أصوات بدأت خافتة ولكن حدتها أخذت ترتفع وتتنوع طبقاتها وتتناغم مع الحان منسقة لتتحول إلى معزوفة موسيقية ثم أغنيات تؤدى على مقام ( البيات ) المعروف في العراق ، ليست هذه مقدمة موسيقية وإنما هو السيناريو الجديد لبداية هدم البلاد أو ما تبقى في العراق أو بشكل أدق ما سلم من أيادي اللصوص والسارقين والفاسدين ، فالبعض الذي حول الاقتصاد إلى ( بقرة ) يحلب منها أكثر من المستطاع واغتنى وأثري على حساب الآخرين دون تمييز بين الحرام والحلال ، أخذ يجند أفواها تخرج منها روائح مقززة تدعوا إلى إنقاذ الاقتصاد من الديون والقروض ومعالجة عجز الموازنة من الإيرادات من خلال تعويم سعر صرف الدينار العراقي وإخضاعه إلى آليات العرض والطلب ، وهذه الدعوات التي قد ترتفع أصواتها كلما يقترب موعد الانتخابات آو بعدها وتغلف نفسها بغلاف الوطنية في حين إن لا فائدة منها إلا جني المزيد من الأموال دون جهد يذكر وتعظيم الثروات للسارقين والفاسدين وطمس الحقائق وزيادة معاناة الفقراء ، وفحوى أطروحاتها يتلخص بإيقاف نافذة البنك المركزي العراقي وان يدخل البنك في الأسواق ليشتري ويبيع الدولار بالأسعار السائدة في الأسواق وبنفس الطريقة التي كانت متبعة في سنوات الحصار أثناء حكم النظام السابق ، ومن المبررات التي يطرحونها بهذا الخصوص هو للمحافظة على احتياطي البنك المركزي من الدولار الذي تناقص لأكثر من 25 مليار دولار خلال السنوات ( 2015 ، 2016 ، 2017 ) ، حيث اضطر البلد للإنفاق العسكري لتغطية تكاليف الحرب على داعش وتعويض عجز الموازنة باعتبار إن أسعار النفط لم تصل إلى درجات متفائلة ( رغم ارتفاعها الطفيف ) تعيد الدولارات التي سحبت من الاحتياطي النقدي ، ويتعكز من يطرح هذه ( السموم ) على نجاح تجربة مصر في تعويم الجنيه المصري وجني مكاسب تصل لأكثر من 10 مليارات دولار خلال الستة أشهر الماضية ، كما يدعون بأنه لا بد من التعجيل بتعويم الدينار لكي لا تفوت الفرصة ويصبح الاحتياطي الوطني من الدولار في موقف محرج بحيث يتغير تصنيفنا الائتماني إلى أدنى ما نحن عليه .
والغاية ( الدنيئة ) من دعوات الفاسدين لاتخاذ هذا الإجراء هو لجني مصالح ذاتية 100% لا علاقة لها بمصلحة الاقتصاد الوطني ، فهؤلاء امتلأت خزانات أموالهم من الدولار ولم يعدوا يقتنعون بالأرباح غير المشروعة من بيع الدولار لان تعويم الدينار يضاعف ثرواتهم فمن لديه دولار يبيعه اليوم ب1250 دينار سيشكل احتكارا لإيصال سعر الدولار إلى 2500 دينار أو أكثر ، أي إن المردودات ستتيح لحصول تفاوت كبير في الدخول من خلال وجود فئة غاية في الغني وفئة كبيرة بدرجة كبيرة الفقر ، وبضوء هذا التفاوت سيكون من الممكن ليس التحكم بالأسعار والأسواق فحسب بل الهيمنة الكاملة على السياسة والاقتصاد والاجتماع من خلال هيمنة الأموال ، وستكون الدولة غير قادرة على زيادة الرواتب لان ذلك يعني التضحية بمخزوناتها من الدولار باعتبار إن الدينار عملة مغطاة بالدولار والعملات الأخرى والذهب ، بمعنى أدق إن هذه السياسة ستخرج ما تملكه الدولة من الاحتياطيات تحت ضغط الشارع العراقي وبسبب الفاقة والفقر لان البلد لا يزال في ظل اقتصاد ريعي ويعتمد على الاستيراد في توفير احتياجات الشعب ، والاستيرادات ستكون تحت سيطرة أصحاب الأموال الذين سيتولون زمام الأمور في تحديد الأسعار وتوجيه الإنفاق في ظل ضعف كفاءة الأداء في العديد من الأجهزة الحكومية التي تدار بالمحاصصة والوكالة وليس على أسس الفاعلية في كل الحالات ، ومن حق البعض أن يستفهم عن أسباب هذا التحول في الآراء بعد أن كانت أكثر الأصوات المتخصصة بالأموال والاقتصاد تدعوا إلى تخلي البنك المركزي عن بيع العملة والاتجاه إلى تعويم الدينار ، ولهم نقول إن الآراء كانت ولا تزال تتجه إلى عقلنة مزاد العملة وحمايته من غسيل الأموال وتوجيه المبيعات من الدولار إلى الاحتياجات الفعلية التي لا تتعارض مع السياسات الصناعية والزراعية وبشكل يكفل المنافسة العادلة للمستورد مع المنتج المحلي ويجاد سياسات كمركية وضريبية تأخذ بعين الاعتبار حجم مبيعات الدولار ، مع وجوب مراقبة حركة الدولار ومعدل دورانه ووضع معايير لميزان المدفوعات بشكل لا يحول العراق إلى مصدر للدولار ، ورغم إن تلك التحفظات لم تطبق بالكامل إلا إن البنك المركزي العراقي قد أخذ بالعديد منها في علاقته مع البنك الدولي وصندوق النقد حيث يعمل على تطبيق الشفافية والرقابة على حركة الدولار وأمور أخرى يتم تداولها في الإعلام .
