23 ديسمبر، 2024 1:32 م

احمل فأسك وكن كإبراهيم(ع)

احمل فأسك وكن كإبراهيم(ع)

في زمن كل أهله مغمورون بوهم التقدم والحضارة والرقي ، يكون عسيرا بل شبيه بالمستحيل أن يصدح فيهم صادح يجعلهم يفيقون من سكرتهم التي عاشوا فيها كل هذا الزمن المتطاول وهم يعبون من خمرة (الأنا) حتى صارت كأنها الماء الواهب للحياة ، فحضارة اليوم نصبت للناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها صنما مهولا اسمه (الأنا) ، فهرع الناس إلى عبادته من دون أن تكون هناك دعوة لهم لعبادة هذا الصنم الخطير ، إذ كان يكفي للحضارة المادية أن تعمل على محاربة عدو (الأنا) اللدود وهو الدين ، وتعمل على تحطيم كل منشآته وبنيته التحتية في النفوس البشرية ، لتجد هذه النفوس أنها غيرت قبلة سجودها من الدين إلى الدنيا.
        لعل من أغرب مفارقات البشرية أنها لم تكن لتعرف مسميات الأشياء لولا الدين ، وبصريح القول : لم تكن لتعرف معنى للمعرفة لولا الدين ، ولكنها اجتهدت كثيرا في صناعة معاولها التي علمها الدين صنعتها لتباشر في تحطيم صرح العلم والحضارة الإلهية في النفس الإنسانية لتقيم قباله صنم (الأنا) ليجعل كل شيء مزيف حتى حقائق الأشياء ، فليس غريبا أن ترى لدى مخلوق الحضارة المادية عبارة (الحقيقة نسبية) لأنه يتلقى معرفته من معلم هو (زخرف) أي هو وهم حقيقة وجودية وليس حقيقة وجودية ، واستنادا إلى القاعدة العقلية القائلة (فاقد الشيء لا يعطيه) ، فهذا الصنم الكبير (الأنا) هو وهم وجود ومن ثم فهو عاجز عن إعطاء بيان لحقيقة الوجود ، فتراه يسطح الوجود إلى الدرجة التي يجعل منه زخرفا وليس حقيقة ، وهذا منطق الحضارة المادية اليوم.
        ولنتساءل : كم هم أعداد البشر الذين يقرؤون ويكتبون؟! لاشك في أن الجواب السريع لهذا السؤال البسيط يبدو واضحا : كثيرون!!! هل تساءل هؤلاء الكثيرون عن غاية هذه المعرفة التي شيدت لها (حضارة الوهم) هذا الصرح المزخرف والمزركش بكل ما تستطيع تسخيره من إمكانات مادية قادرة على تطويعها وتصنيعها؟؟؟ هل عرف الناس وهم ينفقون يوميا بل كل ساعة بل كل لحظة أثماناً باهظة من رصيد الوجود الموهوب لهم ليسرعوا من إيقاع الفناء الذي منه يهربون : إنهم يهرولون بسرعة هائلة إلى الموت الذي يزعمون أنهم بحضارتهم تلك إن لم يوقفوه فهم ساعون في إبطاء حركته من خلال استعمال كل الإمكانات المتاحة لذلك!! ولكن ما هي الحقيقة على ارض الواقع؟؟ الحقيقة على ارض الواقع أن هذه الحضارة بكل مولود جديد لها تسرع من حركة البشرية نحو الموت الذي صار يداهم الناس فجأة والحضارة عاجزة تماما عن تقديم حتى النصح والإرشاد لإيقاف هذا الطوفان القادم.
        هل تساءل أهل الحضارة اليوم : لماذا انخفض معدل عمر الإنسان في عصر الحضارة هذا الانخفاض المهول ، حتى صار عمر الخمسين هو عمر الكهولة وساحة الأمراض ، بينما في الأزمان الغابرة كان متوسط عمر الإنسان أكبر من ذلك بعقود؟؟ هل هذه الحضارة المزعومة خدعتنا لتهب لنا الموت السريع بدعوى الرفاهية على حساب الحياة الطويلة المليئة بالعمل والمعرفة؟؟!! نعم هي كذلك ، فهذه الحضارة المزعومة أخذت ثمن ما أنتجته من رصيد أعمارنا ، فصارت تتاجر في وجودنا ، وفي حياتنا بل وفي الكرامة التي وهبها خالق الوجود سبحانه لنا!!
