23 نوفمبر، 2024 12:55 ص
Search
Close this search box.

اذا أراد الجيل العراقي الجديد العيش الكريم فعليه بناء دولة مدنية بعيدة عن الطائفية والولاءات

اذا أراد الجيل العراقي الجديد العيش الكريم فعليه بناء دولة مدنية بعيدة عن الطائفية والولاءات

لكي يبنى العراق كدولة لابد من نظرة ولو سريعة على تأريخ هذا البلد لكي يتم تشخيص الحقب الزمنية والأنظمة المتعاقبة. فلو نظرنا الى العراق منذ تفكك الدولة العثمانية التي اهملته كبلد وصار العراق من حصة الاستعمار البريطاني لم تبنى فيه مؤسسات ودولة الا في العهد الملكي وبالخصوص في فترة الملك فيصل الأول. وفيصل بن الحسين بن علي هو ابن شريف مكة وحاكم الحجاز في العهد العثماني و ابوه قائد الثورة العربية ضد الاتراك يتصل نسبه الى الحسن بن علي بن ابي طالب. توج ملكا للعراق في ٢٣ أغسطس ١٩٢١ بعد الثورة العراقية ضد الإنكليز وبمباركة بريطانيا التي تكبدت خسائر كبيرة حيث كان قبيل الاحتلال الفرنسي لسوريا ملكا عليها. كانت لديه خبرة للتعامل مع الاحداث في الوقت الراهن حينها رغم تعقيداته ومرارته ونجح بعد حوالي ثمان سنوات من انهاء الانتداب البريطاني واستقلال العراق عام ١٩٣٠. وضع هذا الملك أسس بناء مؤسسات دولة كانت بحاجة الى ديمومة وإصلاح واكتساب خبرات ولكن من سوء حظ العراق ذلك لم يحدث. فقد بدأ العراق كبلد نال استقلاله ولو بشكل تدريجي لان الانتداب البريطاني كان ممكن استغلاله لبناء البلد للتعجيل برحيل البريطاني. وقد تم انشاء أسس برلمانية صحيحة ووزارات بعيدة عن التقوقع الطائفي والمذهبي والعرقي والعسكرتاريا أي انه تم وضع أسس الدولة المدنية. بالإضافة الى إرساء مجالس للاعمار والثقافة والصحة والتعليم مثل الكلية الملكية للأطباء التي أصبحت تشابه في أساسها الكلية الملكية البريطانية للأطباء والتي لو استمرت لأصبح العراق اليوم قبلة لتدريس الطب والعلوم. كما وتم وضع أسس تستمد خصائصها من الاحداث الدولية للتعامل الخارجي للعراق ولبناء جيش قوي. وللأسف الشديد لم يستمر الملك فيصل بالحكم طويلا وقد اختلف في سبب موته حينها وقيل انه مات مسموما من قبل بريطانيا حيث انه ذهب للعلاج في سويسرا وذكر انه دس له الزرنيخ في الشاي ومات على اثره بعد ستة ساعات بينما اشارت تقارير الأطباء الى ان سبب الوفاة هو تصلب الشرايين.

 

عندما مات تسلم ابنه الملك غازي الحكم وهو لم يكن يمتلك الحكمة التي يمتلكها ابيه وكان صغيرا في السن و قيل انه ميال للهو وكارها للانكليز مع عدم امتلاك مطاطية للتعامل معهم.

 

