23 ديسمبر، 2024 2:07 م

اذهب انت وربّك يا موسى ..

اذهب انت وربّك يا موسى ..

المواطن العراقي فريد من نوعه على هذه الأرض ، بالمقارنة مع نظرائه من البشر ، فهو يعيش وسط غابة من العصر الحجري ، فهو الذي يقف حارسا ليحفظ أمنه بنفسه ، هو الذي يصنع (كهرباءه) بنفسه ، هو الذي يسحب ماء الأسالة ويحوله الى ماء صالح للشرب ، هو الذي يتدبر أمره اذا غرق منزله عند أقل زخّة مطر ، وعند المرض (لا سمح الله) ، لا يلجأ الى مستشفيات الدولة ليأسه منها ، في منزله يبقى ساهرا وقلقا ، فما من رادع للّصوص الذين يعجّ بهم البلد ، لصوص من طراز فريد لا يكتفون بالسرقة ، عليه أن ينتزع حقّه بنفسه عند كل خصومة ومشكلة دون اللجوء للشرطة ، فقد ينقلب الجلاد الى ضحية ، اذا ذهب الى عمله ، قد لا يصل سالما ، فعليه اجتياز حقول من الالغام ، وان وصل ، يبقى قلقا على عائلته  وأولاده من الطلاب ، ينتزع رزقه من أفواه السّباع لأنه حلال حتى يعود ، ان عاد سالما ، وكأنه وعائلته على حد سواء ، في ساحة مواجهة حربية ، عليه ان يكون ملما بتصليح (مولّدته ) ،وسيارته ، ومجاري فرعه الذي يسكن فيه ، ويعالج القطع في (سلك السحب) ، ومواسير المياه المكسورة ، هو في معركة دائمة مع قيض الحَر وقرصة الشتاء وكأنه في عصر ما قبل الثورة الصناعية ، بل قبل أن تـُسَنْ شريعة (حمورابي)،كل هذه الضغوط ، وأفق الترفيه عن النفس معدوم ، حمدا لله لديه (الستلايت) ، فيحبس انفاسه حسدا  على كل الامم الأخرى بلا استثناء ، أو حنقا وهو يرى صور الفساد والسرقات وبُرَك دماء الأبرياء التي تُلوّن الأرصفة  ، ويتحسّر على ماضي هذا البلد ، وكأننا الوحيدون على هذه الأرض ممن يسير بهم الزمن الى وراء ، ويتمنّون الماضي ويحنّون اليه.
في حياتنا اليومية  ، لا نحسّ بأنفاس الدولة ولا همسها ولا بحضورها ، ندخل في يومٍ دامٍ  ونخرج من أخر ، وكأن الدولة تقول لنا (اذهب انت وربك يا موسى) ، فلا حقوق لنا أمامها مثل باقي الخلق ، بل ليس لك الحق أن تسأل : ماذا حل برئيس جمهوريتنا !؟ وبدلا من الأعتناء بهذا المواطن الصبور ، والمتعدد المواهب ، أمطرته بسيل من (الفرَمانات) القرقوشية ، وأتجت بكل ثقلها الى الى الجباية ، فهي تطالبك بدفع الضرائب ، والتقيّد بنظام (الفردي والزوجي) ، وحزام الأمان في بلد لا يعرف الأمان ، وتحويل سيارتك (المنفيست) ، لتدخل في ماراثون الابتزاز والتسويف وأنواع الاهمال والاستخفاف والوقوف في الطوابير ، وعند مرجعتك دوائر الدولة ، عليك ان تتصور نفسك (طوبة) ، يلعب بها الموظفون ، عليك ان لا تتبرم ولو قيد شعرة ، بل تتصنّع الابتسامة ، عند الوقوف الممل في السيطرات لأنهم فتحوا مسربا واحدا ، وأغلقوا اثنين ، عليك ان تتملّق جندي السيطرة ليفرجَ عنك ،لأنك نسيت اطفاء مصابيح السيارة في شوارعنا المظلمة  أبدا ، وهذا ما أزعجه.
بين المواطن والدولة أزمة ثقة مزمنة ، بدليل انها لا  تتقبل من المواطن  وثيقة اثبات واحدة بل الرباعي الجهنمي المعروف !.
يسرقون بأسمنا ، ويتاجرون بنا ، ويتصنّعون البكاء على مأسينا ، فلولانا ما وُجدوا ، لكنهم تسلّقوا أكتافنا ، وأثقلوا كاهلنا ، واستنزفوا ثرواتنا ، لقد أكلونا لحما ، ورمونا عظما ، فصرنا نشعر بالغربة ، ونحن في عقر دارنا ، ولسان حالنا يقول لهم :
حَـمَـلْتُـكَ حَـمْـلَ العينِ لَــجّ بِـهـا القَــذى
                                          فَــلا تَـنْـجَــلي يـومــا ولَـم تَـبلُـغَ العَـمى