احتكار الفضيلة: بين السيكولوجيا والتطبيق الاجتماعي في العراق

احتكار الفضيلة: بين السيكولوجيا والتطبيق الاجتماعي في العراق

في سياقٍ معقّد يتشابك فيه الفلسفي بالنفسي، ويتداخل فيه القانوني بالاجتماعي، يتجلى مفهوم احتكار الفضيلة بوصفه ظاهرة متجذرة في التاريخ الجمعي، لا سيما في الحالة العراقية، حيث تتكثف هذه الظاهرة ضمن مفهوم “الطيبة” بوصفها سمة جمعية وهوية أخلاقية متعالية. هذا الاحتكار لا ينبع فقط من ممارسات فردية أو جماعية مباشرة، بل من بنية ذهنية تشكّلت عبر قرون من التراكم الرمزي والأسطوري، وتغذت من روافد دينية، ثقافية، وسياسية متعاقبة. فالفضيلة، في جوهرها، ليست قيمة ساكنة ولا حقيقة مطلقة، بل منظومة متحولة يُعاد تعريفها باستمرار عبر ممارسة نقدية منفتحة. غير أن ما يحدث في المجتمعات التي تحتكر هذه القيم هو تثبيتها في قوالب مقدّسة تمنع مساءلتها، وتحوّلها إلى أدوات للفرز الأخلاقي وإقصاء الآخر المختلف أو الناقد.

احتكار الفضيلة في العراق لا ينفصل عن تجربة جمعية لطالما ارتبطت بشعورٍ بالتفوق الأخلاقي، تغذيه سرديات الطيبة التي تُقدَّم كميزة عراقية فريدة، وكأنها منحة جينية أو تاريخية. لكن هذه “الطيبة” حين تُستخدم كأداة للتمايز الجمعي، تتحوّل إلى قيد يمنع الاعتراف بالتناقضات الذاتية. فبين ادعاء الأخلاق العليا، والممارسات اليومية التي يشوبها العنف الرمزي والمادي، تنشأ فجوة تُغطّى بتبريرات مستندة إلى خطاب المظلومية المستدامة، الذي يصوّر العراقي كضحية تاريخية دائمة. هذا الخطاب لا يتيح مساحة للنقد الذاتي، بل يكرّس منظومة دفاعية ترفض التغيير وترى فيه خيانةً للهوية.

الفلسفة الأخلاقية، منذ أفلاطون إلى نيتشه، طرحت تساؤلات حول سلطة الأخلاق، من يملكها؟ من يحدد معناها؟ فبينما ربط أفلاطون الفضيلة بالمعرفة، شدد أرسطو على الوسط الذهبي، وهاجم نيتشه الفضيلة التقليدية بوصفها آلية للهيمنة. أما في السياق العراقي، فإن احتكار الفضيلة يتحصن خلف مفهوم الطيبة، في حين تتكفّل الأسطورة الجمعية بتثبيت هذه الفكرة عبر التاريخ. من السومريين إلى العباسيين، من الفقهاء إلى رجال الدين، من الدولة إلى القبيلة، جميعها ساهمت في إنتاج خطاب فضيلة يحتكر الحقيقة الأخلاقية ويمنحها لمن يطابق النموذج المرسوم مسبقًا. ما يتبقى خارج هذا النموذج، يُقصى أخلاقيًا، ويُشيطن اجتماعيًا.

سيكولوجيًا، يرتكز احتكار الفضيلة على تحيّزات معرفية مثل التفوق الأخلاقي، التنافر المعرفي، والانتماء الجماعي. فالأفراد والجماعات يميلون إلى رؤية أنفسهم كالأكثر أخلاقًا، ويبرّرون التناقضات بين القيم والسلوك بادعاء امتلاك الحقيقة. هذه الديناميكيات، حين تتعزز بخطاب السلطة أو بدعم مؤسسات دينية أو اجتماعية، تُنتج بيئة خانقة تُصنَّف فيها النوايا قبل الأفعال، وتُقاس الأخلاق بالولاء لا بالممارسة. لذا ليس عجبا ان يكون هناك هوس محموم لدى البعض (رؤساء احزاب، طوائف وقبائل)، لتحويل المجتمع الى عناصر وكائنات نادرة تختلف جينيا بالوظيفة والدور العلمي والاقتصادي عن بقية اقرانهم من الطوائف في ذات المجتمع التي تشترك معها بالتاريخ الواحد و التجربة ذاتها.

أما قانونيًا، فالقيم الأخلاقية عندما تتحول إلى أدوات تشريعية، فإنها إما تكرّس الاحتكار (عبر التشريعات السلطوية أو الدينية)، أو تكافحه (عبر قوانين الحقوق والعدالة). العراق عاش كلا النموذجين، إلا أن الموروث الطاغي بقي محافظًا على سردية الطيبة بوصفها فضيلة جمعية شبه مطلقة. وفي مرحلة ما بعد 2003، ومع تصدّع الهوية الوطنية، أعادت الجماعات الطائفية والقبلية إنتاج الطيبة كوسم أخلاقي خاص بها، ما ضاعف من الانقسام ومنح الفضيلة وجوهًا متصارعة.

في عمق هذه الإشكالية يكمن ما يمكن تسميته بـ”المخيال الجمعي الشبحي”، وهو منظومة سردية لا واعية تُغذّي الشعور بالتفوق الأخلاقي عبر ماضٍ متخيَّل مقدّس. هذا المخيال ينبثق من الأساطير، الروايات التاريخية، النصوص الدينية، والهويات المتخيلة، ويُنتج إحساسًا دائمًا بأن العراقيين ليسوا فقط الأوائل في الحضارة، بل الأتقى، والأصدق، والأكثر مظلومية. هذه الصور اللاواعية تُنتج رفضًا لأي مساءلة، وتحوّل كل نقد إلى تهديد، وكل محاولة للتغيير إلى خيانة للذات الجمعية.

ما يعمّق المأزق هو أن هذا المخيال يُفعّل أدوات مثل خطاب المظلومية، الحنين المرضي للماضي، تقديس الرموز التاريخية، وربط الأخلاق بالهويات الطائفية والقبلية. وحين تتحول هذه العناصر إلى محددات للفضيلة، يصبح التفكيك ضرورة وجودية. من هنا، يبدأ الحل بالوعي التاريخي النقدي، وإعادة سرد التاريخ بعيون تقرّ بالخطأ مثلما تحتفي بالإنجاز، وتنتج مفهوماً للفضيلة لا يرتبط بالانتماء، بل بالفعل. لا بد من تفكيك خطاب المظلومية وإحلال ثقافة المسؤولية الجماعية، إذ لا يمكن بناء أخلاق جماعية حقيقية في ظل عقلية ترفض الاعتراف بدورها في المشهد.

تحرير الفضيلة من براثن الاحتكار يبدأ أيضًا بفصلها عن الهويات الضيقة، وتعزيز فضيلة الطيبة بوصفها سلوكًا إنسانيًا لا لقبًا جمعيًا محصنًا. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال مشروع وطني يُدرك أن العراق ليس كيانًا ميتافيزيقيًا متماثلاً، بل كيان متعدد، يعيش في فسيفساء الهويات والانتماءات. عندها فقط يمكن للفضيلة أن تستعيد نقاءها، وللهوية أن تخرج من فخ التعالي الأخلاقي إلى فضاء التعدد والانفتاح.

فهل يستطيع العراقيون أن يتحرروا من هذا الإرث الشبحي؟ الإجابة ليست يقينية، لكنها تبدأ من الوعي، ومن الرغبة في كسر المرايا التي لا تعكس سوى صورة واحدة مشوّهة عن النفس، تُدعى الفضيلة المطلقة.

#احتكار_الفضيلة
#الهوية_العراقية
#الوعي_الأخلاقي
#الفلسفة_الأخلاقية
#السيكولوجيا_الاجتماعية
#التاريخ_العراقي
#المخيال_الجمعي
#النقد_الاجتماعي
#التفوق_الأخلاقي
#الطيبة_العراقية
#التفكير_النقدي
#الهوية_الجمعية
#الأخلاق_والمجتمع
#العراق_الجديد
#التحليل_الفلسفي
#البنية_الاجتماعية
#الثقافة_العراقية
#الخطاب_الأخلاقي
#نقد_الماضي
#ثورة_فكرية

أحدث المقالات

أحدث المقالات