18 ديسمبر، 2024 9:09 م

اذا اردنا للتعليم العالي ان يتطور

اذا اردنا للتعليم العالي ان يتطور

تواجه الجامعات العراقية تحديات كبيرة ناتجة عن متغيرات عديدة وطنية وعالمية تنعكس آثارها على سائر البيئات الاكاديمية والإدارية والعلمية، وتزداد خطورتها كلما تم تأجيل مواجهتها والتعامل معها وبما يتناسب مع متطلبات الاقتصاد الوطني وزيادة الاقبال على التعليم الجامعي المهني (خصوصا الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات)، والتحولات العالمية نحو اقتصاد المعرفة. وتعود خطورة هذه التحديات بدرجة كبيرة الى عدم تأهيل وزارة التعليم العالي، والإدارات الجامعية تربويا ومعرفيا بشكل كامل لمجابهة الآثار المترتبة من عدم مواكبة التطورات الحديثة في بيدوغوجيات التعليم، والتعلم وتأثيرات العولمة، وتنوع انماط التعليم العالي، ودخول القطاع الاهلي كمنافس للجامعات الحكومية، وعدم وجود نظام فعال لضمان جودة التعليم.

وتزداد الخطورة كلما استمرت الوزارة والجامعات في ادارة التعليم العالي بالصورة التقليدية والتي تتمثل بفقدان النوعية وعدم كفاية المقدرة العلمية وهيمنة طرق الادارة البيروقراطية والروتينية في ادارة الجامعات التي تفرض على الوسط الجامعي ثقافة الجمود، والقناعات الجاهزة التي تقدس الروتين القاتل، والتواقيع الجاهزة، والكتب الادارية والتسلسل الوظيفي الهرمي الذي يعتمد على اطاعة المسؤول الاعلى درجة من قبل المسؤول الاقل درجة، وقبول التعليمات الوزارية من قبل الجامعات بدون مناقشة او اعتراض او رفض.

وما يؤكد مخاوفي في عدم قدرة الوزارة والجامعات في مجابهة التحديات هو ضعف المعارف والمؤهلات اللازمة لتشخيص المخاطر التي تواجه التعليم العالي وتحديد اولويات الاصلاح والتغيير. وعلى الرغم من دق ناقوس الخطر من قبل تقارير البنك الدولي المتتالية ومختلف المراجع المحلية والعالمية بتأكيدهم على ان نظام التعليم الحالي (وفي الدول العربية سواء) لم يعد قادرا على تخريج كفاءات بمستوى طموح سوق عمل القطاع العام والخاص، يضاف الى ذلك تخلف الجامعات العراقية في سلالم التنافس الدولي وفي مختلف المجالات الاكاديمية والبحثية، ومع ذلك لازال الاهتمام منصب في تشريع قوانين واصدار تعليمات في امور لا علاقة لها او تأثير على نوعية التعليم او مستوى القوى البشرية او كفاية المقدرة والانتاج العلمي. ويستغرب المرء من عدم وجود حالة استنفار لمواجهة التحديات والاخطار المحدقة بالتعليم العالي وكأنه لا توجد ازمة او لا يوجد حل لهذه الازمة، وكما يقول التعبير الانكليزي Business as usual.

وتبرز اليوم، في ظل التدهور المستمر للتعليم منذ انشاء وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عام 1971 اهمية اعادة النظر في العلاقة بين الجامعات والدولة. هذه العلاقة لم تكن ابدا طبيعية او ايجابية نتيجة انعدام الثقة عند الهيئات التدريسية او طلاب الجامعات بكفاءة الوزارة في قيادة التعليم العالي، وما نسمع ونرى من احتجاجات وشكاوي ومظالم على مر السنيين ومنذ انشاء الوزارة والى يومنا هذا الا انعكاسا لهذه الحالة. ولربما سيتهمني البعض بالمبالغة اذا ما قلت بأن انعدام الثقة بين التدريسيين والإداريين في الجامعات العراقية وبين الوزارة هي اعلى ما تكون عليه في كل وزارات ودوائر الدولة وفي كل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وبأن مثل هذه المشكلة التي تعيق تطوير الاداء وتحسين الجودة لا يوجد مثيلها في اي جامعة غربية ولا تماثلها بأي درجة من الخطورة اي دولة في العالم. ولقد اوضحت في مقالة سابقة لي الصورة التي ينعكس فيها انعدام الثقة عند التدريسيين والتي حددتها بالمشاعر التالية:

