لم يعد الأمر سرّاً إذن .. بل هو لم يكن سرّاً في أي يوم، فليس سرّاً ما يعرفه الناس جميعاً تقريباً. الناس يعرفون أن الرؤوس الكبيرة في الطبقة السياسية والإدارية المتنفّذة في هذي البلاد يستحوذون على أملاك وعقارات تابعة للدولة في العاصمة الاتحادية وسائر المحافظات، من دون أن يدفعوا بدل شراء أو إيجار عنها، وإذا حصل أن دفعوا فما لا يساوي سعر التراب… المتر المربع الواحد بعشرة آلاف دينار أوعشرين ألفاً في أغلى مناطق الكاظمية والكرادة والجادرية والقادسية والحارثية والأعظمية والمنصور وسواها في بغداد، ومثلها في المدن الكبرى الأخرى، فيما السعر الحقيقي للمتر الواحد إيجاراً بمئات الدولارات، أو بيعاً بالآلاف وعشرات الآلاف (ما أعظمه من بيزنس لا نظير له حتى في أكبر الدول الرأسمالية!).
أحزاب الإسلام السياسي التي تولّت الحكم منذ 2003 تعاملت مع كل شيء في العراق بوصفه غنيمة حرب أو مُلكاً لا صاحب له، مع أنّ هذا الكلّ شيء لم يكن أبداً ملكاً لصدام حسين وأعوانه إنما ملك الشعب العراقي .. الرؤوس الكبيرة في نظام ما بعد صدام استحوذت أولاً على القصور التي كان يقطنها الدكتاتور وأعوانه، ثم تمدّدوا لتطول أيديهم سائر عقارات الدولة، وعقارات خاصة كذلك، التي غالباً ما استولوا عليها بالقوة أو بالوثائق المزوّرة وبالحيلة والمُكر ( صار معروفاً أن القاعدة التي تنظّم هذا هي أن تُدفع قيمة الخُمس الى رجل دين ليصبح الاستحواذ أو الشراء الباطل حلالاً!!).
دائرة عقارات الدولة أعلنت أخيراً عن وجود أكثر من 100 ألف حالة تجاوز سكني وزراعي وصناعي وتجاري على عقارات الدولة من قبل بعض الأحزاب وأعضاء حاليين وسابقين في مجلس النواب ومجالس المحافظات، إضافة الى متنفذين آخرين وخارجين على القانون. مصادر أخرى ترفع الرقم الى 500 ألف حالة. مصادر وزارة العدل تؤكد أن مسؤولين حاليين وسابقين شغلوا مناصب عليا في الدولة حصلوا على أراض في أماكن مميّزة من العاصمة بأثمان بخسة بيع بعضها بأرقام فلكية. وأفاد مسؤول في الوزارة بأن ما بين 200 و 1000 شخص برتبة وزير ووكيل وزارة وقائد فرقة وآمر لواء وشاغلي مناصب أخرى، حصلوا في السنوات الخمس الاخيرة، على أراض في أماكن مميزة في بغداد وعلى عقارات تابعة للدولة صودرت من رموز النظام السابق.
هذه القضية بالذات تمثّل الآن الاختبار الحقيقي لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي على صعيد مكافحة الفساد الإداري والمالي التي تعهّد بها. يُمكنه الانطلاق منها، إن كان صادقاً وجادّاً في تعهده. هو رئيس السلطة التنفيذية، وبأوامر منه يُمكن في غضون أسابيع قليلة جمع كل المعلومات عن العقارات الحكومية المُستحوذ عليها لكي يُعيدها الى الدولة.. ليس الأمر بالصعب.. المسؤولون المتورطون في عملية الفرهود هذه معروفون له في الغالب، وبعضهم له علاقات شخصية بهم. يمكنه أن يطلب من كل مَنْ اشترى عقاراً بسعر متدنٍّ أو استحوذ عليه من دون وجه حق أن يعيده ويستردّ ما دفع عنه، أو أن يشتريه بأسعار اليوم أو بسعر السوق وقت الاستحواذ أو الشراء. إذا عبد المهدي لا يستطيع مع “جماعته” كيف سيتمكن مع غيرهم؟
التواني في هذه القضية يطيح صدقية السيد عبد المهدي مرة وإلى الأبد، وهو حرّ في الاختيار.