هناك تفاهم عربي متماسك تجاه الأطماع الإيرانية التي نجحت في السيطرة على عواصم تاريخية هي بغداد ودمشق وصنعاء.
مجرّد الترحيب بالعراق والتأكيد على عروبته في القمة العربية الثامنة والعشرين التي انعقدت في الأردن يعتبر ضربة كبيرة للتيارات الطائفية الحاقدة التي بالفطرة ترفض كلمة “عربي”. هذا التوجه الجديد الذي تقوده المملكة العربية السعودية نحو العراق يعتبر غير مطمئن بالنسبة إلى التيارات الطائفية.
بعض المثقفين العراقيين يرحبون بقومية كردية ويرفضون القومية العربية، يرحبون بالإسلام الإيراني ويرفضون الإسلام العربي، يرحبون بدكتاتور سوري كبشار الأسد ويرفضون الدكتاتور العراقي، يرحبون بأميركا تدعم الميليشيات وفرق الموت ويرفضون أميركا كحليف قوي للخليج، يرحبون بديمقراطية محاصصة طائفية ويرفضون ديمقراطية تأتي بإياد علاوي العروبي إلى الحكم.
الترحيب القوي بالعراق في القمة العربية تمثل في لقاء على هامش القمة بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، مع صور حميمية انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي العراقية بين الزعيمين العربيين، والضغط الأميركي بهذا الاتجاه لا يُعتبر ضربة قوية للإرهاب والتطرف فقط، بل ضربة كبيرة للثقافة العراقية السائدة اليوم والتي تضغط بتشجيع من إيران لعزل العراق عن محيطه العربي.
أميركا على الأرض تزاحم النفوذ الإيراني في العراق، والعرب يسحبون بغداد بالمشاريع والعلاقات التجارية وروابط الأخوة واللغة والهوية. السؤال هو هل تستسلم إيران هكذا بسهولة؟ عندها الميليشيات العراقية المسلحة والكل ينتظر. ويتوقع بعد داعش أن يفقد قادة الميليشيات الشيعية صبرهم ويفجروا السفارة الأميركية ببغداد أو يخطفوا جنودا أميركيين في العراق.
سنة العراق قد تعلموا الدروس والعبر من أخطائهم السابقة. لا يوجد اليوم صوت لـ”مقاومة احتلال أميركي” ولا “فلوجة العز مقبرة الأميركان” ولا حديث عن ملائكة تقاتل معهم ضد الأميركان. لقد وضعوا ثقتهم بالزعماء العرب لحل الأزمة العراقية ضمن صفقة تشمل احتواء جميع الطوائف والأديان في هوية عروبية جامعة.
العراق يستعيد مساره
لقد فهم السنة أن السّلاح والسلوك الفردي المتطرف وردّات الفعل الثأرية ستعرّض مدنهم لخطر الإبادة والقصف الدولي وأن إيران ستسحقهم بميليشياتها ولن يتدخل أحد لحمايتهم بسبب استسلامهم للأخطاء السياسية. إن الانضباط السني هو الخلاص الأخير في عراق المستقبل حتى يصبح التفاوض العربي ممكنا.
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قال في القمة العربية إنه “يجب التصدي بحزم للنفوذ الإيراني المتصاعد في المنطقة بقوة”. هناك تقارب سعودي-مصري واضح خصوصا بعد عودة المنحة النفطية السعودية إلى القاهرة والتي تقدر بحوالي 700 ألف طن شهريا حيث انقطعت لأكثر من ستة أشهر.
هناك تفاهم عربي متماسك تجاه الأطماع الإيرانية التي نجحت في السيطرة على عواصم تاريخية هي بغداد ودمشق وصنعاء. ويبدو رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي متفهما لخطورة التهديد الإيراني على المنطقة ومستعدا للانضمام إلى مشروع عربي شامل يضمن الاستقرار في الشرق الأوسط.
روسيا وإيران في حالة صمت مريب كما لو أنهما تخططان لعدوان جديد في المنطقة. فقد قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف “إن روسيا يمكن أن تستخدم قواعد عسكرية إيرانية لتنفيذ ضربات جوية ضد متشددين في سوريا على أن تكون كل حالة على حدة”.
