17 نوفمبر، 2024 2:20 م
Search
Close this search box.

احبولة الدولتين

استحضرت الإدارة الامريكية، دون سابق انذار، مشروع “حل الدولتين”، بعد مرور سبعة وثمانين سنة على مولده المخزي، واعتبرته “السبيل الوحيد لإنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وانه حاجة ضرورية لمرحلة ما بعد وقف الحرب في غزة، واستعدادها للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية على أراض محددة يتم الاتفاق عليها بين الطرفين”. وفي محاولة لأقناع المقاومة الفلسطينية بهذه الاكذوبة، أكد عليها، وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في زيارته الاخيرة إلى الكيان الصهيوني، بتصريح قال فيه، ان الحل، “دولتان لشعبين مجددا، هذا هو الطريق الوحيد لضمان الأمن الدائم لإسرائيل والوسيلة الوحيدة لضمان تحقيق تطلعات الفلسطينيين المشروعة إلى دولة خاصة بهم”. وقد مهد لهذا المشروع، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، في مؤتمر صحفي، بقوله “إن القضاء على حماس كفكرة أصبح امرا مستبعدا، وإنها ليست مجرد مجموعة من الإرهابيين ليتم القضاء عليها عسكريا.” في حين كثفت القناة 13 الإسرائيلية الحديث عنه بقولها “ان الولايات المتحدة تضغط للحصول على موافقة نتنياهو، على وقف لإطلاق النار لأكثر من أربعة أشهر، تتضمن تبادل الأسرى من مرحلتين مع حركة حماس”. لتختمها صحيفة نيويورك تايمز بالقول، “ان مسؤولي المخابرات الأميركية، أبلغوا أعضاء الكونغرس خلال إيجاز عسكري قُدم أمامهم هذا الأسبوع، أن إسرائيل لم تقترب من القضاء على “حماس” لكنها نجحت في إضعاف القدرات القتالية للحركة، نظرا لان حماس تعمل كقوة في حرب عصابات، وتختبئ في شبكة من الأنفاق التي يصعب اختراقها”. وقد فسرت “أن بي سي نيوز” هذه التصريحات،بالقول “إن الإدارة الامريكية اذ تقدم هذا الحل، قبل أي اتفاق شامل ونهائي بين الطرفين، انما تريد منه فهم التحولات الواضحة في موقف واشنطن، تجاه القضية الفلسطينية”.

ان هذه المحاولات البائسة، التي تنطوي على الخداع والتضليل، ما كان للولايات المتحدة بكل غطرستها ان تلجأ اليها، لولا عملية طوفان الأقصى والانتصارات التي حققتها من جهة، ومن جهة أخرى عجز الكيان الصهيوني عن القضاء على المقاومة، كما وعد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو خلال أسبوع او أسبوعين على الأكثر، ليشفي غليله بتدمير غزة وبناها التحتية، واستشهاد عشرات الألوف من الأبرياء. بمعنى اخر، ان ما أقدمت عليه أمريكا، ليس رحمة باهل غزة او يقظة ضمير او استجابة لمطلب وقف الحرب، وانما من اجل انقاذ الكيان الصهيوني من هزيمة منكرة، جراء تورط جيشه في وحل غزة، او في الأقل ترميم صورته البشعة امام الدول الحرة وشعوب الأرض كافة، جراء تنامي غضب الرأي العام العالمي، من جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الصهيوني كل يوم. لكن بايدن نسي لتقدمه في العمر، ان هذا الحل فقد مفعوله، وأصبح عديم الجدوى، وان المقاومة الفلسطينية لم تجن منه سوى سلطة فلسطينية هشة، تدار من تل ابيب، مما يضطر رئيسها محمود عباس مجبرا، الى الإعلان بين فترة وأخرى، التخلي عن جميع الاتفاقات مع الكيان ومع أمريكا” لامتصاص الغضب الشعبي الفلسطيني. وحدهم حكام الردة العرب، يؤيدون” حل الدولتين” ويروجون له، كمحاولة لستر عورتهم.

