23 ديسمبر، 2024 9:29 م

الفهم القاصر لمنهج القرآن الكريم في معرفة متفرقاته التي تشير إلى أبواب الحياة الخافية على كثير من الناس يجعل المتلقي لا يكاد يخرج من المأثور العقيم أو المستجدات التي تجانب الحقيقة في طرحها، وبناءً على هذا الإتجاه ظهرت الفلسفة الغامضة على العامة من الناس والتي تجعل تلك المتفرقات لا تتعدى الجانب العبادي وإن شئت فقل الجانب الأخلاقي الذي يُستمد من الكبرى على أقل تقدير.
ولهذا ظهرت المدارس الفلسفية والكلامية على اختلاف اتجاهاتها ومشاربها دون أن تلامس الواقع المراد من دلالات الحكمة التي ذكرت في الكتاب المجيد، وعند البحث في مقاصد أصحاب تلك المدارس نجد أن الدعوة إلى اجتناب الحياة وما فيها من مستجدات تجعل القرآن الكريم أقرب إلى الموسوعة الفقهية التي لا يمكن لها الخروج عن الالتزام بأمر من وضع أهدافها، أو من الرؤى الحاكمة على استنباط ما ورد فيها من احكام.
وعند الأخذ بهذا الاتجاه لا يمكن أن نخرج القرآن الكريم عن الكتب الفلسفية التي لا يحيط بها إلا أصحابها، وإذا ما أردنا الابتعاد قليلاً عن هذا النهج يصبح القرآن هو المصدر المعتبر في حضارة الأمة التي نزل فيها وتفرع منها دون الرجوع إلى متطلبات الحياة الآنية التي هي وليدة حضارة هذه الأمة بجميع أبعادها دون النظر إلى المقاصد الدينية. وعند التسليم بما بينا نفقد التأثير المراد طرحه إلى من لا يجيد المعارف القرآنية فضلاً عن أولئك الذين يجيدون تلك المعارف دون الرسوخ في تأمل آيات الكتاب المجيد. وبناءً على ما مر تظهر النكتة في قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين***ولتعلمن نبأه بعد حين) ص 87-88. والفرق الوارد في الآيتين بين الذكر والنبأ يبين ما قدمنا من الاختلاف القاصر في فهم الاتجاه المعرفي لكلا الجانبين.
من هنا نعلم أن الدعوة التي نزل من أجلها القرآن الكريم لا يمكن صرفها فقط إلى الأحكام الفقهية التي تبين الفعل والترك دون الالتفات إلى ما يحصل في طرق الحياة واختلاف الناس في اتجاهاتها، وأنت خبير من أن هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون لأناس دون غيرهم، وهذا من أهم الأسباب التي أدت إلى عموم الدعوة، كما بين ذلك تعالى في قوله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) سبأ 28. ولا يستقيم هذا الإرسال إلا بوجود كتاب يعالج جميع المستجدات التي تمر بها الحياة لأجل أن تتم المعرفة الكلية لهذه الدعوة، وهذا النهج يجعل الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم أقرب إلى تحصيل الحاصل إذا ما قرن بالأهداف المرادة من العموم الذي أشارت إليه الآيات آنفة الذكر التي وردت في سورتي.. ص وسبأ فتأمل.
من هنا يظهر أن الأخذ بهذه الأهداف يصل بنا إلى تفسير شامل نفهم من خلاله مماثلة التأثير الإيجابي لأصحاب الشريعة الذين نزل القرآن بين أظهرهم وكذا أصحاب الشرائع الأخرى، فإن قيل: كيف يمكن معرفة النتائج المترتبة على هذا الطرح؟ أقول: يفهم هذا من الترقي الظاهر في أمثال القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) البقرة 265.
وعند تأمل الآية الكريمة يظهر أن الجزء الأول منها يشير إلى النفقة ابتغاء مرضات الله تعالى، أما الجزء الثاني فهو كالنتيجة لما يتحقق خارج السياق. إلا أن الأنظار السالبة لا تراعي النتائج بقدر ما تريد أن تظهر الأسلوب البياني لما يتحقق في اللغة العقيمة دون النظر إلى الأبعاد التي تشير إليها الآية. وبناءً على ما تقدم يظهر أن جميع الآيات التي هذا شأنها لا يمكن أن نجعلها شاهدة على الأسلوب البلاغي دون غيره من الأساليب التي تبين العموم، وإن شئت فقل تلك التي تمهد إلى فهم النكات القرآنية لأصحاب اللغات الأخرى. وقد نجد هذا النهج يلازم الدلالات القرآنية في جميع الاتجاهات الفلسفية أو الكلامية، وكذا في المعارف الظاهرة لجميع الناس أو ما يقابلها من وجوه خافية لا يمكن الوصول إلى نتائجها إلا عن طريق البرهان.
