18 ديسمبر، 2024 9:00 م

ازدواجية الشخصية العراقية، حقيقة أم توهم !؟

ازدواجية الشخصية العراقية، حقيقة أم توهم !؟

 ما أن يكون الحديث عن العراقي وسلوكه إلا ويرد فيه ذكر لما قاله العلامة العراقي علي الوردي عن ازدواجية الشخصية العراقية. لا أدعي معرفتي الوافية عن شخصية هذا العلامة وعن أفكاره بعمومها وهذا لن يكون مهما قرأنا عنه، إذ تبقى جوانب من حياة أية شخصية تاريخية أو معاصرة غير معرفة بدقة إلا في حالات إستثنائية. إنما وجهة نظر العلامة عن الشخصية العراقية قد صارت محوراً مهما يتناوله من عاصروه من المثقفين وغير المثقفين وحتى يومنا هذا.
    طرح الوردي وجهة نظره في الشخصية العراقية في أنها إزدواجية، وقد قدم تحليله لرؤيته هذه، وطرح الأسباب التي تجعل العراقي يعيش في متناقضات كان للعوامل البيئية والثقافية الأولوية فيها، ما جعل المواطن العراقي يواجه صعوبات وربما صراعات بين متطلبات ما تفرضه حياة البداوة من جانب والحضارة من جانب آخر، وغيرها.. المهم أن الجدل الذي أثير حينها والإنبهار لم يعد كما كان حينه إلى حد كبير، لماذا، ربما لاطلاع الكثيرين ممن لا يكتفون بتلقي وقبول فكرة ما أو رأي من جهة واحدة، وبعد أن أصبحت المعرفة متاحة للجميع بشكل أسهل وأسرع، مما ساعد على فهم ما أراد به الوردي، بل وأكثر. والسبب الآخر أن من العراقيين من استقبلوها فكرة وقبلوها واستقرت نفوسهم عليها، ما نجم عنه أن بعض ممن يدعون الثقافة يرون بصواب هذا الرأي مئة بالمئة، وتوهموا أن الشخصية العراقية إزدواجية ولا رجعة في ذلك. والغريب، بات البعض يردد هذا القول وإن كان يجهل أساساً مفهوم الشخصية الإزدواجية، ولماذا حتى ضربت صفةً على العراقيين، مع جهله بأصل الرأي وما وراءه، وأخذ يسلك سلوكاً متناقضاً ومبالغة رغم وعيه بخطأ ما يرتكب، واعترافه به، وعندما يسأل عن سبب تمسكه بسلوكين متناقضين يعتقد وعن وعي بخطأ أحدهما وصواب الآخر، يكون الرد، إن هذا سلوك طبيعي، فأنا عراقي، والشخصية العراقية إزدواجية بحسب العلامة علي الوردي. طبعاً وبالتالي ليجد مثل هذا المبرر الجاهز لسلوكه المتناقض وباستمرار، فيتخلص من النعت الحقيقي لمثل هذا السلوك بأنه لا أخلاقي. لا أظن أن العلامة الوردي قد عنى هذا السلوك في وصفه للشخصية الإزدواجية. وإن كان لا بد من البيان، فالشخصية الإزدواجية هي شخصية مريضة تعاني إضطراباً نفسياً لسبب أو لأسباب معينة. يسلك المريض وفق شخصيتين أو أكثر لكل منها مواصفاتها وتاريخها وأهدافها التي تختلف عن الأخرى. المهم، أن المريض لا يعي ما يقوم به على وفق كل شخصية. وبالتالي فالمريض يكون بحاجة ماسة للعلاج والعودة للحياة الواقعية لشخصيته الأصلية، وعادة ما يكون هذا صعبا. ويمكن من خلال هذا التحديد البسيط لمفهوم الشخصية الإزدواجية إدراك أن الإنسان العادي الطبيعي لا يمكن أن نصفه بالإزدواجي، رغم أن أية شخصية طبيعية تعيش الكثير من التناقضات الطبيعية التي لا تؤثر في سلامة بنائها أو تكوينها النفسي، ولا تحدث فيها خللاً