ان تاريخ حل الدولتين، لا يعود، كما يعتقد البعض، الى المفكر السياسي وعالم اللسانيات نعوم تشومسكي، الذي قدمه بعد هزيمة حرب سنة 1967، وتبنيه من قبل الأمم المتحدة، واصدار القرار 242 بشأنه، وانما سبقته عدة جهات دولية قبل هذا التاريخ بعقود، وتحديدا من سنة 1937. حيث شكلت بريطانيا المحتلة لأرض فلسطين، اللجنة الملكية الفلسطينية التي تُعرف اختصاراً باسم لجنة بيل، نسبة الى ايرل بيل، وزير الدولة لشؤون الهند وعضو المجلس الخاص للمملكة المتحدة. تحدثت عن تقسيم الأراضي الفلسطينية التاريخية الى دولتين. وفي سنة 1938 شكلت بريطانيا لجنة “وودهيد” 1938، بعد رفض الصهاينة مقترح لجنة بيل، بهدف التوصل إلى إقناع الطرفين بقبول التقسيم، إذ عملت اللجنة على إعادة تصحيح توصيات لجنة “بيل” السابقة، والاعتماد عليها في اقتراح عملية أخرى للتقسيم.

في سنة 1947 اصدرت الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة، قرارا تحت رقم 181، وتحديدا في التاسع والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني عام 1947، يقضي بتقسيم الأراضي الفلسطينية التاريخية إلى ثلاثة أقسام، فيما عرف، بـقرار تقسيم فلسطين. وهو أول قرار أممي تطرق لقضية حل الدولتين ولو بشكل شبه ضمني، بعد انقضاء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين. تبنى القرار خطة تقسيم فلسطين إلى ثلاثة كيانات، تضم دولتين ومنطقة دولية. ثم تلاه مقترح الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة في 9/9 / 1948 يتضمن أربع نقاط، انشاء دولة واحدة لفلسطين والأخرى للكيان الصهيوني وربطهما بوحدة اقتصادية، واعتراف العرب بالكيان الصهيوني، ووضع القدس تحت اشراف دولي، وعودة اللاجئين الفلسطينيين الى قراهم واراضيهم فورا. وسقط المشروع لرفضه من قبل الكيان،ليسقط معه برنادوت بعملية اغتيال، قامت بها العصابات الصهيونية، بعد أسبوع واحد من السنة نفسها في مدينة القدس.

اما القرار 242، الذي أصدرته الأمم المتحدة، بعد حرب سنة 1967، فقد قبله الحكام العرب، على الرغم من الغموض الذي لفه، خصوصاً في الفقرة الأولى منه. وهي الفقرة المتعلقة بانسحاب جيش الاحتلال الصهيوني من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما دفع عدداً من مندوبي الدول المؤيدة للكيان، إلى التصريح قبل التصويت، بأن القرار فُهم منه انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها بعد حرب 1967، فتم تعديله بحذف ال التعريف، ليصبح الانسحاب من أراض، بدل الانسحاب من جميع الأراضي. ثم تلته مبادرات عربية عديدة، أدت في نهاية المطاف الى اتفاقية اوسلو 1993، سيئة الذكر. حيث نتج عنها سلطة فلسطينية هشة، على ارض مساحتها الفعلية 12% من ارض فلسطين، وليست 22% كما نصت الاتفاقية. ومع ذلك لم تتحقق الدولة المزعومة، التي كان من المفترض الإعلان عنها في مدة أقصاها سنة 1999. حيث وصلت الى طريق مسدود منذ ذلك التاريخ ولحد يومنا الحاضر. بل تراجعت مكانة السلطة الفلسطينية وباتت لا تمارس سوى سيطرة محدودة، على بعض أقسام الضفة الغربية المحتلة، فيما توسع البناء الاستيطاني اضعافامضاعفة.

