-1-
لو دخل عليك أحد الشعراء وناولك قصيدةً نظمها في هجائكَ ، وتعداد مساوِئِكَ وعيوبك ، فماذا تفعل ؟
أَتطرده ؟!
أَتُمْطِرُهُ سباباً وشتيمة ؟!
أتعتدي عليه بالضرب ؟!
أم تستطيع السيطرة على نفسك فلا تُقابل الاساءة بالاساءة ؟
-2-
انّ مقابلة الاساءة بالاساءة ، تشفي غيظك، ولكنها لا تنتزع من قلب صاحِبِكَ المتراكم من الأضغان .
ولكنّ كظم الغيظ والتجاوز عن الاساءة ، يفتحان بابا للانتقال بالمسئ الى عالم آخر ..، الى عالم يراجع به نفسه وحساباته ، لما يرى من رحابةِ صدرك ، وترفعك عن الاساءة .
وبمثل هذا الخلق العالي تَكْسِبُ الجولة ….
-3-
المؤسف انّ الكثيرين لايتورعون عن الاساءة لاخوانهم الذين لم يسيئوا اليهم من قريب أو بعيد، حتى لكأنَّهم مسكونون بأمراض نفسية خبيثة ، وعُقَدٍ ورواسب تشي بالدونيّة … والانحطاط الأخلاقي الفظيع .
-4-
والادب القراني يقول :
(واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )
وقديما قال الشاعر :
اذا نطق السفيه فلا تُجِبْهُ
فخيرٌ من إجابتهِ السكوتُ
وقال آخر :
لو كلُّ كلبٍ عوى ألقمتُه بحجراً لأصبَحَ الصخرُ مثقالاً بدينارِ
-5-
وفي كتب الأدب والتاريخ والتراجم، حكايات وقصص ذاتُ فوائد نفسية وأخلاقية جّمة .
ومن تلك الحكايات ما أورده تقي الدين المقريزي في كتاب (المقفى الكبير) الجزء الأول ص293-294 في ترجمة شهاب الدين أحمد بن عبد الدائم الكناني الأديب الشاعر ، قال :
” قدم دمشق فدخل على قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن أحمد الخُويّ ، ودفع اليه رقعةً فيها هجوه ، فقرأها ودفعها إليه .
فأعادها عليه ،
فردها اليه ثانيا ، فقال :
يا مولانا كأنك ذاهل
فقال :
بل عالم غير جاهل ،
ما الذي حَمَلَكَ على هذا ؟ ، قال :
رأيتُ الناس قد أجمعوا على كرمك ،
ووفود الشعراء على حرمك ،
ولستُ مُجيداً في النظم ،
وأسمي (أحمدُ) فما أُصرفُ ،
ولو مدحتُك أعطيتَني قليلا ،
ولم يعلم بي أحد ،
ولم يكن لي في الشهرة مُلْتحد ،
فاذا هجوتُك ، وعزّرتَني ،
وطفت بي وشهّرتني ، يُقال :
هذا الذي هجا قاضي القضاة ،
وقابله بما لا ارتضاه “
أرأيتَ كيف لجأ الشاعر الكناني الى هجاء قاضي القضاة دون ان يكون هناك أية مبررات تدعو لهجائه ؟!
وانها لوقاحة كبيرة أنْ يكون قاضي القضاة كبشَ الفداء، في (مغامرة) يريد الشاعر من ورائها الوصول الى الاستهتار بين الناس .
قاضي القضاة المذكور استطاع بحلمه وسعة صدره ان يستوعب الرجل حيث (أحسن صلته ، ولم يواخذه ) – على حد تعبير المقريزي .
وهنا تكمن العبرة .
إنّ النفوس الكبيرة تمور بِعَبق السماح والتجاوز والعفو ولا تنشغل بالمفردات الهامشية الصغيرة التي يجترحها الجاهلون …