي لتحريك عجلة الزراعة لم تحقق نتائجها ففي عام 1936 تم انشاء المصرف الزراعي من اجل تقديم التسهيلات المالية الى المزارعين وطبعا المستفيد الوحيد من تلك الاموال هم الاقطاعيون وليس الفلاحين، كما ان النظام حاول معالجة مشكلة المياه وتنظيم مداخيله فركز على إنشاء السدود واحواض المياه مثل( مشروع بخمة والثرثار ودربندخان وغيرها من المشاريع المائية) ولكن تلك المشاريع انعكست بشكل سلبي على الزراعة بسبب عدم وجود المبازل ما ادى الى زيادة ملوحة الارض (الصبخة) والتي اصبحت فيما بعد من اكبر المشاكل التي واجهت الزراعة في العراق.
وبعد ثورة 14 تموز عام 1958 حاولت الحكومة العمل على النهوض بالقطاع الزراعي بشكل علمي لكنها اصطدمت بمشكلة الاستعجال وعدم التأني والارتجالية التي تجسدت باصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم (30) لعام 1958 والذي يفتقر الى عنصر التخطيط والدراسة المستفيضة وقد تم اجراء (266) تعديلا عليه خلال السنوات الخمس الاولى من تاريخ اصداره.
وفي السبعينيات اجرت السلطة بعض المحاولات لكنها عجزت عن ايجاد الحلول الناجعة فقامت بتعديل قانون الاصلاح الزراعي بقانون جديد عام 1970 ولكن هذا القانون لم يستطيع النهوض بالقطاع الزراعي لأنها لم تكن مشكلة فنية فقط انما مشكلة تنظيمية وبامتياز.
غير ان المشكلة الكبيرة التي واجهت الزراعة في العراق كانت في الثمانينيات بسبب الاجراءات التي اتخذها النظام الدكتاتوري للحفاظ على السطلة من خلال تقسيم المجتمع الى فئات حزبية وعسكرية وعشائرية الامر الذي انعكس بشكل سلبي على الزراعة، وعمل النظام على افراز شكل جديد من اشكال الاقطاعية بعد ان قام بتوزيع الاراضي على المقربين منه من شيوخ العشائر وكذلك توزيع تعويضات بمبالغ طائلة الى اصحاب الاراضي التي صادرتها الدولة بموجب قانون الاصلاح الزراعي ووزعتها على الفلاحين مما افرز تكتلات اقطاعية جديدة مدعومة من السلطة وبالمقابل اهمال كبير للطبقة الفلاحية وبالنتيجة واجه الريف العراقي نوعا آخر من الاهمال.
اضافة الى دخول النظام في حروب مع دول الجوار وزجه بملايين الشباب في تلك الحروب ومعظمهم ينحدر من الريف واستشهاد نسبة كبيرة منهم ادى الى فقدان المجتمع الريفي اقوى مفاصله الا وهي اليد العاملة المشغلة للقطاع الزراعي وحاول النظام معالجة هذا الامر باستيراد العمالة الاجنبية واصبح عدد العمال الاجانب في العراق بالثمانينيات (6) ملايين عامل اجنبي وبعضهم عمل في القطاع الزراعي وساهم في انتاج المحاصيل بعد ان قدم النظام الكثير من التسهيلات المالية لهم، لكن السؤال الذي يطرح هنا هل ما حققه الفلاحون الاجانب في مجال الزراعة العراقية يعد تنمية زراعية ام سد حاجة المجتمع من المحاصيل؟ وهل تمكن من تحقيق الحد الادنى من الامن الغذائي في ظل الحروب التي خاضها العراق؟
الآن ومع ازدياد الحاجة للنهوض بالواقع الزراعي لتحقيق الامن الغذائي الوطني مع ما يعانيه العالم من نقص في المواد الغذائية الاساسية فان الخطط الحكومية يجب ان تسير نحو:
1. وضع خطة آنية سريعة تشمل صرف مستحقات الفلاحين وتشجيعهم على الانتاج الزراعي وتجاوز العقبات.
2. دعم مشاريع الري والبزل والاستعانة بالخبرات المحلية والعالمية خاصة في مجال استصلاح الاراضي الزراعية.
3. اجراء حملات اعلامية لتثقيف المواطن بأهمية المنتج المحلي والتركيز على الفوائد الغذائية التي تحملها المحاصيل المحلية.
4. الاعتماد على تجارب الدول الاخرى والتعاقد مع الشركات العالمية المتخصصة في الجانب الزراعي واعطاء التسهيلات بشرط ان يكون الجزء الاكبر من العاملين هم الفلاحون العراقيون مثلما حدث في مشروع الجزيرة في السودان ومشاريع المزارع الجماعية (اوجاما) في تنزانيا.
5. نقل الخبرات الفنية والتكنلوجية الى الفلاح العراقي ووضع جدول زمني لتسليف الفلاحين وفق معايير علمية مدروسة وليس بالاعتماد على اشخاص لا يملكون دراية كافية بالشأن الزراعي.
6. تشجيع القطاع الخاص والمستثمر المحلي في تنفيذ مشاريع الصناعات الزراعية بالاعتماد على الادارة الناجحة وذات خبر في مجال الزراعة.
7. الاهتمام بالثروة الحيوانية والصناعات التي تعتمد منتجات الثروة الحيوانية من خلال تقديم القروض والتمويل للمشاريع الناهضة في هذه المجال.
8. تنفيذ المشاريع التي من شأنها تقنين المياه وتوزيعه بالشكل الامثل بين المناطق الزراعية والقيام بعمليات كري الانهر بشكل مستمر.
جميع تلك الخطط اذا نفذت بشكل سليم فان هذا الامر سينعكس بصورة ايجابية على احداث ثورة تنمية كبيرة في مجال القطاع الزراعي الوطني مما يؤدي بالنتيجة الى تحقيق أمن غذائي وطني والسيادة الوطنية ما يقي البلاد من اي طوارئ وظروف قاهرة والاستفادة من التجربة الايرانية والتركية في هذا الاطار وكيف تمكنت تلك البلدان بفضل تخطيطها في بناء امن غذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي والذي مكنها من تجاوز تهديدات خارجية فما حققته ايران في مواجهة حصار اقتصادي استمر لعشرين سنة يمثل نموذجا مهما للأمن الغذائي وكذلك تركيا التي تعتمد بشكل كبير على منتجاتها الوطنية بل انها اصبحت دولة مصدرة للمحاصيل الزراعية.