1- الاعتقاد بعدم كفاءة المسؤولين، 2- الشعور بالغبن الوظيفي والتميز ضدهم، 3- التخوف من المسؤولين والحذر منهم، 4- التأكيد على ان المحسوبية والمنسوبية هي طريق الحصول على منصب اداري.

لقد حان الوقت للنظر بجدية في مسألة منح الجامعات استقلاليتها الاكاديمية والمالية وسيمثل مثل هذا الاصلاح الجذري لنظام التعليم العالي اجراءا ايجابيا يتماشى مع التطور الحاصل في كثير من الدول التي تاريخيا كانت جامعاتها تدار بصورة مباشرة من قبل الدولة كالصين والهند ودول الاتحاد السوفيتي سابقا ودول اوربا الشرقية ودول جنوب شرق اسيا. وتزداد الدعوات في الدول العربية لمنح الجامعات استقلاليتها ويتحمس لها عدد من المربين والاكاديمين فيقول الدكتور عبد العزيز الدخيل بصدد دفاعه عن ضرورة منح الجامعات استقلاليتها في السعودية: “الجامعات، أي جامعات في هذا العالم، المتقدم منه أو المتخلف، لا يمكن أن تصنع عقولاً تخلق علما وتصنع اقتصاداً وتنتج إبداعاً وتبني حضارة إن هي كانت فاقدة للاستقلال الحقيقي، الفكري والمالي والإداري، ففاقد الشيء لا يعطيه، والعليل لا ينتج إلا عليلاً”.

الا ان اصداء الدعوة لتغير نظام التعليم العالي لازالت ضعيفة ولأسباب ذاتية تتعلق بثقافة الهيمنة ومركزية القرار والتخوف من المجهول ومن احتمالات نشر الفوضى بانتشار اللامركزية الادارية، وعدم الايمان بان الاختلاف والمنافسة يمكنها ان تدفع الجامعات نحو التطور والرقي بصورة افضل من معاملتها من قبل جهة مركزية واحدة وبصورة متساوية كأسنان المشط. كما ان هناك مسؤولين داخل الجهاز الاداري للدولة يرغبون في تشغيل الجامعات بحكم تعريفها كدائرة حكومية وضمن شروط عمل الاكاديمي كموظف دولة.

ليسمح لي من يعارضون منح الجامعات استقلاليتها بسؤالهم لماذا لا تستطيع الجامعات انتخاب رؤسائها مباشرة وبدون تدخل الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعات تغيير المناهج وتدريس ما هو مهم لبناء الانسان من دون موافقة الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعات من وضع شروط القبول فيها بينما يوكل هذا الامر الخطير الى غيرها؟ ولماذا لا يستطيع رئيس الجامعة ومجلسها الاداري من وضع خططها التطويرية من دون تدخل الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة صرف اموالها بالصورة التي ترتئيها ملائمة لتمشية اعمالها وتطوير فعاليتها؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من عقد مؤتمر تربوي او علمي الا بموافقة الوزارة؟ ولماذا لا يستطيع التدريسي من المشاركة في مؤتمر او اجتماع خارج البلد من دون اخذ موافقة الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من تعيين عميد او رئيس قسم الا بامر الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من الاعتراض وعدم تنفيذ الامر الاداري الوزاري الذي تشعر بانه ليس في صالح الجامعة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من تعيين استاذ مؤهل او فصل استاذ فاشل بدون موافقة الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من تحديد عدد الطلبة المقبولين او عدم قبول طلبة غير مستوفين لشروط القبول؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من انشاء دراسات جديدة او الغاء دراسات لا تجد ضرورة فيها الا بموافقة الوزارة؟ ولماذا لا تستطيع الجامعة من تحديد نصاب التدريسي من دون الانصياع الى تعليمات الوزارة؟ ولماذا يحق للوزارة نقل اي تدريسي لشغل وظيفة ادارية في ديوان الوزارة من دون استشارة الجامعة المعنية؟ ولماذا لا يتمتع الاستاذ بالحرية الاكاديمية التي هي عماد الابداع الاكاديمي ورح الجامعة المعاصرة؟ هل هناك اي اجراء مهم تستطيع الجامعة اتخاذه من دون الرجوع الى تعليمات الوزارة؟