عقليا. فالإنسان الطبيعي يحب ويكره، يجامل حينا، ويكون حديا حينا آخر، يتخذ قراراً ويرجع عنه… كل ذلك في مستوى مناسب من الوعي والصحة النفسية. وإذا ما عرفنا أن نمط أية شخصية يستدل عليها من خلال مؤشرات، وتشخص من خلال معايير معينة، وعند الكشف عن الشخصية في كونها سوية أو تعاني خللاً ما، فإن تجاهلنا معياراً مهماً في التشخيص السريري والذي يعتمد الفحص والاختبار، فلا يمكن تجاهل المعيار الاجتماعي، فعلى أساسه يقاس توافق وتجانس سلوك الفرد مع السلوك الاجتماعي العام، وبالتالي يمكن الحكم في كونه سلوكا سويا أو غير سوي. فإن كان السلوك سائد لدى أغلبية أفراد المجتمع، قيل به كصفة عامة مقبولة من الأغلبية إن لم يكن من الجميع. والسؤال، إذا كانت الشخصية العراقية في فترة معينة من الزمن وتحت ظروف معينة قد اتصفت بالإزدواجية، فهل يصح القول بذلك على مر العصور وبمختلف الظروف. وماذا ستكون عليه أية شخصية إن صحت الظروف.
   الدراسات العلمية النفسية الإجتماعية تؤكد أن الناس بمختلف أجناسهم وتنوع أصولهم أفراداً أو جماعات ومجتمعات، يمكن أن تصح نفوسهم إذا ما توافرت لهم البيئة السليمة المناسبة. وعكس ذلك صحيح. وسؤال آخر، هل أن القائل برأي العلامة علي الوردي يعتقد أن للوراثة دخل فيما تعانيه الشخصية العراقية؟ وهنا لنا وقفة مهمة، ذلك لا يمكن أن يكون بناءا على نتائج الدراسات العلمية في ميدان الشخصية والصحة النفسية والقدرات العقلية، لم تشر الدراسات إلى أن التكوين العقلي الفسيولوجي للإنسان العراقي قد شذ مختلفاً عن باقي خلق الله من الناس، ليسلك في أية ظروف بما لا يشبه أحداً!! .
    إن ما حدث للشخصية العراقية سواء في ذانك العصر أو ما يحدث لها اليوم هو ما صنعته به ظروف حياته القاسية على جميع الأصعدة وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والتربوية.. وأي فرد أو مجتمع إن مر بنفس ما مر به العراقيون، لضرب عليه الوصف نفسه. من المعروف أن لكل مجتمع ما يشتهر به من صفة عامة، أو وصف يميزه كل تبعاً لما نشأ عليه.
   أقول، إن اتسمت شخصية العراقي في زمن ما بالإزدواجية، فبماذا يمكن أن نصفها في أزمنة الحضارات قبل آلاف السنين عندما كان الإنسان العراقي إنموذجا يحتذى، وبماذا يمكن أن نصف الشخصية العراقية وقد سلبت اليوم كل ذلك وهي تعيش بين المطرقة والسندان، في خوضها الحروب القاسية بين مطارق الإرهاب وسنادين العوز والحرمان. ما عاد الصراع بين ثقافتي البداوة والحضارة هو ما يصنع شخصية العراقي المعاصر بأي نمط وبأية سمة.
  أعود لأقول كل فرد أو مجتمع له ما يميزه، وما يعيبه، وتتدخل عوامل الوراثة البايولوجية والبيئة بكل مكوناتها سلباً أو إيجابا، وإيما يكون الوصف إن صح أو لم يصح، فلا يمكن أن يكون وصفا أبدياً، كما لا يمكن أن ينعت أو يوسم شعب أو أمة بأكملها وعلى مر العصور بالمطلق، لأن ظروف الحياة تتغير، ربما نحو الأحسن فتصح الشخصية ويصلح حالها، أو إلى الأسوء فتضطرب وتضطرب أحوالها، إنما ليس بأكملها، وليس إلى الأبد.