ومن الأسباب السياسية والأمنية التي تدعوا إلى عدم تعويم الدينار في الوقت الحالي ( على الأقل ) هو التخوف من اختلاط المال السياسي القادم من الخارج لتنفيذ أجندات سياسية وأمنية غير مشروعة مع المال الذي يخرج من خلال القنوات الرسمية التي تخضع إلى الشفافية ، كما إن هناك تنسيق وتعاون بين الحكومة والبنك المركزي ( باعتباره سلطة مستقلة عن الحكومة ) في مجال استرجاع الأموال المقترضة وإعادة الاحتياطي إلى أرقامه الاعتيادية ، بعد إن اضطرت الحكومة لتكوين هذه العلاقة بضمانات حوالات الخزينة كبديل عن الاقتراض الخارجي لتقليل المخاطر ، وهي سياسة كان لابد منها باعتبارها واحدة من البدائل المتاحة بعد أن تعرض بلدنا إلى هجمات متنوعة المخاطر في 2014 ، والأمر الذي يشكل تهديدا بهذا الخصوص هو كيفية استرجاع تلك المبالغ في ظل عدم وجود قفزات في أسعار النفط وضعف الاعتماد على الإيرادات غير النفطية في زيادة إيرادات الموازنة كالضرائب والرسوم وتعاظم النفقات التشغيلية والاستثمارية لكثرة الالتزامات وضعف الخدمات ، وكل ما ذكرناه سابقا قد يكون أفضل من تعويم الدينار لأنه يبقي الأمر بيد الحكومة وهو ليس بمعزل عن علم ومعرفة الجهات المالية الدولية ومشكلته انه لم يحظى بقرار من مجلس النواب ، كما إن أضراره محدودة على المواطن فهي في كل الأحوال أقل وطأة من الأضرار التي يمكن أن يحدثها تعويم الدينار كما انه يغلق الأبواب على المطالبة بزيادة الرواتب من خلال إبقاء الوضع كما هو عليه ، والوضع المالي الحالي أكثر ملائمة للحكومة في المناورة بالموارد مادامت الأخطار الأمنية محتملة إذ لا تزال هناك مناطق غير محررة كما إن هناك حواضن تمتلك الرغبة في التصعيد كلما سنحت لها الفرصة لذلك ، ورغم ذلك فان إبقاء الإجراءات المطبقة دون إصلاحات فعلية من شانه تكريس المشكلات القائمة ومنها البطالة وتراجع الخدمات ومحدودية القدرة على إجراء التغيير الهيكلي في الاقتصاد والتحول من النمط الاستهلاكي إلى الإنتاجي لتقادم معظم وسائل الإنتاج وعدم القدرة على جذب الاستثمارات للداخل والنمطية في تشغيل المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تحولت لشعارات وطموحات .
ونشير بهذا الخصوص بان محاولات تعويم الدينار سوف لا تنقطع لأنها مغارة ( علي بابا ) التي ينوي دخولها الراغبون بنهب ثروت العراق بالطريقة ( الناعمة) ، فهي أثمن من بعض المكاسب السياسية وغير السياسية التي يسعى لبلوغها الفاسدون والطارئون وان الضرر الحتمي على ذلك يقع على الفقراء فالأسعار يمكن أن ترتفع إلى أضعاف وضعها الحالي ، آخذين بنظر الاعتبار إن ادارة هكذا سياسة تحتاج إلى إجراءات مالية ونقدية واقتصادية من الصعب الاضطلاع بها في الوقت الحاضر ، إذ لا يزال بلدنا يقوم بإعداد موازنته الاتحادية بعقلية موازنة الأبواب كما إن الجهات المعنية وبعد تجربة تمتد إلى 27 عام تعجز عن توفير مفردات البطاقة التموينية بل وصل العجز إلى توقف طبعها وتوزيعها منذ عامين ، لذا من الضروري عدم الانجرار وراء الكلام المنمق وإطلاق الوعود الوردية حول فوائد تعويم الدينار لا في الحكومة الحالية ( الممانعة للتعويم حاليا ) ولا في الأمد القريب إلا بعد أن تكتمل الرؤيا الاقتصادية للبلد وتنجلي الاستثناءات وتتوفر المتطلبات المناسبة لهذا الانتقال ، والمقارنة مع تجربة مصر أو غيرها بهذا الخصوص لغرض الحكم والتعميم غير صحيح في جوانب عديدة ، فالفوارق كبيرة في البنى التحتية وفي هيكل الاقتصاد وإسهام وتنوع القطاعات الاقتصادية في تكوين الدخل القومي والأسس المعتمدة في مجال ميزان المدفوعات ، وأكثر ما نحتاج إليه في الوقت الحالي هو إجراء تقويم موضوعي لمبيعات البنك المركزي من الدولار وعدم السماح بهدر هذه الثروة المهمة ، وإحكام الرقابة على حركة الدولار والحد من سياسة الدولرة بجعل الأسعار بالدينار مع وجوب الالتزام بأسعار الصرف التي يعتمدها البنك المركزي والتعاقد مع شركات التدقيق العالمية لتتبع حركة الدولار منذ 2004 واسترجاع أموال الفساد ، فسعر الدولار في البنك 1190 دينار وحالات البيع بأكثر من هذا السعر يجب التعامل معها كونها مخالفة لا يمكن السكوت عنها لأنها تؤدي إلى إفراغ جيوب الفقراء .