في ضوء ما تقدم، من غير الوارد ان تخدع المقاومة الفلسطينية في غزة بالعرض الأمريكي لمشروع حل الدولتين. فهو على عيوبه، يتعاكس تماما مع حقيقة الموقف الأمريكي المنحاز بالكامل للكيان الصهيوني، والمتمثل بمشاركة أمريكا بكل ثقلها، منذ الساعات الأولى لبدء عملية طوفان الأقصى،عسكريا واقتصاديا وسياسيا واعلاميا، لتمكين الكيان الصهيوني من الانتقام من المقاومة، وإلحاق الهزيمة بها، واجبارها على الاستسلام، وليس مصالحتها، ومنحها دولة تعيش بجوار الكيان وتشكل خطرا عليه. حيث لم تكتف امريكابتحريك أساطيلها الى المنطقة، وبناء جسر جوي لنقل الأسلحة والعتاد والأموال لدعم المجهود الحربي للكيان. وانما أرسلت قوات عسكرية مدربة على حرب المدن، للقتال جنبا الى جنب مع القوات الصهيونية.

ان الأسباب التي تدفع أمريكا للدفاع المستميت عن الكيان الصهيوني، لا تقتصر، كما هو متداول بين السياسيين او المعنيين بهذا الشأن، على تامين مصالحها في المنطقة والسيطرة على ثرواتها وخاصة مصادر الطاقة مثل النفط والغاز والمعادن وغيرها، وانما تتعدى ذلك بكثير. اذ تعتبر الحفاظ على امن الكيان واستمرار وجوده وحمايته من كل خطريهدده، الحلقة المهمة في بناء الإمبراطورية الامريكية الكونية، التي ينتهي التاريخ عند أبوابها، على حد ما تحدث عنها المفكر الأمريكي من أصل ياباني، فرانسيس فوكا ياما، في كتابه “نهاية التاريخ والانسان الأخير”. وبالتالي فان هزيمة الكيان، او حتى فشله في تحقيق انتصار ساحق ضد المقاومة، يعد هزيمة لهذا المشروع، الذي دخلت أمريكا من اجله حروباعديدة، واحتلت دولا مثل العراق وأفغانستان، وتكبدت خسائر مادية وبشرية كبيرة. بمعنى أوضح، إذا كانت بريطانيا قد خلقت الكيان الصهيوني عن طريق وعد بلفور سنة 1917 سيء الذكر لتامين مصالحها في المنطقة، فان تبني أمريكا لهذا الكيان، يتعدى المصالح، على أهميتها، ليكون طرفا أساسيافي بناء الإمبراطورية الامريكية الكونية.

ان ربط هزيمة الكيان بمشروع أمريكا الكوني، ليس وهما او خيالا ينطوي على مبالغة شديدة. وانما حقيقة ظهرت بوضوح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتراجع النفوذ البريطاني في العالم، واهتمام دول الاتحاد الأوربي بتطوير اقتصادها وصناعاتها، واكتفاء الصين بما حققته من إنجازات عظيمة. حيث وضع أسس هذا المشروع، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الاب، وأعلن عنه في خطاب له، في السابع من فبراير/ شباط سنة 1992 قال فيه، “ان القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا أمريكا” ثم تبناه من بعده خلفاؤه، بصرف النظر،إذا كان الخليفة من الحزب الجمهوري او الديمقراطي. وإذا كان بوش الاب قد سعى لتحقيق هذا المشروع، بالطرق السلمية، عبر الاتفاقات الاقتصادية والمالية والبنك الدولي وصندوق النقد والمعاهدات الدولية والأمم المتحدة، فبوش الابن، الذي حكم أمريكا من سنة 2000 الى 2008، سعى الى تحقيقه عن طريق الحروب، وتدمير كل من يقف بوجه المشروع الأمريكي الكوني. وغلف هذه السياسة العدوانية، بشعارات تنطوي على استهتار لامعقول بدول العالم وشعوبها، ونقصد بذلك تلك الشعارات التي طرحها، كمبرر لشن عدوانه العسكري على اي بلد يختاره، ومنح الحق لنفسه، دون غيره، بان يكون الخصم والحكم في نفس الوقت. وكان من بين اهم هذه الشعارات: شعار من ليس معنا فهو ضدنا، والضربات الاستباقية، والحرب الوقائية، والخروج من اغلب المعاهدات الدولية، بما فيها معاهدة كيتو لحماية البيئة، وإطلاق يد أمريكا بشن الحرب ضد اية دولة دون الرجوع لمجلس الأمن أو الهيئة العامة للأمم المتحدة.