        فإلى الذين يسخرون من الدين ورسالته في هذا الزمان كما هم في كل زمان نقول : هل انتبهتم إلى الثمن الباهظ الذي تقدمونه قربانا لهذا الصنم الذي صنعته أيديكم؟؟ أنتم اليوم تقدمون الوجود البشري قربانا لهذا الصنم الزائف لكي ترضوا هذا الغرور وهذا التمرد على الحقيقة ـ الذي انطوت عليه أنفسكم ـ وإلا لماذا هذه الهرولة السريعة إلى صناعة الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي تستطيع أن تدمر كوكب الأرض في لحظات فيما لو قرر معتوه استعمالها في لحظة انتصار للأنا؟؟!!
        أنتم تسخرون من الدين لأنكم تعلمون تماما أنكم عاجزون بل مفلسون عن تقديم منظومة الحياة الحقيقية التي يقدمها الدين للبشرية ، ويكفي صورة واحدة من ملايين إن لم نقل بلايين الصور التي تقدمها حضارة المادة اليوم لتكشف عن عدائها الحقيقي لكل ما هو كريم في الإنسان ويشكل مرتكزا من مرتكزات كرامته وهذه الصورة تقدمها حضارة (الأنا) بثوب مزخرف لا يستر ما تحته تسميه (الحرية الشخصية) التي يمارس تحتها الناس حيوانيتهم وبهيميتهم بصورة تترفع عنها حتى البهائم ، فهل ثمرة هذه الحضارة أن يتسافل الإنسان المكرم من خالقه ليكون أدنى من البهائم؟؟ واذكر كلمة لأحد الكتاب يقول فيها : إذا كان العري هو رمز للحضارة فهذا يعني أن البهائم قد سبقت البشرية بأشواط كثيرة في هذا التحضر (ذكرت القول بالمعنى لا بالنص)!!!
        نعم لا أحد ينكر أن الإعمار في الأرض هو من تكليف الناس عليها ، ولكننا هنا لسنا في وارد ذكر تفاصيل الإعمار وشواخصه بقدر ما يهمنا من هذه التفاصيل إلى أين تريد بنا؟؟ ما الغاية التي تريد أن توصلنا إليها؟ لماذا كلما تقدمت الحضارة المادية ازدادت سعارا في محاربة الدين ومن يدعو له؟؟ لماذا هذا الأسلوب الرخيص في استحداث حرب قذرة من أجل القضاء على الدين في استئجار النفوس الضعيفة لتعمل كل القبائح باسم الدين ، وكأن الدين رسالة قبائح وليس كما هو ثابت ومعروف أنه رسالة فضيلة وكرامة؟؟؟!!
        إن هرولة الناس اليوم بقضها وقضيضها خلف سراب الحرية والرفاه والعيش الرغيد هو من يغلق أعينها عن رؤية الثمن الباهظ الذي تقدمه لتصل إلى حقيقة بينها الله سبحانه في كتابه{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور/39) ، اعلموا ايها الناس أن ما توهمتموه عمرانا وحضارة لم تسبقوا إليها ، فها هو التاريخ يقدم لكم صورا من حضارات سبقت عمرت الحياة أكثر مما عمرتموها أنتم ، ولكن أين هذا الإعمار وما مصيره؟؟ قال تعالى{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(الروم/9) فهذه الآية الكريمة تكشف حقيقة الزيف الذي تهرول خلفه هذه الحضارة اليوم ، وتبين أن الحقيقة هي باتباع المرسلين من الله سبحانه الحق والحقيقة.
