الصغيرة بظفائرها المنسدلة على كتفين مغطين برماد قنابر الهاون، تلقي اخر نظرة لها على أسوار بيوت مهدمة، وابواب مشرعة للشظايا، وارصفة مهشمة بعبوات لم تنفجر بعد، لحظة التقطتها ذراع امها لتقطع عليها اخر صور الطفولة المذبوحة بين اسوار المساجد، وتهرع بها مستنجدة بالموت من بقايا حياة حزينة ملأها الله بالاذان المتكرر والصلاة على النبي، ودعوات جهاد النكاح المطلوب قسرا من امرأة فقدت زوجها قبل عامين بطلقة قناص جاء من الصحراء المرملة، حاملا معه اكاذيب تاريخ لم يكتب ولم يقرأ الا في الجحور المظلمة، ووراء كواليس المخابرات وقادة المؤامرات على اسلام لم يعد المسلمون فيه يعرفون تماما اذا ما كان الله يقف الى جانبهم ام انه قد غضب عليهم منذ ان اكل ادم التفاحة، او منذ ان قتل قابيل شقيقه هابيل لنولد كبشر من نطفة قاتل لاخيه ولنحمل في اصلابنا جينات الخيانة والشر والحسد ولتكون اجيالنا اولاد خيانات متكررة، فلم نكتب بعد ذلك سوى حوادث وقصص الخيانات ابتداءا من خيانة امرأتي لوط و نوح مرورا بخيانة اخوة يوسف، وخيانة اهل الكوفة للحسين، وحاضرا بين خيانات مزدوجة للفلوجة التي كانت يوما مدينة المآذن والصلوات والمقاومة للمحتلين، لتصبح لاحقا مدينة الارهاب ويد الاحتلال وخاصرة لاستنزاف وتمزيق شعب طالما زحف على جمر المحبة والعشق والكبرياء والبطولة، خيانة الفلوجة من شيوخ ملأوا كروشهم بالثريد والدولارات وراحوا يتقيأون نفاقهم في فنادق عمان واسطنبول واربيل، وخيانة اميركا لها يوم فشلت في فرض سيطرتها عليها فحولتها من نجمعة لامعة في سماء المقاومة الى مدينة للموت والارهاب، وخيانة العرب الذين لم يتباكوا عليها يوم اباحها ابو مصعب الزرقاوي لكل من هب ودب، وخيانة الفرس يوم جعلوها مسرحا لصراعهم مع ال سعود، ثم خيانتنا نحن يوم قتلنا الطفولة فيها وجعلنا من بزيبز والعامرية كيس ذكريات لمعتقلات مبهرجة باسم الدين والمواطنة والانسانية والهلال الاحمر والامم المتحدة..
تقف الطفلة الان بظفائرها المنسدلة، ملتصقة بجسد امها الذاوي من العطش والخوف عند ساتر ترابي يردد صدى اصوات القنابل والقاذفات ورشقات الكلاشنكوف، وتتناثر على قمته وجنباته رصاصات طائشة منطلقة من جهات متقابلة، وامامها يتقدم شيخ بلحية بيضاء يمد لها يديه ليحتضنها، غير انها ما لبثت ان تراجعت مختبئة خلف الجسد الذاوي، صارخة بكل براءة الطفولة المسفوحة على طرقات وأرصفة الفلوجة وبكل الخوف، من ان تسلب من حضن امها، اذ لم يكن باستطاعتها وهي بنت التاسعة ان تفرق بين لحية بيضاء وبين اخرى مشعثة طالما هتكت في الليل وفي النهار ستر دار رسمت عليه الشظايا لوحة الدماء والالام، لتعتلي جسد ام كسيرة تئن بصوت كصوت ناي حزين منذ ان فقدت بقصف الاحتلال ابا واما واخا وجارا، ومن ثم زوجا باطلاقة قناص لم يجد وقتا كافيا للهو عبر صحراء شاسعة مليئة بالاشواك والعقارب والثعابين، فلم يعد لها بعد ذلك في الفلوجة غير قصص الموت وصور الاشباح الذين يزورونها مع الظلام، وانات عجائز على الطرقات وقت الغروب، وحصار ابتدأ باسم الله ودفاعا عنه لينتهي يوما ما باسمه وبنصر من عنده ايضا، لكنها لم تفهم ولم تعرف ولم تتاكد بعد على اية جهة يقف الله، وهل كان محاصرا معها ام انه خلف السواتر والراجمات، وهاهي الان وجها لوجه امام ساتر من تراب، وبندقية محشوة بدماء حمراء، ولحية بيضاء يشوبها الغبار الاسمر، ويد تمتد اليها باسم الله ايضا، هو ذات الاله الذي كان يصلي له
العابدون في الفلوجة، ولانها لم تتاكد بعد فيما اذا كانت قد تركت هي وامها، الله عند اعتاب مساجد الفلوجة ام انها ستجده منتظرا اياها مع كسرة خبز وجرعة ماء خلف السواتر، فقد شعرت بقلبها وكانه يريد ان يخرج من بين اضلع لم تزل لينة طرية، فالصقت صدرها بجسد امها شابكة ذراعيها حولها وقد ضغطت اقدامها الحافية على شوك الصحراء فلم تعد تعرف ان كان بكائها من تجريح الاشواك لقدمها، ام من هيئة الشيخ ذي اللحية البيضاء المقاتل دفاعا عن الله والذي يمد اليها اذرعا ملطخة ببقايا طعام لها لون الدم، راسما على وجهه ابتسامة صفراء بلون الرمال وهو ينادي: تعالي بنيتي لاتخافي، ولكن صوته جاء اليها مثل صوت ذلك الاشعث الذي كان يعتلي جسد امها متباركا باسم الله أيضا، فدكت باقدامها على الاشواك وضغطت بقوة بذراعيها على جسد امها الذي تهاوى فجأة مضمخا بالدماء والتراب الذي ملأ السماء بعد سقوط قذيفة قريبة علا صوت انفجارها على صوت صراخها الذي انقطع فجاة ايضا، ليتملك الوجود صمت مطبق، ولم تعد ترى شيئا بفعل الغبار المتصاعد، لكنها شعرت بدم حار يلطخ ذراعيها، واستمعت حين احتضنت امها لاخر همسات الجسد الذاوي والشفاه اليابسة، لم تكن كلمات امها واضحة بل كانت انينا خافتا متقطعا ينطق ايضا باسم الله.. [email protected]