جاءت اول ضربة لبناء الدولة المدنية عندما قتل او مات بحادث سيارة الملك غازي والذي حزن عليه الشعب لأنه كان يحبه خاصة انه كان يكره الإنكليز وله حس وطني عراقي. فقد كان الوريث للعرش ابنه الملك فيصل الثاني الذي عمره آنذاك لا يتجاوز أربع سنوات مما دعا الى وضع الملك القاصر تحت وصاية خاله الأمير عبد الاله الذي لم يكن يمتلك الحنكة والحكمة اللازمة للحكم علاوة على ما ذكر عنه من انطوائية ثم استمراره بممارسة الحكم حتى بعد تتويج الملك فيصل عندما أكمل الثامنة عشر في ٢ مايو ١٩٥٣ فقد بقي خاله يؤثر في قرارات الملك ولعل ذلك لصغر سنه. كما وان الملك فيصل الثاني كانت قد توفيت والدته قبل تتويجه ولم يكن لديه اخوة فصار اعتماده على خاله وتمسكه به اكبر لأسباب عاطفية كذلك لأنه اصبح يتيم الاب والام ودون اخوان فزاد ميله نحو خاله. وقد وصف الخال عبد الاله بانه انعزالي وكسول ولا يمتلك الحكمة التي كان يمتلكها عم الملك فيصل وهو الأمير زيد الذي لو اصبح وصيا لكان مختلفا رغم ان فيصل لاحقا كان قد أسس علاقات خارجية صحيحة مع الدول الإقليمية والقوى العظمى وكان يحب العلم والصناعة والتطور ونقل ذلك للعراق وانعكس ذلك على مجلس الاعمار الذي تم تطويره آنذاك. كما وانه درس في بريطانيا ومصر وبغداد وزار ميادين التطور العلمي والعسكري في أمريكا واسس علاقات جيدة مع السعودية وإيران ودول الخليج العربي والمغرب العربي الا ان جمال عبد الناصر حاربه وكان يتدخل بالشأن العراقي من اجل صالح العسكر على نسق الضباط الاحرار في مصر التي أطاحت بالملكية هناك. وقد أسس علاقة وحدوية مع الأردن تكللت بولادة الاتحاد الهاشمي بين الأردن و ملكها حسين وهو ابن عمه وبين العراق اختير بها فيصل ليكون هو الملك للاتحاد الهاشمي. ولو استمر هذا الاتحاد لكانت هذه الدولة تشكل موقع استراتيجي وجغرافي واقتصادي وعلمي كبير ومأثر في المنطقة والعالم. كما و كان ممكن ان تضاف حنكة الملك حسين السياسية وإدارة الملك فيصل الثاني والعمق الاستراتيجي للدولة الهاشمية التي تضم الأردن والعراق للتأسيس لدولة عربية قوية ومتعددة الموارد. ولكن ذلك لم يدم الا ستة أشهر عندها وعلى غرار اسقاط الملكية في مصر وتأليب من عبد الناصر تم اقصاء الملك بل وقتله وقتل باقي افراد العائلة المالكة بصورة بشعة وبدأت حقبة جديدة في العراق أسست لحقب دموية متلاحقة حتى هذه اللحظة.

 

تحول العراق بين ليلة وضحاها من مملكة الى جمهورية بدأت بالدم والسحل وتم هدم البناء الذي وضع أسس الدولة المدنية في عهد الملك فيصل الأول. حيث الغي البرلمان والدستور والمؤسسات الأخرى واصبح القرار بيد فرد واحد هو عبد الكريم قاسم. انسحب العراق من علاقاته الخارجية التي تم وضعها ولم يكن قاسم قد سافر واسس علاقات خارجية ولم يكن التقى بالملوك او الرؤساء بل كان عسكريا مسلكيا وقد ذكر عنه انه كان انعزالي غير معترف بالتعددية. بل وحتى صديقه المقرب اليه عبد السلام عارف كان قد انقلب ضده وقتله بانقلاب اخر بعد سنوات قليلة جدا. ومنذ لك الحين اصبح العراق بيد العسكر وبين اقلاب واخر ضاعت الدولة. لم يكن هناك دولة بالمفهوم المدني فقد ذهبت مع الحكم الملكي. وكان عبد الكريم قد جعل من العراق معزولا من قبل الدول الإقليمية والدولية ما عدا الاتحاد السوفيتي الذي لم يفي بوعوده تجاه تسليح البلد على الأقل. وقد أصبحت المعارضة عبارة عن انقلابات عسكرية للاستيلاء على القصر الجمهوري والإذاعة ووزارة الدفاع وإذاعة البيان رقم واحد ليس الا. كان التحول من الملكية للجمهورية غير مدروسا وجر بعد حين انقلاب الأصدقاء بعضهم على بعض طمعا بالحكم والسلطة وليس لبناء العراق فجاء انقلاب عبد السلام عارف وبتأييد من عبد الناصر مرة ثانية. وما لبث ان مات هذا بحادث طائرة في منطقة النخيلة في البصرة الله اعلم من دبر ذلك. ومن سوء حظ العراق صار الحكم الجمهوري فيه حينها وراثيا حيث انتقل الى عبد الرحمن عارف اخو عبد السلام وقد كان الراديو وهو يبث خبر مقتل عبد السلام يبث أصوات متظاهرين يصيحون (كلنا نريد عارف)! جاء عارف الثاني وهو رغم امتلاكه شخصية هادئة ولكنها ضعيفة وغير مكترثة للحكم ولا لبناء دولة ومحاطة بالمتربصين للاستيلاء على السلطة. وكان هو أيضا من مجموعة الضباط ضد الملكية مع عبد الكريم قاسم. وهنا أيضا تدخل جمال عبد الناصر بتأييد استمرار نهج عبد السلام بأخيه عارف. حيث كانت أصوات أخرى مثل عبد الرحمن البزاز تدعو الى إعادة بناء الدولة والبرلمان كما كان في العهد الملكي والانفتاح على العالم بينما ركن عارف وهو عسكري الى غير ذلك.