أي أن إيران ما زالت تحاول الاستثمار في مسألة الإرهاب رغم تحذير الإدارة الأميركية بأنها لا ترحّب بمقاومة طائفية للإرهاب السني تجعل منه أكثر انتشارا وتؤدي إلى ظهور إرهاب شيعي متمثل بالميليشيات. ثم أن الاحتماء بروسيا الاتحادية يكشف مقدار القلق الإيراني من التحالفات العربية الجديدة.
السؤال الملحّ الآن بالنسبة إلى العراقيين هو أنه ومنذ عام 1980 وبلادهم في حرب، بعد مرور 37 سنة من الحروب والحصار يبدو الشعب العراقي أقرب إلى المشروع السعودي من الإيراني. ولمسنا ترحيبا بزيارة الوزير السعودي عادل الجبير إلى بغداد على الصعيد الشعبي، لأن السعودية تسعى إلى السلام والرفاه بينما المشروع الإيراني يريد زجّ العراقيين بالمزيد من المواجهات والحروب وثارات الحسين. نلاحظ انشقاقا شيعيا متصاعدا في هذا الشأن من خلال التيار الصدري والوطنيين الشيعة ضد الهيمنة الإيرانية.
العراقيون متعبون من الحروب الدائمة والصراعات المذهبية، والسعودية تلمّح بإلغاء الديون وفتح العلاقات التجارية وتسهيل عقود العمل والسفر. اليوم، يتساءل العراقيون حتى عن المحاصصة السياسية ونظامهم الديمقراطي الهجين الذي أدى إلى كل تلك المآسي.
تخيل لو نذهب إلى ألمانيا في القرن السادس عشر قبل الثورة الصناعية والفلسفية والعلمية ونُسقط الملك الألماني ثم نُعلن دولة ديمقراطية بالقوة، وألمانيا حينها كانت مسيحية كاثوليكية وبروتستانتية. ألن تكون في البلاد حرب أهلية بين الكنيستين؟ نحن بحاجة إلى إعادة نظر في هذا النظام الطائفي الديمقراطي الذي أدى بالعراق إلى حروب دينية.
لا شك بأن حيدر العبادي ينظر بعين حزينة إلى مدينة الموصل التي تحترق أمام عينيه. إن هزيمة داعش نبأ سعيد بكل تأكيد، ولكنه يأتي على خراب الموصل ثاني أكبر المدن العراقية وأهمها.
الوهم الأيديولوجي العراقي يجب أن يتوقف، وعلى العراقيين الإصغاء إلى أشقائهم العرب والسماح لأنفسهم بالتعلم من أنظمة وحكومات عريقة في المنطقة.
نحن نعلم بأن التنوير الأوروبي قد تصاعد في القرن التاسع عشر إلى درجة حصار الكنيسة ولهذا السبب حدث فراغ ثقافي في المرحلة بين انهيار الكنيسة وصعود الرأسمالية، فظهرت الأيديولوجيا لتحل مكان الدين (النازية والفاشية والشيوعية) واستدعى ذلك حربين كونيتين حتى استقر النظام الليبرالي الحديث.
نحن بالمقابل انتقلنا في العراق من الدكتاتور إلى الإسلام السياسي مباشرة. لكأنّ حراك التاريخ عندنا ضد التاريخ الطبيعي أساسا ونعيش في جغرافيا قلقة. مفهوم الأمة غير واضح والتطور الصناعي هشّ، وفهمنا للقانون غامض. حتى أن العراق عاد إلى الزعماء الدينيين والعشائريين في إطار ديمقراطي وهمي.
هناك إمبراطوريتان عتيقتان طموحتان هما الصفوية والعثمانية (تركيا وإيران) ونحن بين جاذبية قومية وأخرى دينية وحالتنا غير ممكنة إلا بحماية من أميركا العظمى.
ما الذي نتعلمه مثلا؟ أليس البيت العربي هو الأمثل في مثل هذه الظروف؟ وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في أكثر من مناسبة بأن العراق دولة عربية ولا استقرار لهذا البلد دون خروجه من الهيمنة والعبث الإيراني.
نقلا عن العرب