كنت عاملا في إحدى الشركات الاجنبية ، وكانت هي المنتشرة في البلاد ، وقد وصل بنا لوري نقل العمال إلى موقع العمل الساعة السادسة صباحا ، وكان المرحوم السائق ابو حسن يقول أثناء نزولنا من ظهر ذلك الشاحنة ان الفترة الدينية انقطعت ، والراديو يبث اناشيد وموسيقى عسكرية، وبعد برهة من الزمن انطلق المذياع بالبيان رقم واحد ، وما أن وصل المستر بل المهندس البريطاني المقيم ،وهو يوقف سيارته البيك اب نوع ماركوري موديل ١٩٥٨ ، حتى صاح مرحبا نحو العمل ، فما كان من المستر اوديشو وهو مواطن عراقي اثوري إلا وبدأ يشرح له مضمون البيان قيد الإذاعة ، حتى عاد مسرعا إلى سيارته وغادر الموقع دون أي توجيه للعاملين ، وبعد ان تفهمنا مضمون البيان عدنا إلى ظهر الشاحنة وانطلقت بنا من منطقة حجي زيدان مرورا بشارع مطار بغداد (المثنى حاليا ) والتفافا حول المحطة العالمية سارت بنا قاطعة شارع الصالحية باتجاه ساحة الملك فيصل الاول عند تقاطع جسر مود ( الاحرار حاليا) حيث يشخص ذلك الرمز لاول ملك للعراق بعد الاحتلال البريطاني عام ١٩١٧ ، وترجلت عند الساحة ، وشاهدت دبابتين الاولى توجهت بمدفعها صوب الجسر ، والثانية صوب الصالحية باتجاه المحطة العالمية ، وشاهدت عددا محدودا من الناس تقف أمام التمثال ، فما كان مني إلا أن توجهت صوب الإذاعة وفي الطريق ازداد عدد الجنود المنتشرين على جانبيه حماية للإذاعة ، وشاهدت عددا من الضباط يتوسطهم المقدم مهدي علي الصالحي ، وقد عرفته وهو جار لنا يسكن في منطقة الدوريين زقاق ٧ وهو صهر معلمي في المدرسة ،
عدت ثانية إلى الساحة حيث تكاثر عدد المحيطين بنصب الملك ، وأخذ احدهم يرمي التراب عليه من الحديقة المحيطة بالتمثال ، وقد منعه أحد العسكريين قائلا لا تفعل لا توجد أوامر ، وبعد برهة جاءت مجموعة من الأفراد وأخذت تنهال على التمثال ، في تلك اللحظة جاءت سيارة الشركة التي أعمل فيها عائدة بالعمال الذين كانوا يعملون في البلاط الملكي الجديد في كرادة مريم منطقة الگاورية ( القصر الجمهوري حاليا ) واستقليت السيارة باتجاه الشواكة ، وشاهدت الفؤوس تنهال على نصب الجنرال مود القائد العام للحملة البريطانية لاحتلال العراق ، وتوقفت السيارة ونزل العمال ، وجاء السائق جبار بحبل من السيارة وأعطاه للشباب ، فتم ربطه بالنصب من جهة والبيكاب من جهة أخرى وتم سحب التمثال ، وسط اهازيج الشباب ، واغلبهم من منطقة الكريمات المعروفة بالولاء للحزب الشيوعي العراقي ، وتركت المكان عابرا منطقة الشواكة باتجاه شارع النصر الذي يربط تقاطع منطقة سوق الدجاج بساحة الشهداء فجسر الشهداء ، وقد كان الشارع يعج بالمارة والواقفين ، البعض ينصت إلى المذياع عند محل مصلح الساعات ، والبعض الآخر يشتم نوري السعيد وثالث مندهش وخائف وهو يقول ( يمعودين الشرطة السرية) وبعد برهة جاءت تظاهرة صغيرة تهتف بحياة الجيش فسرت معهم باتجاه ساحة الشهداء ، وانضم نفر اخر وهم من القوميين والبعثبين المتسللين من منطقة سوق الجديد وعلاوي الشيخ صندل وغيرها من محلات الكرخ أمام إعدادية الكرخ، ، ولم الاحظ أي منظم للمظاهرة أو موجه لها انها مظاهرات عفوية شعبية انضمت الى بيانات الجيش وتيقنت أن القوات المسلحة أمسكت بتلابيب السلطة ، وعبرت جسر الشهداء وكان سوق السراي من جهة اليسار شبه فارغ من السراجين والصاغة وباعة الكتب او القرطاسية ، ومن جهة اليمين المحلات مغلقة ، وتمر الساعات ، وانا اتنقل من مكان إلى آخر حتى الساعة الحادية والنصف تقريبا وصلت بالقرب من مطعم الشمس المشهور حيث يحمل أحد الشبان سطلا مملوءا بالماء البارد وهو يصيح اشرب والعن نوري السعيد. وما شربت الماء حتى جاءت مظاهرة كبيرة تحمل جثة الوصي عبد الإله ، ( علمت أنها قد انزلت عند الساحة أمام سينما بغداد قدري سابقا ، حيث كانت تنقل مع بقية جثث العائلة المالكة إلى معهد الطب العدلي) وهي تندد به وتهتف للجيش ، وقام احدهم بضرب الجثة ، وسارت المظاهرة بالجثة صوب وزارة الدفاع ،
أردنا بهذا التمهيد أن نقول ، أن الجيش قام بالزحف على بغداد وهو في طريقه باتجاه سوريا ، وأسقط النظام دون أن يكون هناك تنسيق مسبق مع المواطن العادي الذي التف منذ اللحظات الأولى للثورة وهو لا يعرف رجالها ، ولكنه يعرف جيشها ومأثره في فلسطين ، كما أن التأييد وان كان عفويا تلقائيا لا أنه وليد ظلم أوقعه النظام على الشبيبة بحجة مكافحة الشيوعية ، وأنه وليد تفهم الأجيال بتبعية الحكومات المتعاقبة منذ ولادة الدولة عام ١٩٢١ بالاستعمار البريطاني ، وللتاريخ لم يشهد العراق ألفة وطنية أو وحدة شعبية إلا من خلال ثورة ١٤ تموز ، وكانت الاحتفالات السنوية على الأقل في العامين الأوليين احتفالات حقيقة نابعة من صميم وجدان المواطن البسيط .
أننا في ذكرى هذه الثورة الخالدة واحد شهود العيان ، أود أن أذكر كل من هو في السلطة الحالية ، أو من هو في دولتها العميقة ، أو من هو خارج إطارها ومننتع بها ، أود أن اذكرهم أن هذا الشعب الذي رأيته في بداية حياتي هو شعب لا يعرف احد بدايات غضبه ولا يعرف احد حجم غضبه ، فقد سحل الوصي وجاب الشوارع بجثة نوري السعيد ، هو شعب يصنع الزعيم ويلعنه ، هو شعب لم يدافع عن زعيم إلا عن عبد الكريم قاسم ، لانه الوحيد الذي حمل الوطنية الحقة ولشعبه المحبة ، ولدولته الهيبة ، ولما لم يكن أي منكم حمل هذه الصفات فعليه أن يحذر مما هو آت في قادم الأيام والحليم تكفيه إشارة الإبهام …