بعيدا عن الموقف الذي ستتخذه المقاومة الفلسطينية في غزة، او طريقة التعامل معه او قبوله او رفضه، فأنها لن تغفل ابدا الهدف من احياء هذا المقترح من قبل أمريكا، وتأييده من قبل حلفائها، وخاصة بريطانيا، والذي يراد منه إدخال المقاومة مرة اخرى في دوامة هذا الحل سيء الذكر. بل ان المقاومة الفلسطينية عامة والمقاومة في غزة خاصة، تتذكر جيدا، كيف تحول مشروع حل الدولتين، الى صيغة الأرض مقابل السلام، ثم الأرض مقابل الأمان، ثم المفاوضات من اجل السلام، ثم تفعيل المفاوضات، ثم العمل على كسر الجمود واستعادة التفاوض وهكذا دواليك. وقد عبر عن هذه المماطلة المتعمدة، هنري كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية الامريكية لفترة طويلة من الزمن، بتغيير شعار الأرض مقابل السلام، بمبدأ الأرض مقابل الوقت. أي إنهاك الفلسطينيين والحكام العرب بمرور الوقت. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل التنازلات المذلة والمشينة التي قدمها حكام الردة العرب، للقبول بالقليل، الا ان الكيان الصهيوني رفضها جميعا.

لندع جانبا هذه الاستنتاجات التي قد يعتبرها البعض نسجا من الخيال. ونلجأ الى حسبة بسيطة، او كما يقال “حسبة عرب”. اذ كيف يمكن التوفيق بين مشروع أمريكا السلمي، الذي يتمثل في قيام دولتين متجاورتين، وفي الوقت نفسه تشجع الكيان الصهيوني وتقدم له الدعم الكامل في مواصلة الحرب العدوانية للقضاء على المقاومة، والتستر على جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الصهيوني على مدار الساعة؟ الا يتطلب السلام وقفا فوريا للحرب وانسحاب القوات الصهيونية الى حدود ما قبل بدء الحرب؟ الم ترفض أمريكا كل الدعوات التي تطالب بوقف القتال او عقد هدنة إنسانية مؤقتة، تحت ذريعة حق الكيان في الدفاع عن النفس، في حين، تعتبر المقاومة في غزة بكل فصائلها مجموعات إرهابية يجب التخلص منها والقضاء عليها؟  الم تعرقل أمريكا نفسها، حصول “الدولة الفلسطينية” على العضوية الكاملة، بدل وضعها الحالي كعضو مراقب في هيئة الأمم المتحدة، على الرغم من موافقة 139 دولة؟

قد يسال سائل، هل ستلدغ المقاومة في غزة، بعد كل هذه التضحيات المهولة، من ذات الجحر مرتين، وتخدع بالوعود الامريكية او غيرها من الدول الاستعمارية، وتضحي بكل هذه الدماء التي سالت على ارض غزة؟ ام ستواصل القتال من اجل تحرير فلسطين من رجس الاحتلال الصهيوني، وبناء دولة مستقلة ذات سيادة على كامل التراب الفلسطيني، مهما طال الزمن وغلت التضحيات؟

مهندسو الطوفان ليسوا أصحاب غفلة ولا يصلحون الا لهندسة النصر، واحقاق الحق كاملا من دون نقصان، وضمانة ذلك ما دفعته غزة من ثمن موجع. لا يجرؤ معه أحد على رفع راية الاستسلام.  

أحدث المقالات