لم تكن الجامعات في يوم ما مسرورة بشأن سياسات القبول المركزي والتمويل واقرار البرامج الاكاديمية والمناهج وعدد الطلاب في الكليات والاقسام ولا بتعيينات القيادات الجامعية او النقل من جامعة الى اخرى او بتدخل الوزارة في الشؤون الاكاديمية والامتحانات او بشأن اسلوب الادارة الجامعية و ضبط الجودة. ان السيطرة الكاملة للوزارة على كل شاردة وواردة في الجامعات ساهم في زيادة تذمر ومعاناة اعضاء هيئات التدريس مما ادى الى تفشي حالة من الاحباط واليأس والى تثبيط قابلياتهم وانحسار عطائهم العلمي والى انعدام الثقة بين المسؤولين والتدريسيين في ظل عدم وجود نظام عادل لاشغال الوظائف الادارية في الجامعات ، اضافة الى انتشار مظاهر التملق والنفاق الاجتماعي طلبا للوصول الى تحقيق هدف شخصي.

لهذا وبتصوري ان الوسيلة الوحيدة لانقاذ التعليم العالي هو باتخاذ الاجراءات التالية كجزء من خطة كاملة لاصلاح التعليم:

1- تتحرك الدولة بسرعة نحو التخلي عن السيطرة الكاملة على الجامعات وتبني بدلها سياسة الرصد والمراقبة والتنظيم.

2-توفر الدولة بيئة تمكينية للجامعات لكي تستطيع من التخطيط لمستقبلها على ضوء امكانياتها.

3-تشجيع الجامعات على وضع السياسات التي تهدف الى تحسين علاقتها بمجتمعاتها وتوفير ما تحتاجه مؤسسات الدولة والسوق في المحافظات التي توجد فيها.

4- بناء نظام جديد لإدارة الجامعات لتنفيذ اهداف الإستراتيجية الوطنية للتربية والتعليم في العراق، التي اوصت بتشريع قانون جديد يضمن القضاء على التداخل والتضارب في كل مستوى من المستويات الادارية داخل وزارة التعليم العالي، والى زيادة مستوى اللامركزية، ودعم استقلالية الجامعات.

ولتحقيق هذه الاهداف يجب على الدولة اصدار قانون جديد للتعليم العالي يتضمن تشريعات تحدد المبادئ العامة واللوائح والسياسات لكل من الجامعات ووزارة التعليم العالي، وتشريعات تحدد نظام ادارة الجامعات ومجالس امانة الجامعات ومسؤولياتها والقواعد التفصيلية للعمل الاداري والاكاديمي. وعلى الدولة توفير البيئة اللازمة لكي تتمكن الجامعات من ادارة نفسها بنفسها على اساس تحقيق اهداف استراتيجياتها الخاصة ومنح الفرصة لكل جامعة لوضع النظام الخاص بها، و وضع سياسة فعالة لتمويل الجامعات بناء على تخصيصات الموازنة السنوية للتعليم العالي ومن خلال لجنة عليا تقوم برصد وتقييم نشاطات الجامعات وتحديد مخصصات الدعم المالي الوظيفي والاكاديمي ولغرض تطوير البرامج الاكاديمية والبنية التحتية للجامعات.

