ما يسجل على الاسلام من ازدواجية فكرية وتطبيقية ترمي عليه شكوكا كثيرة حول المصداقية الانسانية لهذا الدين، وادعاء النصوص القرانية والاحاديث ورجال الدين بان الاسلام فرض على الجميع وهو ناسخ الاديان ورسالته انسانية كاملة وشاملة لكل شعوب الارض ولكل زمان ومكان تصورات غير واقعية وبعيدة كل البعد عن مسالة الفهم الانساني التي تربط جميع البشر بحق الوجود والحياة والعيش والامن والسلام على هذا الكوكب النابض بشكل من أشكال الحياة النادرة في الكون الواسع الخارق الابعاد في الزمان والمكان، كوكب مسخر لكل انسان خلقه رب العالمين بغض النظر عن اللون والدين والعرق وهذا هو الواقع الحقيقي للحياة الذي يلمسه الانسان ويعيش فيه منذ عشرات ومئات الالوف وملايين السنين، ولكن هذا الواقع في الاسلام مكبل ومقيد بقيود قاتلة فرضتها النصوص والتراث العقائدي، والمشكلة ان بعض اهل الاسلام يدعون الكمال والعدالة في جانب وفي الجانب الاخر يحملون سيوفا بتارة لضرب اعناق اقوام من الاخرين ويآيات موجهة، في مشهد غريب لا يمكن تفسيرها سوى بالازدواجية القاتلة التي تسود هذا الدين وهي لم تجلب غير الحقد والكراهية والبغضاء وسحق الانسانية لعموم شعوب المنطقة، والهاجس المتحكم هو مخيلة غيبية لا تحكمها عقل ولا منطق والحقيقة العقلانية غائبة تماما.
وهذا الدين المستند الى الغيبيات والازدواجيات منذ ظهوره والى حياتنا المعاصرة لم يقدر على تقديم نموذج انساني متكامل عن المجتمع اوالدولة التي تجمع بشرا وشعوبا بكل الوانها العرقية والدينية واللونية المختلفة تحت خيمتها، ولم يقدر على تقديم نظام سياسي ناجح مسخر لخدمة الانسان قادر على ضمان سلطة عادلة عن طريق الانتقال السلمي للحكم دون عوائق، وكذلك لم يقدر على تقديم نموذج نظام اقتصادي معبأ لخدمة الانسان قادر على توفير مستلزمات الحياة الاساسية وضمان العدالة الاجتماعية للجميع، وفوق هذا لم يقدر ايضا مثل بقية الاديان على رسم صورة متكاملة لتفسير الحياة والانسان والكون وفق معطياتها الصحيحة لرسم صورة استدلالية عن الخلق ومدلولاته الحياتية والكونية عن الماضي السحيق وعن الحاضر وعن المستقبل، علما ان المعرفة الانسانية استغرقت الاف السنين من المشاهدة والتجربة والخبرة والجهود الفاعلة لرسم صورة بالفهم الصائب عن الانسان والحياة والكون وفق المعطيات الحقيقية الصحيحة.
وللاستدلال على ازدواجية واشكالية هذا الدين بسبب مذاهبه، نمر بأربع نماذج كبيرة مذهبية عائدة للاسلام في الشرق الاوسط وكل نموذج يحتل مساحة كبيرة وتحتوي نفوسا كثيرة بعشرات الملايين، والنماذج هي اولا في بلاد ايران نجد النموذج الشيعي هو المتغلب وصاحب السلطة والبقية مكونات وأقليات ليست لها دور مؤثر، وثانيا في بلاد تركيا نجد النموذج السني المتصوف هو المتغلب وصاحب السلطة والبقية ليست لها دور، وثالثا في الخليج النموذج السني الوهابي هو المتغلب وصاحب السلطة والبقية ليست لها حضور ملموس، ورابعا في العراق وسوريا ظهر بالسنوات الاخيرة النموذج الداعشي للخلافة وكاد ان يصبح صاحب سلطة مطلقة وعلى مساحة شاسعة في العراق وسوريا لو لا التحالف الدولي وشجاعة القوات الكردية من البشمركة وشرفانان والكاريلا وقوات الجيش العراقي.