        ربما نجحت الحضارة المادية في عمرها المتطاول من صنع سجن كبير للبشرية أغلقت فيه كل نوافذ النور في النفس البشرية ، ولكنها أبدا لا تستطيع أن توقف هذه البشرية إذا ما عزمت على حمل فأسها وتحطيم جدران هذا السجن القميء حتى ترى نور الحقيقة وتشطف به ما ران على قلوبها من رين تلك الحضارة الزائفة المزعومة ، وليكن حاضرا في النفوس دائما عزم إبراهيم النبي(ع) وفأسه المبارك الذي قدم للبشرية صورة حقيقية للثورة الحقيقية عندما حمل الفاس وحطم أصنام القوم ، وما كان لينجح في عمله لولا أنه بدأ بنفسه وحطم الصنم الذي بين جنبيه عندما أراه الله سبحانه الحقيقة في ملكوته فلم يكذبها ولم ينفر منها ولم يقل (كما يقول الناس اليوم : أضغاث أحلام وخرافات) بل قال كما حكى الحق سبحانه قوله{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}(الأنعام/78).
        وأخيرا أقول لمن يزعم العقل والتعقل ويأنف من منطق الدين ويتكبر عليه : أين العقل والمنطق في هذا السعي المحموم نحو حرب عالمية ثالثة نووية إن وقعت لا تبقي ولا تذر ، وليس فيها خاسر أو منتصر ، فالكل فيها مستعر ومنقعر؟؟!! أين العقل والتعقل وأنتم تنفرون من البحث والنظر والتدبر والتفحص في الدين بدعوى ـ هي في واقعها تؤكد الروح الانهزامية لديكم ـ أن الدين يشد البشرية إلى الوراء؟؟!! أين العقل والتعقل في اعتبار المنحرفين والمخرفين ممن يتزعمون دكاكين فتحت باسم الدين هم من يمثل الدين وسواهم لا يمثله حتى وإن أثبت أحقيته في تمثيل الدين بالدليل؟؟!! أين العقل والتعقل خاصة لدى من يسمون أنفسهم مسلمين ويزعمون أن يتبعون وصايا النبي(ص) وهم يتركون أعظم وصية له تصافق على روايتها ونقلها المسلمون كلهم بقضهم وقضيضهم حينما ضمن لهم النجاة والهداية إلى يوم القيامة بشرط أن يتمسكوا بهما ؛ ذلك هما الثقلان القرآن والعترة الطاهرة من آل بيت محمد(ص)؟؟؟
        فماذا فعلت البشرية مع وصية رسول الله(ص) العاصمة من الضلال والمنجية من الهلاك والعذاب؟؟!! أول شيء عملوه لتنفيذ الوصية هو إقصاء الوصي عن مرتبته التي جعله الله سبحانه فيها وهي قيادة الناس والسير فيهم إلى ما يحييهم واستمر هذا المنهج الانقلابي في سيره الحثيث لاستئصال العترة الطاهرة حتى أنتج غيبة الإمام المهدي(ص) عن واقع الناس وليس عن الحياة ، ولما خلا لهم الجو باضوا وأصفروا ، فراحوا يهاجمون كتاب الله سبحانه ؛ مرة بتحليل ما حرم الله سبحانه ومرة بتحريم ما أحل الله سبحانه عبثا بالشريعة ، ثم باتباع سياسة الحرق للمصاحف التي ابتدعها من يسمونهم (خلفاء) وهم الثلاثة الذين اعقبوا النبي(ص) وشرعنوا للانقلاب على دين الله سبحانه ، واستمرت سياسة الحرق البغيضة إلى يوم الناس هذا حتى وصلت إلى هذا القس الأمريكي المعتوه حيث اقدم على حرق المصحف أمام الكاميرات لتنقل فضائيات العالم هذا الفعل القبيح ، هذا غير الشريعة الشيطانية التي تسيء إلى خلق النبي العظيم(ص) ليواجهوا الله سبحانه جهرة بالتمرد والعصيان ، فالله سبحانه يصف خلق نبيه ورسوله الكريم بأنه (خلق عظيم) ، وهم يسطرون قبائح ومساوئ انطوت عليها نفوسهم الفاسدة ليلصقوها بشخص النبي الكريم(ص).