من هنا يمكن القول إن الإتجاه الثاني قد يأخذ الأبعاد العميقة دون الرجوع إلى أصحاب النظرية الأولى الذين أشاروا إلى الموعظة الحسنة التي لا تخفى على كثير من الناس، أو تلك التي تظهر فطرياً عند قراءة النص دون التأويل. وبناءً على هذا الفرق نجد أن القرآن الكريم يشير في كثير من آياته إلى الكيفية التي يعالج من خلالها تلك الاتجاهات التي مرت بها الإنسانية، كما في قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) الحديد 25. وكذا قوله: (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) الشورى 33. ومن جانب آخر نجد أن أبعاد هذا البيان لا تتقارب مع الأفق الخاصة التي يتمسك بها أصحاب النظريات السالبة، كما في قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف 31.
وفي الآية إشارة عظيمة إلى الجانب الايجابي في طريقة الأكل والشرب وعدم الإسراف فيهما، ثم يبين القرآن الكريم ما يطلق ذلك التقييد، في قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك 15. وقوله تعالى “فامشوا” وكذا قوله “وكلوا” ظاهر فيهما الترتيب الذي أشار إليه في الآية 31 من سورة الأعراف، ثم أخذ القرآن الكريم في الترقي حتى وصل إلى الركض الذي فيه نوع من الإشراف على المشي، كما في قوله تعالى: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) ص 42. وفي الآية مجموعة من الآراء أعرض لها:
الرأي الأول: قال أبو حيان في البحر المحيط: (اركض برجلك) فركض فنبعت عين، فقلنا له: (هذا مغتسل بارد وشراب) ثم يضيف: ومعنى (هذا مغتسل) أي ما يغتسل به (وشراب) أي ما تشربه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك وبشربك يبرأ باطنك، والظاهر أن المشار إليه كان واحداً، والعين التي نبعت له عينان، شرب من احداهما واغتسل من الأخرى، وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل وباليسرى، فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: (مغتسل بارد) فانه يدل على انه ماء واحد، وقيل أمر بالركض ليتناثر عنه كل داء بجسده. انتهى.. أقول: العين الحارة التي نسبها إلى قيل ذكرت في كثير من كتب التفسير التي أشرنا إلى عدم اعتمادها في بحثنا.
الرأي الثاني: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: (اركض برجلك) الخ مقولة لقول محذوف، أي قلنا له اركض برجلك، وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه، والركض: الضرب في الأرض بالرجل، فقوله (برجلك) زيادة في بيان معنى الفعل مثل: (ولا طائر يطير بجناحيه) الأنعام 38. وقد سمى الله ذلك استجابة في سورة (الأنبياء 84) إذ قال: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر) وجملة هذا مغتسل مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول، وفي الكلام حذف دلت عليه الإشارة، فالتقدير: فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له: هذا مغتسل بارد وشراب، فالإشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب. ووصف الماء بذلك في سياق الثناء عليه مشير إلى أن ذلك الماء فيه شفاؤه إذا اغتسل به وشرب منه ليتناسب قول الله له مع ندائه ربه لظهور أن القول عقب النداء هو قول استجابة الدعاء من المدعو، ومغتسل اسم مفعول من فعل اغتسل. انتهى.. ومن أراد ما تبقى من البحث فليراجع تفسير التحرير والتنوير.
الرأي الثالث: قال الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب).. وقوع الآية عقيب ندائه ومسألته يعطي أنه إيذان باستجابة دعائه، وأن قوله تعالى: (اركض برجلك) الخ حكاية لما أوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة، أو هو بإضمار القول والتقدير فاستجبنا له وقلنا: اركض الخ. وسياق الأمر مشعر بل كاشف عن أنه لا يقدر على القيام والمشي بقدميه وكان مصاباً في سائر بدنه، فأبرأ الله ما في رجليه من ضر وأظهر له عيناً هناك وأمره أن يغتسل منها ويشرب حتى يبرأ ظاهر بدنه وباطنه.. ثم يضيف: وفي الكلام ايجاز بالحذف والتقدير فركض برجله واغتسل وشرب فبرأه الله من مرضه. انتهى.
فإن قيل: لماذا ذكر تعالى صفة (بارد) للمغتسل دون الشراب؟ أقول: قوله تعالى: (بارد) صفة للمغتسل والشراب معاً، والقرينة العقلية تدل على ذلك، كما في قوله تعالى: (متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب) ص 51. وبهذا يظهر فساد من ذهب إلى أن في أكل الفاكهة فوائد كثيرة دون الشراب.