والغريب ان هذه النماذج متجاورة مع بعضها، ولهذا نقول هل يعقل ان تكون وليدة الصدفة ؟، وهل يعقل ان تكون وليدة أحداث تاريخية وضرورات جيوسياسية معينة استوجبت ظهورها، وهل يعقل ان تكمل النماذج الثلاث بمحض الصدفة مع نموذج رابع لم يكن مألوفا في السابق ؟ أسئلة كثيرة محيرة تتبادر حول هذه النماذج، والمشكلة لم تتجرأ مرجعية او مرجع او مركز على اجراء تقارب جاد فيما بينها في سبيل ازالة اجواء التوتر التي تسود فيما بينها منذ قرون وعقود عديدة، ولاينكر ان معارك وحروب قد شنت بسببها في الماضي وجلبت معها كوارث ومآسي انسانية كبيرة على شعوب بالمنطقة.
والمؤكد ان اتهام الاسلام بالارهاب ليس وليد الفراغ وليس وليد اليوم، وخاصة فيما بتعلق انتشاره بحد السيف، وآيتين من سورة التوبة متهمتان رئيسيتان في هذا الشأن، وتشكلان بالنص الوارد فيهما قمة التطرف، والنص القرآني المبين بقتل اهل الكتاب وغير المسلمين نص صريح، ولا ندري ان كان الامر الالهي هكذا بحق أهل الكتاب فكيف الحال بأهل الاديان غير السماوية، والآية “قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” التوبة:29 المعروفة بآية الجزية تحمل نصا واضحا لا لبس فيه بالقضاء على أهل الكتاب من النصارى واليهود وعلى الاخرين ممن لا يؤمنون بالاسلام ولا يعطون الجزية، والاية الاخرى “فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” التوبة:5 المعروفة بآية السيف تحمل نصا الزاميا بقتل غير المسلمين كافة وكأن المسألة أمر الهي محتوم بالقضاء تماما على الاخرين من غير المسلمين، وهم بشر ينتمون للبشرية التي اوجدها رب الكون بشعوبها واقوامها والوانها واعراقها واديانها ومذاهبها المختلفة على الارض وهي نفوس تعد بالمليارات في يومنا هذا.
وبالرغم من العنف الشديد في تلك الايات الا ان الواقع الاسلامي لم يشهد صراعا ولا ارهابا في القرن الماضي الا بعد الغزو السوفيتي لافغانستان حيث ظهرت المقاومة الاسلامية باسم الجهاد بدعم من الاستخبارات الاقليمية والدولية، وما لبث ان تحول الجهاديون الى ماكنة تفقيس لتفريخ التطرف والارهاب باسم الاسلام، وبعد خروج الروس عاد هؤلاء الارهابيون الى بلدانهم وانطلق الارهاب منهم وبدأت العمليات الانتحارية والهجمات الاجرامية تضرب بالابرياء بهمجية وبربرية لم تراعى فيها ذرة من القيم الانسانية والدينية، وبفعل هذه الممارسات اللاانسانية الشنيعة تعرض المسلمون الى اوضاع سيئة واتهم الاسلام بالعنف والتطرف واحتضان الارهاب بسبب نصوصه الدالة على العنف والقتل المستباح.