اما بشأن تحديد عدد الطلبة المقبولين في الجامعات فهذه مسألة لابد من الاتفاق عليها بين الدولة والجامعات ولربما من خلال تاسيس نظام للقبول المركزي يتم فيه تحديد عدد الطلبة المقبولين في كل جامعة بالاستناد على استراتيجية الدولة للتعليم العالي ومخصصات الدعم المالي لكل جامعة ومن ثم ترك الجامعات حرة في تقييم الطلبة لغرض قبولهم في الكليات والاقسام والبرامج الاكاديمية على ضوء اختيارات الطلبة وضمن نظام القبول الخاص بكل جامعة.

وسيكون احدى اهم مهام الدولة هو تقديم المساعدة للجامعات لادارة نفسها مهنيا عبر التوجيه والاشراف ومن دون سيطرة مباشرة. وفي هذا المجال توجد اربع طرق يمكن للوزارة ان تساعد الجامعات فيها وهي:

1-الطلب من الجامعة بوضع خطة استراتيجية خاصة ومميزة بحيث تتضمن الوسائل لتحقيق اهدافها الاجتماعية.

2-توفير المعلومات وفرص التدريب الملائمة لكي تتمكن الجامعات من ادارة مؤسساتها بنفسها، ودراسة النظم الادارية والاكاديمية لافضل الجامعات المستقلة واستخلاص المعلومات التي تناسب تطوير العمل الاداري والاكاديمي للجامعات العراقية.

3-ابتعاث المتفوقين الى الدول المتطورة لغرض لتوفير كفاءات تدريسية وبحثية للجامعات.

4- استحداث هيئة مستقلة لضبط الجودة والاعتمادية والأداء الدولي تتولى مهمة تقويم جودة اداء الجامعات التعليمية والبحثية وفقا للمعايير الدولية المعتمدة.

بالاضافة الى تحسين نوعية التعليم ومستويات البحث العلمي والابتكار في الجامعات فأن النظام الجديد ستكون له ايجابيات عديدة منها:

1-اطلاق العنان للأفكار الابداعية والمبادرات.

2-وجود مجلس امناء ومجلس الجامعة ومجلس اعضاء هيئة التدريس سيضمن تحمل الجميع لمسؤولياتهم ويمنع التفرد في اتخاذ القرار.

3- في ظل مراقبة الدولة وتقيمها لأغراض الاعتماد والتمويل ستكون الجامعات اكثر حرصا على القيام بدورها في خدمة المجتمع وتدريب الكفاءات التي يحتاجها سوق العمل.

4-زيادة درجة التنافس بين الجامعات العراقية وبينها وبين الجامعات الاجنبية لهدف تحقيق اعلى المراكز في سلالم الاداء الاكاديمي والبحثي.

5- زيادة مسؤولية الادارة امام اعضاء هيئة التدريس والاهتمام ببناء شخصية الجامعة وقدراتها الذاتية وبسمعة الجامعة في الرصانة الاكاديمية، ومحاربة الفساد ومنع تزوير الشهادات.

6- الاهتمام بمواكبة التغيرات السريعة في القطاعات التعليمية الدولية.

7- الاستقلالية مسؤولية كبيرة لذا ستؤدي الى ضبط ادق وترشيد اكبر للأمور المالية والإدارية داخل الجامعة.

الوزارة في ظل هذا النظام ستكون لها مسؤولية مراقبة الاداء وسيشمل هذا مراقبة الاداء البحثي وتوفير الاحصائيات اللازمة عن كل جامعة لمجلس البحث العلمي لغرض التمويل على سبيل المثال، ولتقييم ما اذا كانت الجامعة قد حققت اهداف السياسة التي وضعتها ووافقت عليها الدولة. كما سيتوجب من الوزارة اجراء دراسات مقارنة الاداء او الانجاز ودراسات استقصائية وتكون مسؤولة عن جمع المعلومات ونشرها لغرض ضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي .

نشرت في جريدة المدى، عدد 3446، تاريخ 292015