        إن نهج الإساءة إلى شخوص الأنبياء الكرام الطاهرين المطهرين(ص) روحا وبدنا هو نهج الأمم السالفة ، واقرب تلك الأمم اليهود والنصارى ، وللأسف لم تتأخر أمة السقيفة من الالتحاق بهذا الركب المتمرد حتى راحت تسطر في صحاحها أخبارا ومرويات يترفع عن فعل ما ذكرته تلك الأخبار من كان له مسكة من عقل أو دين فما بالك وهي تنسب إلى من زكاه ربه سبحانه وطهره خلقا وخلقا وما نراه اليوم من إحياء لهذه السنة الخبيثة السيئة على يد النصارى المنحرفين عن خلق عيسى(ع) ودينه ، هو ما أسسته سقيفة بني ساعدة التي شرعنت الانقلاب على دين الله سبحانه في كل تفاصيله ، بل وذهبت بعيدا بأن نسبت إلى رسول الخلق العظيم(ص) أفعالا يترفع عنها من هو أدنى منه خلقا بكثير ، بل أن السقيفة راحت تنزه اتباعها ومهندسيها من نصوص قرآنية تفضحهم فألصقتها بشخص النبي الكريم(ص) وهو منها براء ، وليس أدل على ذلك مما اختلقوه عن سبب نزول هذه السورة وآياتها الأولى أن الذي عبس بوجه الأعمى هو محمد(ص) فعاتبه ربه سبحانه!!! وهذه الفرية ساقوها ليداروا فضيحة الخليفة الثالث (عثمان) الذي كانت نفسه منطوية على التكبر عندما كان يحادث النبي(ص) فلما جاء هذا الرجل الأعمى الفقير ليسأل عن دينه ترك رسول الله(ص) محادثة عثمان وأقبل على هذا السائل عن دينه فمحادثته أهم فما كان من عثمان إلا أن عبس وتولى ، لتنزل سورة عبس كاشفة لما انطوت عليه تلك النفس المتكبرة ولذا يجد المسلمون اليوم أن ما يدعيه اتباع خط السقيفة من حفظ الدين ومحبة الرسول(ص) تكشف زيفه وحقيقته تلك الأخبار التي ذكرتها صحاحهم وهي طافحة بالإساءة لشخص النبي الكريم(ص) ، ولينتبه القارئ الكريم أن ذكر الحقائق لا يعني طائفية أو تحزبية أو ميل لجهة على حساب جهة ، بل هو ميل للحقيقة كشفت عن القراءة والبحث والنظر بعين الحق لا بعين الأنا.
        ولذا فمن يزعم أن لديه غيرة على دين الله سبحانه وعلى نبيه الخاتم وسيد المرسلين محمد(ص) فليبحث عن النهج القويم الذي يجعله ناصرا حقيقيا للدين الإلهي ولرسل الله وأنبيائه وأوصيائه(ع) جميعهم من دون استثناء ، فكلهم خلفاء لله الواحد الأحد وكلهم يعملون بأمره سبحانه ، ونهجهم واحد وشريعتهم واحدة وخلقهم واحد ، ومن يسيء لواحد منهم فقد اساء لهم كلهم ، بل اساء لمن بعثهم وهو الله سبحانه ، ولذلك نرى الحق سبحانه يعد تكذيب قوم نوح لنوح(ع) هو تكذيب لكل رسله من سبقوا نوحا(ع) ومن يأتوا بعده إلى يوم القيامة فقال سبحانه{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً}(الفرقان/37) ، فنهج الأنبياء والرسل والأوصياء(ع) واحد وكذلك نهج المتمردين عليهم من عبدة الأنا ، فهل في الناس من ينهج نهج إبراهيم الخليل(ع) ليحمل فأسه ويحطم الصنم الذي بين جنبيه ليكون من بنائي دولة العدل الإلهي؟؟!!