ثم إن القرآن من جهة يدين ازدواجية المعيار التي يقع هو نفسه فيها، ما لم تؤول النصوص إلى غير معناها الظاهر، ومن أبرز النصوص التي تدين ازدواجية المعيار ما ورد في سورة المطففين: «وَيلٌ لِّلمُطَفِّفينَ الَّذينَ إِذَا اكتالوا على النّاسِ يَستَوفونَ، وَإِذا كالوهُم أَو وَزَنوهُم يُخسِرونَ». فهل يعقل أن يتوعد الله أهل سلوك ممقوت منه أشد المقت بحسب النص آنفا، والنص القائل: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنو لِمَ تَقولونَ ما لا تَفعَلونَ؛ كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ»، أو خطابه المشابه بالمضمون لبني إسرائيل «أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ، أَفَلا تَعقِلونَ»، ثم يمارسه هو، جلّ وعلا وتنزّه عن الكثير مما نسبت إليه الأديان؟
من هنا لا يبقى لنا إلا التسليم بتأصيل مرجعية العقل وأولويته وحاكميته على النص.
ولو تأملنا في مضامين النصوص القرآنية الثمانية آنفا، لوجدنا أن المسلمين هم أكثر من يمارس ما تدينه هذه النصوص، أكثرهم من حيث لا يشعرون.
فتتبعا للنصوص آنفا نجد أن المسلمين يتبعون ما ألفوا عليه آباءهم، حتى لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ونجدهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما تقره قواعد العقلانية ومثل الإنسانية، قالو حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، حتى لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون. وإذا فعل بعض المسلمين فاحشة من قبيل انتهاك حقوق الإنسان، أو استخدام العنف، أو ظلم المرأة، أو ما شابه، قالوا وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها، بينما الله لا يأمر بانتهاك حقوق الإنسان وحقوق المرأة أو حقوق أتباع الديانات الأخرى، أفيقولون على الله إذن ما لا يعلمون؟ وعندما يُدعى المسلمون إلى قيم العصر من ديمقراطية وعلمانية وحرية ومساواة، قال كثير منهم أجئتمونا لتلفتونا عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكم أيها العلمانيون الكبرياء والسلطة في البلاد، وما نحن لكم بمؤمنين. ونجدهم إذا قيل لكثير منهم ما هذه الأضرحة التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها زائرين، وبها متبركين، ولأصحابها مشفِّعين، فيا ترى حتى لو كانوا هم وآباؤهم على خطأ مبين. ونجدهم إذا قيل للكثير منهم ممن تطلبون حاجاتكم، قالوا نطلبها من أئمة وأولياء، فنظل لقبورهم عاكفين، فهل يا ترى يسمعونهم إذ يدعونهم أو ينفعونهم أو يضرون، فيكون جوابهم بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. كما ونجدهم إذا قيل لهم اتبعوا ما جعل الله من العقل حجة على الناس، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ويقول به فقهاؤنا، حتى لو كان علماءهم وفقهاءهم ومراجعهم يدعونهم إلى ما لا ينفعهم، بل قال الكثير منهم إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما خاطبهم من قبل من محاور بالعقل أو ناصح، إلا قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، أفحتى لو جيئوا بأهدى مما وجدوا عليه آباءهم، فسيقول أكثرهم، إنا بما جئتم به كافرون.
هنا استخدمت نفس النصوص القرآنية بتصرف للمقارنة، والاستدلال على أن كل أصحاب الدين المتعصبين لدينهم، وغير المستعدين لمراجعة مسلماتهم وموروثاتهم، إنما يسلكون سلوكا متشابها، بما في ذلك أتباع الكتاب الذي يدين هذا النوع من السلوك، دون أن أريد التعميم والإطلاق، بل هو تشخيص للواقع الغالب.