 

لم يستمر عبد الرحمن عارف الجميلي الا سنتين تمت بعدها تنحيته بسهولة في ١٧ تموز ١٩٦٨ من قبل حزب البعث الذي اذاع بيانه الأول احمد حسن البكر وهو واحد من هؤلاء الضباط الذين اطاحوا بالملك وانهوا مؤسسات الدولة. كانت ذاكرة العراقيين لاتزال حديثة العهد بالحرس القومي ولكن حزب البعث حاول هذه المرة تصحيح الأخطاء في عهد البكر. استمر حكم البعث أطول فترة مما سبقه وذلك بسيطرتهم على الدولة كنظام امني شمولي ولكن طول الفترة مهدت لحصول بعض التقدم في المجلات العلمية والثقافية والصناعية والجامعية والحفاض على وحدة البلاد وقد كان عصرهم الذهبي في عهد البكر الذي استمر اكثر من عشر سنوات. بعد سيطرة صدام على قرارات البلاد أدخلت البلاد في حالة من الرعب والخوف الأمني وانفرد صدام باتخاذ القرارات وتمت تصفية كل من يشك فيه حتى من افردا حزبه وبالخصوص بعد استلامه السلطة بشكل كامل عام ١٩٧٩ واجبار البكر على التنحي.

 

الازدهار الذي تحقق في السبعينات بدأ تهديمه اثناء حكم صدام بحروب عبثية و بشكل غريب بحيث كان العراق لم يلتقط انفاسه بعد من حرب ايران التي دامت ثمان سنوات كأطول حرب مدمرة بعد الحرب العالمية الثانية حتى جره لحرب الكويت عام ١٩٩١ ثم حصار استباحت به كرامة وخيرات العراق دام حتى حرب عام ٢٠٠٣ الذي تم فيه احتلال العراق من قبل امريكا. كان بإمكان صدام حسين ان يتجنب ذلك كله لو انه لم يدخل العراق في حرب مع ايران ويسعى معها للسلام ويتخذ طرق عديدة لإيقاف تدخلات نظامها الجديد في الشأن العراقي. بل ساهم صدام قبل ذلك بأبعاد الخميني مما أعطى هذا الاخير مساحة دولية في فرنسا لقيادة الثورة الإيرانية من هناك بينما لو بقي في العراق كان سيبقى تحت الإقامة الجبرية وبعيدا عن الأضواء العالمية. كانت قرارات صدام ارتجالية فردية لا يحسب فيها العقبات حتى على نفسه. فلو تجنب الحرب مع إيران فسوف لن تكون حرب مع الكويت واحتلالها ولا حصار ولا تدمير مما يوفر استمرارية لعجلة البناء التي ازدهرت في عهد خاله البكر. ولم يحصل العراق من سياسات صدام غير تدمير البلاد وايقاعها فيما هي فيه اليوم.

