يعرف القمع بفعل كيان معين باضطهاد مجموعة او فئة معينة من المجتمع بالقوة لأسباب سياسية، او دينية، او عرقية لغرض تقييد ومنع قدرة هذه المجموعة او الفئة من المشاركة في الحياة السياسية او ممارسة طقوس دينية معينة وبالتالي ينتج تقليل مكانتهم بين بقية افراد المجتمع. وفي العادة ان هذا الكيان يتبع أساليب مختلفة من انتهاكات لحقوق الانسان من إساءة ووحشية والسجن والتسوية غير الطوعية وتجريد المواطنين من حقوقهم والتطهير والعمل العنيف او الإرهاب مثل القتل والإعدام والتعذيب والاختفاء القسري والاعتداء الجنسي غيرها من العقوبات خارج نطاق القانون.
منذ اندلاع ثورة أكتوبر في العراق، والقمع بالقانون مستمر بشكل تصاعدي، حيث تزدحم السجون بصحفيين وناشطين، بانتظار محاكمة عادلة تنفي عنهم الشبهات والتهم التي عززها قانون الإرهاب الذي اعتمد على قوة حفظ القانون حينها، ولربما هذه هي الطريقة الأسهل للمليشيات الصفوية في حال لم تجد ضرورة للاختطاف أو استخدام السلاح. ان مظاهر القمع والارهاب التي تمارسها المليشيات والأحزاب الدينية والسياسية بحق العراقيين تحت انظار الحكومة العراقية الفاسدة ماتزال مستمرة في بلاد الرافدين. لم تكتف الأحزاب الدينية وميلشياتها بتصفية الناشطين، ولكن تعدى الامر الى التعرض لعوائل هؤلاء المخطوفين او المغيبين بغية تحقيق غايات معينة منها سياسية ومالية وحتى وصلت الى غايات ورغبات شخصية.
ان عوائل الناشطين والمغيبين في خطر وهذه حقيقة واضحة منذ وقت طويل وان كل عوائل المختطفين والمغيبين تخشى الحديث بشكل علني عن المطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم، وإن تحدثوا ستكون أصواتهم خائفة خشية أن يتكرر السيناريو نفسه على بقية أفراد العائلة. ان ما حدث مع علي جاسب وابوه (جاسب حطاب) خير دليل على ذلك حيث تم اختطاف على جاسب في أكتوبر 2019 من قبل مليشيا أنصار الله الاوفياء بقيادة الإرهابي حيدر الغراوي وثم قتله. الاب لم يهدأ له بال فقام بالبحث عن ابنه وبدأ بالاتصال بالحكومة العراقية فلم يستجب أحد لطلبه. الغراوي قام بتهديد الاب (جاسب حطاب) وطالبه بالسكوت، ولكن الاب لم يستجب. حتى تم قتل الاب (الأربعاء 10 آذار 2021) من قبل مليشيا أنصار الله الاوفياء. ان مليشيا أنصار الله الأوفياء هي مليشيا منشقه من مليشيا عصائب اهل الحق التي أصبحت تسيطر على المكاتب الحكومية الهامة والعديد من الشركات في ميسان. وفاز أنصارها باثنين من مقاعد مجلس النواب العشرة في محافظة ميسان، واشتهرت بالتعاملات غير القانونية، وحشد إيرادات كبيرة من التجارة الحدودية مع إيران.
ان التهديد بالقتل لم تكن هي الوسيلة الوحيدة لإسكات صوت هذه العائلات وانما تعدى ذلك الى مطالبات مالية مقابل إطلاق صراح السجين او مقابل ووعود من قبل هذه المليشيات بعدم تعريض السجين للتعذيب او الاعتداء الجنسي في داخل المعتقل وقد تصل هذه المطالب المالية الى المئة ألف دولار. ومن الوسائل الأخرى التي تتبعها هذه المليشيات المسلحة المجرمة في العراق لترهيب عوائل المخطوفين الا وهي اقتحام بيوت ذوي المختطفون والمفقودون او خطف بعض افراد عوائلهم او ضربهم او تهديدهم بتعريضهم للاغتصاب بغية ترهيب هذه العوائل واجبارهم على السكوت وعدم المطالبة بالكشف عن مصير ابناءهم المغيبين في سجون المليشيات.
سكوت الحكومة العراقية العجيب تجاه هذه العمليات الجبانة، في الوقت الذي نجدها تُقيم الدنيا ولا تقعدها لأجل عمليات أقل منها بكثير. ان عدم تدخُّل الحكومة في أغلب عمليات القتل او الخطف او التهديد يضع أمام مصداقيتها مئة علامة استفهام وتعجب؟! ان من واجب الحكومة ان تكون ملزمة بفضح هذه المليشيات وملاحقتهم والاقتصاص منهم، أو أنها تكون أمام خيارين لا ثالث لهما: فهي إما أن تكون على معرفة بهؤلاء وتتستّر عليهم خوفا منهم، وعليها عندئذ أن تتنحَّى عن كراسيها وتعلن هزيمتها أمام هذه القوى الطاغية من الأحزاب الدينية والسياسية وميلشياتها الولائية، أو أنها تكون متواطئة معهم، وتكون شريكة لتدمير العراق وأهله.
يمرُّ اليوم على العراق سنوات نحسات عجاف وأزمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فالخطف والقتل والغدر والاعتقال والخراب والدمار والسلب والنهب أصبح لازماً من لوازم العيش في بلاد النهرين، بل أصبحت جزءاً من حياة الفرد الذي أراد العيش بسلام. إن بغداد التي كانت في يوم من الأيام عاصمة العلم ومهد الثقافة وأمَّ الدنيا، تتحول أزقّتها وشوارعها إلى جحور للقتل والخطف والدمار ولقد أُبدلت الأشجار التي كانت تزيّن شوارعها بجثث تلقى على قوارعها نتيجةَ الغدر والخيانة.