26 نوفمبر، 2024 2:55 م
Search
Close this search box.

ادعياء الثقافة

ادعياء الثقافة

هم اولئك الواقفون بتردد وحيرة وتساؤل على حافة التعريف العصري جداً لكلمة (مثقف). وهم في العادة من المتعلمين الذين نهلوا التعليم كما يفعل هواة اقتناء الببغاوات بطيورهم هذه.
البعض منهم يبذل جهداً مخلصاً لطرق بوابة الثقافة الكبيرة مدفوعاً بنزعة الاستحواذية الغريزية الى احتواء كل ما يعرفه في هذا العالم. والبعض الآخر يرتب نفسه ترتيباً تصنيفياً، وهؤلاء يبدون وكأنهم كأي ببلوغرافيا، يظهر واحدهم مدعياً ثقافة، مدافعاً عن هذا اللقب الذي خلعه على نفسه باسلحة عدة.. كم متواضع من المصطلحات والمفردات الكبيرة التي يتحايل في استخدامها حتى ليبدو هذا الاستخدام حقيقياً، او انه لا يجد حرجاً في فتل وعصر ذاكرته المدرسية ليكرس كيلوات من المعلومات امام الآخر/ المقابل حتى يثير فيه الارتعاب، فتجد المقابل من فرط رعبه وقد خرج بانطباع ان المثقف الذي امامه ليس مثقفاً وكفى، بل انه مثقف موسوعي. وللمسكين عذره، فهو سيقول: انظروا الى هذا العقل البالغ الذكاء كيف جمع كل هذه الاطنان من المعلومات…
ان استنتاجي قائم على حقيقة ملموسة فعلاً… هؤلاء واولئك ممن يقفون- والمشكلة ان معظمهم يقبل بهذا التوقف فيما بعد- على عتية الثقافة الحقيقية، يبدأون من انصاف المدعين صعوداً الى حملة الدكتوراه.
عندما كنا –وفي هذا ادعاء بان كثيرين سيؤيدونني- طلبة في مختلف مراحل دراستنا، كنا نشعر ان وراء الكثير مما يدعيه معلمينا واساتذتنا خطأ، وخطأ فادحاً، لكننا لم نملك وقتئذ القدرة على اقتناصهم، الافتضاح بوضع اليد لتلك الاخطاء بسبب قيود القوانين المدرسية والجامعية العقابية.
وفيما تلا ذلك، وبعد ان نجحنا في كسر هذه القيود وكسر سور الثقافة التقليدية ذي الاسلاك الشائكة، تعلمنا وخبرنا معنى اصالة الثقافة بمفهوميها الحقيقيين الكلاسيكي والمعاصر.
وعندما تشاء الصدف ان تلتقي بمعلمينا واساتذتنا حتى نرى انهم يتراجعون امام ثوابت الحقيقة والانتماء والاصالة. وصارت صورة هؤلاء بعد ان كانت مثار خوف البعض، صورة مهزوزة تستحق الشفقة.
لكن الموضوع لا ينتهي هنا، الاشكال الذي يحدثه البعد الآخر، هو في ان هؤلاء لا زالوا في ميادين أخرى ذوي طاقات فعالة، يعبثون بخليط معلوماتهم  ، بعقول الاجيال والكفاءات الحقيقية… وليس ثمة من رقيب. فمن ذا الذي يتجرأ، عدا نسبة قليلة مشغولة باضطهادها في الغالب على التصدي لدكتوراه في الاختصاص كذا او في المجال المعرفي كذا.. ومن ذا الذي تصل ذراعه الى كرسي الاستاذية العتيد ليضع لافتة على الكرسي تقول محجوز، ويبعد هذا البعض البائس عن هذه المراكز الخطيرة ويوقف تأثيرهم البالغ الاهمية، والاعوج، على الخلق….
الطريف، ان هؤلاء المحاولين يعلمون جيداً، ان البعض الحقيقي من المثقفين هم وحدهم القادرون على جعلهم يرتجفون، لكن المحاولين بحكم مناصبهم الرفيعة التي اوصلتهم اليها وثائقهم المؤطرة على جدران منازلهم ومكاتبهم، يعلمون ايضاً، ان تأثير هذا البعض الحقيقي يخلو من الفعالية المباشرة عليهم، الامر الذي قد ينسونه في زحمة انفعالهم الفرح باوضاعهم الممتازة اجتماعياً، هو ان حركة التاريخ لا تتوقف ولا ترجع الى الوراء.
معروف كم هو صعب وقاسٍ ومضجع ان يكون الانسان تحت العجلة، ومعروف ايضاً ان البالونات تفجرها الأبر، ومعروف ان الفيل لا يستطيع لي رقبته، ومعروف اخيراً، ان في ذاكرة الانسان لا يوجد شيء اسمه النسيان.
[email protected]

أحدث المقالات