ومن هذا المنطلق نجد ان الواجب الانساني وحماية الاسلام من التطرف والارهاب يقضيان من باب الايمان بالمباديء الاساسية التي تخدم الانسان والبشرية مراجعة جوهرية وتجديد للفكر والنص الاسلامي، وضرورات الايات ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” البقرة:185، والاية ” ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ” عبس:20، والاية ” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ” البقرة:286، والاية ” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ” الطلاق:7، تؤيد بشدة هذه المراجعة، واستنادا الى الفلسفة العميقة التي تلوج بمحتوى الآية الاولى، فان ضرورات اختزال الايات باتت ضرورة انسانية واسلامية ملحة وذلك من خلال حصرها بايات الرحمة والانسانية والسلام والعبادات والعمل الصالح وغيرها من الايات المتعلقة بشؤون المسلم على مستوى ايمان وعبادة الفرد وهو حق مشروع، وذلك لابعاد الاسلام عن افكار العنف التي تحيط بنصوصه المدونة، والضرورة الاخرى التي تحتم على المرجعيات والمراجع التجديد والمعاصرة هي المسايرة الحيوية والضرورية للتطور الحضاري وتقدم المعارف الحديثة وخاصة علوم الكيمياء والفيزياء والفلك حيث بتنا نتعرض الى صدمات عنيفة تذهل العقول امام الاكتشافات الجليلة التي ترهب القلوب عن الذرة وجسيمات نواتها ونشأة الحياة وعن الكون ونجومها ومجراتها وما فيه من اسرار وطلاسم باتت مكشوفة الان للانسان.
ولهذا لابد من البدء بتجديد الدين استنادا الى معاصرة علمية وحداثة عقلية، ولاشك ان القيام بهذا العمل الشاق يتطلب الشجاعة والمسؤولية التاريخية للقيام باصلاح فعال وجذري في مفهوم الفكر والتراث لاخراج الحسنات من النصوص الباعثة على الامل والانسانية وابعاد السيئات من النصوص التي تقف وراء العنف والقتل والممارسات الارهابية، ولهذا الغرض الانساني النبيل نطرح الخطوات التالية لايجاد معالجة جذرية للتعامل مع النصوص الاسلامية وهي تنحصر بما يلي:
أولا: فرض حل جذري متصف بالمدنية والحداثة للواقع التطبيقي والفكري للاسلام المتأزم وهو خيار الفصل بين الدين والدولة كقرار حتمي لكل شعب من شعوب العالم الاسلامي، واعتبار الدين شأنا فرديا بين الانسان ورب العالمن وهذا الحق له حرمته وحريته في حدود الاعراف والعبادات الفردية.
ثانيا: تجميد الاحاديث النبوية وايقاف العمل باحكامها ونصوصها بسبب الاختلافات المذهبية والطائفية التي تخلفها هذه التشريعات الدينية ولو هي اساسا قد منعت من قبل النبي محمد (ص) كتابتها وتدوينها والعمل بها لتجنب الخلط والتداخل بينها وبين القران.
ثالثا: اعتبار جميع الايات الدالة على العنف والقتل والجهاد والنفير والتي لا تلائم العصر بمعانيها ومدلولاتها ايات منسوخة تماما لا يمكن العمل بها لورود نصوص معاكسة لمعاني تلك الايات المتسمة بالعنف، والغاء جميع التفسيرات واخراج تفسير جماعي من قبل ذوي اهل الاختصاص من كافة المعارف والعلوم الدينية والانسانية والعلمية.
وفي الختام نأمل من المراجع الموقرة والمراكز الاسلامية الانفتاح الفكري والتفاعل بمرونة شديدة ومفهومية واسعة مع متطلبات العصر من كافة النواحي الروحية والدينية والنفسية والحياتية والمعيشية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وباسلوب متمدن وبطريقة علمية ومنهجية بحثية وبعقلية منفتحة ومنطقية وحكيمة، وذلك لكي تتجلى القيم والمباديء الانسانية باحلى صورها وجمالها وقيمها وسلوكياتها وممارساتها في حياة المسلم المعاصر، وآخر القول في هذا المقال هو لابد من عصرنة الاسلام واختزال النصوص وازالة الغيبيات من التراث القديم وابتعاث فكر جديد لتجديد الاسلام، والاية الكريمة “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” الحجرات:13 خير ما ننهي بها المقال، والله من وراء القصد.