 

وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ جاء دور الأحزاب الإسلامية وغيرها بحكام لم يكونوا يحلمون بذلك فصاروا ينهبون ويسرقون و كانت ايديولوجياتهم مذهبية طائفية والكثير منهم بقي ارتباطه وولائه للبلد الذي عاش فيه هاربا من بطش صدام. ولم يتغير هؤلاء ولم يبنوا دولة ولا حتى منظومة وأصبحوا أسوأ بكثير من صدام حسين ونظامه ومن جميع الأنظمة السابقة منذ عام ١٩٢٠. هؤلاء دمروا ليس الدولة فقط بل المرتكزات الاجتماعية وسنوا للبلاد دستورا طائفيا واسسوا بمساعدة المحتل برلمانا طائفي لا يدافع أعضائه الا عن احزابهم ومرؤوسيهم ومصالحهم الخاصة. ادخلوا الإرهاب وزجوا البلاد بحرب طائفية وقى الله شرها ونشروا الفساد وثقافة الفساد وامتلكوا ميليشيات عسكرية كدولة داخل دولة وسمحوا بل عملوا لإيران ان تتدخل بالشأن الداخلي بشكل أسوأ من الاحتلال. انتشر الفقر والبطالة وغياب الرادع القانوني وانتشار الجريمة وبقي البلد دون بناء ونهبت خيراته وتدهورت القطاعات الخدمية والتعليمية والثقافية والصحية بشكل غير مسبوق ولم يكن له مثيل في مختلف العهود السابقة مما دعا الناس ان يترحموا على عهود سابقة شمولية ودكتاتورية كانت على الأقل توفر الحد الأدنى من الخدمات والامن والبناء رغم حروبها. ومن أسوأ الأمثلة على التدهور الذي احدثوه هي في قطاع الكهرباء والصحة والقتل والتصفيات الجسدية التي لا تحدث الا في عصابات المافيا وعصابات المخدرات والاجرام.

 

هذه المجاميع السياسية لم تكن موفقة حتى في محاكمة الرئيس السابق صدام حسين لان المحكمة تمت تحت وجود الاحتلال الأمريكي وهذا يطيح بمصداقية المحاكمة وركزت على عملية اعتقاله في الدجيل وهي حادثة تتقاطع فيها الآراء القانونية والشرعية ولو انها ركزت على عدم ثباته في الخطوط الامامية كقائد للجيش للدفاع عن العاصمة بغداد من السقوط والتخفي تاركاً واجبه العسكري لكان أفضل. ومن ثم تعمدت إعدامه في عيد الأضحى كحلقة دموية وطائفية تضاف الى الحلقات المتتالية من دموية الانقلابات السابقة. بل وكان هناك أمور رئيسية أخرى كان يمكن تأجيل اعدام الرجل لكي يحاكم فيها مثل تفرده بقرار احتلال الكويت واعدام رفاقه من البعثيين وغيرها من الأمور التي لربما كان سيعترف بما لا يرضي الامريكان وغيرهم.

 

اذن باختصار فأن العراق لم تبنى به الدولة المدنية الا في بدايات العهد الملكي والتي لو انها استمرت على نفس النهج لأصبح العراق اليوم حلم لكل انسان ان يتنعم في وجوده والعمل فيه ولأصبح منارة للعقول الرصينة والخبرات العظيمة ولأعطا الإنسانية ما منحه إياها قبل ٦٠٠٠ سنة مضت عندما أسس اول الحضارات الإنسانية التي لولاها ما وصل التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي والديني والثقافي على مختلف الأصعدة في العالم. ولا تزال بعض مظاهر التقدم العلمي السومري والبابلي والاكدي تعتبر لغزا يحير كبار العقول في الفلك والطب والقوانين وغيرها الى يومنا هذا. هذا الموروث من الحضارة تم هدمه على ايدي كثيرة من المغول وحتى النخب السياسية الحالية وعليه فان الأجيال العراقية الجديدة من الشباب قد وعوا بأن لا حياة لهم مع النظام السياسي وليد الحروب والاحتلال والفساد والعمالة واذا أرادوا العيش بدولة مدنية يحترم فيها العيش الكريم والعدالة والمساواة فعليهم اسقاط النظام السياسي الحالي بمحاصصته وبناء مؤسسات دولة حديثة تكفل العيش الكريم للجميع دون استثناء خاصة وان في العراق شعب عظيم فيه عقول متعددة ومتخصصة ومتفوقة عالميا وله قابلية على الابداع والابتكار والعطاء كما لم يبخل قبل الالاف السنين برفد البشرية بالحضارة دون بخل ولا تردد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات