22 ديسمبر، 2024 11:47 م

أعظمُ ما شَهِدَه تاريخ البشر جهودُهم في البحث عن الحقائق ،واسوأ ماشهده تاريخُهم هو احتكارُ الحقيقة ، احتكارُ الحقيقة تحوّل الى شرّ ومرض يفتكُ بالعقل والجسد والروح ،حيث ارتَكبَت السلطاتُ الدينية ُوالمدنيةُ على حد سواء جرائمَ ضد أصحاب الرأي محرّضة العامّة والقانون على تعليق العلماء على المشانق ،أو عزلهم أو تسميمهم أوإهانتهم أو تجويعهم حتى الموت .. وتعد ّمحاكمة ُسقراط الفيلسوف اليوناني الشهير واعدامه في القرن الرابع قبل الميلاد فاتحة خالدة للنزاع بين السلطة والعقل الخلاق بعد أنْ اتهموه بتسميم ِعقولِ الشباب لانه شكّك بوجودِ الشيطان واعتبر العيشَ في الفضائل أهم من عبادة الالهة .إحتكارُ الحقيقة من قبلِ سلطات ِاثينا (الديمقراطية) أعمت الابصارَ وضحّت بعقل سقراط الذي بقي خالدا خلود أثينا وأنهارها وصخورها .
و من أشهر الإعدامات التي نفذت بالعلماء أيضا ماحدث في النصف الثاني من القرن السادس عشر، حين أعدم (كوبرنيوكس) الذي رآى أن الأرض لا يمكنُ أن تكونَ مركزَ الكون، معاكساً استنتاج َالكنيسة.
ثم (غاليلو) الذي كَفرَ بعقولِهم حينَ قال : إن الأرضَ هي التي تدورُ حول محورها، مخالفا بذلك آراءَ كلِّ من رأى أن الكونَ هو الذي يدور حول الأرض وهي ثابتةٌ فاعدموه، بل وصَل الإرهابُ الى درجة إحراق بعض ِالفلاسفة أحياءً كما حدث مع العالم والفيلسوف (جوردانو برونو) الذى أحرقه القساوسة ُ فى ميدان روما مطلع عام 1600 لمجرد أنه أيّد نظرية كوبرنيكوس وجاليليو.
وما حدث فى أوروبا تكرّر فى التاريخ العربي والاسلامي في حالات شهدت أساطيرَ في البشاعة، فبعد أنْ نشر (ابن المقفع) رسالتهُ المُعنونة (رسالةُ الصحابة) أرسلهَا باحترامٍ وتهذيبٍ إلى الخليفة أبي جعفر المنصور كرسالةٍ من ناصح ٍأمين لايُريد ُغيرَالإصلاح ،لكن المنصورَ لم يحتملْ ماجاءَ فيها من نقد ٍ فأمرَ بتقطيعِ جسدِ ابن المقفعّ قطعة ًقطعة وهوينظرإلى أعضاءِ جسده وهى تــُـلقى فى النار.!
وتتوالى أحداث العداء لكل فكرٍ حر، فنجدُ صلاح الدين الأيوبى يأمر ولده بقتل الفيلسوف السهْروَردى (1153- 1191) تجويعا ، كما تـمّ قُتلُ الحسن بن منصورالحلاج (858- 922) لانه دعا الى إمكان الاستعاضة ِعن الوسائط في العبادة والتوفيقِ بين الدينِ والفلسفة على أساس من التجربة الصوفية، فاتهُم بالكفر. وبعدَ سجن ٍدام َسبعة شهور، صدرَالأمربقتله، فتـمّ تقييدُه وضربُه بالسياط ثم صلبُه وقطْعُ رأسِه وحرقُ جثمانه.
المثير في الأمر حين يشتركُ فقهاء وفلاسفة في جريمة اغتيال زملائهم متواطئين مع السلطة في غريزة احتكار الحقيقة العمياء كما حدث مع (ابن عربى) 1165- 1240 مؤلف الفتوحات المكية وكتابه (ترجمان الأشواق) الذى أثارعليه الفقهاء بدعوى الضلالة، وإتهموه بإستعمال الرمز كستار لإخفاء ما يُـنافى الدين. وحين رأى ابن رُشد : أن الإنسانَ يحتاج للعقل والدين معا، داعيا الى إخضاع النص الدينى للبرهان العقلى عند الخلاف ، أفاد الاوربيون من هذا الفكر العملي المنتج فيما أحْرَق َالعربُ كتبَ الرجل ونفاهُ الخليفة من قرطبة الى مراكش حتى مات هناك .

وإذا كان الاضطهاد حّل بالفلاسفة والمفكرين فقد طال أيضا فقهاء الدين المجتهدين انفسهم كما حدث مع أبى حنيفة النعمان لمجرد أنه أيّـد ثورة زيد بن علي على الخليفة الأموى هشام بن عبدالملك . فأفتى بأنّ الثورة على ملك الأمويين جائزة شرعًا. كما رفض أبوحنيفة التعاون مع الخليفة أبى جعفرالمنصورالذى أمرَبحبسه وجلدِه عشرجلدات يوميا . وتكرّرالشىء ذاته مع أحمد بن حنبل فى محنة (خلق القرآن) وانتهت بسجنه 28 شهرًا حيث كان يُـضرب بالسياط حتى يُغمى عليه .

هذا الإجرامُ الذي اشترك فيه محتكروالحقيقة وسَدَنة السلطة عبر التاريخ تم تقويضُه في اوربا بثورات وجهود للنخب الفكرية والثقافية والفلسفية على يد فرسان اوربا من طراز فولتير والفيلسوف (كانت) الذي كتب ” أنّ الظواهرأوالمُعطيات التجريبية فى إطارالزمان والمكان هى وحدها موضوع المعرفة الإنسانية. بينما (الإله) ليس موضوعًا للمعرفة “. فضلا عن جهود سياسية وفلسفية لتحييد دورالكنائس فلم تعد لها أية سلطة على الحياة الدنيوية للبشرالمسؤولين عن وضع القوانين المُنظمة لحياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالى نهضتْ أوروبا بتقدّم العلم وترسيخ قيمة الحرية. فيما شهد تاريخنا العربي والاسلامي تشعبا مبالغا به من صور احتكار الحقيقة وسوق العامة بسياطه ، فتحولت الحقيقة الالهية الى حقائق ناقصة متفرقة يقصي أتباع احداها أتباعَ الاخريات ، وتسرب ذلك الى السياسة التي بالغت كثيرا في اقصاء الراي الاخر وارتكاب جرائم قتل المخالف ، لتحرم الاجيال اللاحقة بسبب ذلك من الاجتهاد والبحث والتقوى الطوعية الحرة والمشاركة السياسية والمعرفة .

* بعض الحوادث ذكرت في مقال “نماذج من قتل الفلاسفة ” للكاتب طلعت رضوان المنشور في موقع civic Egypt – مصر المدنية بتاريخ 29-07-2017 واخرى من مصادر متفرقة.