ابن لنكك، شاعر ونحوي من أهل البصرة، توفي قبل ألف وست وأربعين عاما. ومن آثاره: رسالة في فضل الورد على النسرين، وجمعه لديوان الخبز ارزي، فيما لم تنشر أشعاره في متن واحد حتى عام ٢٠٠٥ عندما أصدرت “دار الجمل” ديوانا له، ولا تزيد قصائده عن البيتين أو الثلاثة أحياناً، وهي مقطوعات قصيرة يجيد سبكها وبناءها، وقد كتب جلّها في باب الشكوى من معاندة الدهر وفي ذمّ الزمان ونكده وتقلباته، واتبع نهج السخرية التي تميل إليها النفوس، ولأنه أحسّ بالغبن كونه لم يصل إلى المكانة التي يستحقها فقد عبّر عن أحوال الناس الذين وقع عليهم الغبن والظلم فصار شاعر العامة ومجالس الأنس، في حين تسيّد المتنبي مجالس الحكام وعلية القوم، وقد ذهب بعض شعر ابن لنكك مثلاً وحكمة مثل: (يعيب الناس كلهم الزمانا .. وما لزماننا عيب سوانا).
إسمه الكامل، محمد بن محمد بن جعفر البصري. يكنى “أبو الحسن”، واشتهر بلقبه ابن لنكك. وكلمة لنكك هي فارسيّة وتعني “الأعيرج” تصغيرا لكلمة أعرج، فكلمة لنك أو لنگ معناها بالفارسيّة أعرج.
لا يُعرف الكثير عنه ولا حتى سنة ولادته ولكن يُرجح أنه توفي سنة 970م. نشأ في البصرة وقدم إلى بغداد طلبا للعلم، ويقول عنه الثعالبي في “يتيمة الدهر” إنه (فرد البصرة وصدر أدبائها وبدر ظرفائها).
وما وصل من شعره كان يسيرا ولكنه كان مميّزاً وفريداً وجريئا، وعلى قول الثعالبي: “إذا قال أغرب بما جلب، وأبدع فيما صنع”، وبقيت شهرة ابن لنكك الشعرية خافتة بسبب معاصرته للمتنبي، مثلما خفتت في زماننا أضواء النجوم كارم محمود وعبد العزيز محمود ومحرم فؤاد ومحمد رشدي ومحمد قنديل وعبد اللطيف التلباني وماهر العطار أمام شمس عبد الحليم حافظ الساطعة.
ذكره صالح جودت في كتابه “شعراء المجون”، وخصّه الصاحب بن عباد بقصيدةٍ (وحرّف لقبه إلى “ابن لكنك”): (شعرُ الظريفِ ابن لكنكْ .. مهذّبٌ ومحكّكْ .. مذهَّبٌ ومُمسَّكْ .. بمثلهِ يُتمسَّكْ)، ولم يهمله ابن خلكان فأدرجه باستحقاق في “وفيات الأعيان”.
ويوم أمس، غادر شاعرنا قبره القريب وتجوّل في شوارع بغداد وأزقتها على رغم الحرّ الشديد وهو القائل:
حزيران وتموز وآبُ …. ثلاثة أشهر فيها العَذابُ
ولما رأى حال بغداد وهي غارقة في الأوساخ والضوضاء والإهمال والفوضى، ورأى الرعيّة بلا راع ذي ضمير، تعجب وتنهد وتأوه وتلوى وأنّ وقال:
جارَ الزمان علينا في تصرفه …. وأيّ دهر على الأحرار لم يجر
عندي من الدهر ما لو أن أيسره .. يُلقى على الفلك الدوار لم يدر
ثم رأى الناس تتدفق على الكرادة، فأخذه الفضول وسارت قدماه معهم، وما أن وصل مجمعات “الليث” و”هادي سنتر” حتى افترش رمضاء الإسفلت وبدأ يبكي وينتحب ويولول مثل الثكالى، وجادت قريحته ببيت معبّر مدمى:
كم نفخةٍ لي على الأيام من ضجرٍ …. تكادُ من حرّها الأيام تحترقُ
وأراد أن يعرف فسأل أحد الشبان الواقفين عن الخطب الجلل الذي ترك هذه الأطلال المحروقة واللافتات المنطوقة، فأجابه:
ـ سيدي الغريب، هذه جريمة إبادة جماعية ارتكبها سدنة الكهوف ولصوص البلاط.
فكفكف ابن لنكك دموعه، ونهض مسرعا وهو يلملم عباءته، وسار نحو شارع “أبو نؤاس”، فوقف على دجلته الأثيرة، وولّى وجهه شطرَ المنطقة الخضراء، وأنشد:
أراكم تعينون اللئام وإنني …. أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا
لُعنتم جميعا من وجوهٍ لدولةٍ …. تكنّفهم جهل ولؤم فأفرطا
وإنّ زمانا أنتمُ رؤساؤه …. لأهلٌ بأن يُخرى عليه ويُضرطا