في إطار كتابتي لتاريخ الأمة الإسلامية وشخصيات قادتها وأعلامها وعلمائِها الكبار، ومن منطلق أخلاقيٍّ ومهنيٍّ، كان لا بد من تدوين مقالةٍ حول سيرة مفكرٍ وعلامة جليل ومؤرخ إسلامي فذٍّ، ترك تأثيره العميقَ في حياتي العِلمية والعَملية، وفي منهجي بدراسة فكر وتاريخ أمتنا. كما أن لهذا العلامة فضل وأيادي بيضاء على جيل كامل من الباحثين الشباب ممن عايشوه، وعرفوه من جميع الأقطار الإسلامية. ومع مرور الزمن، تبلورت لديّ قناعةً بأن هذا العلامة يتشابه إلى حدٍ كبير في علمه الموسوعي ونباهته ومنهجه مع شيخ المؤرخين ومؤسس علم العمران البشري العلامة ابن خلدون، بل إن هذا العلامة تجاوز ابن خلدون في علم الجرح و التعديل لا سيما في قراءة وتحليل الإشكالات والحوادث التاريخية المختلفة، فهو نقل علم نقد الروايات التاريخية من التنظير (الفلسفي) إلى التطبيق (العملي)، هذا الرجل هو أستاذنا الفاضل العلامة الدكتور أكرم ضياء أحمد العُمري حفظه الله. فمن هو العلامة أكرم ضياء العُمري؟ وما آثاره الفكرية وقيمة نتاجه العلمي؟ وما دوره في تكوين الوعي الجمعي لدى الدارسين في العالم العربي والإسلامي؟
أولًا: من هو العلامة الدكتور أكرم ضياء العُمري؟
أكرم ضياء العُمري ابن مدينة الموصل في شمال العراق، ولد في عام 1942، من عائلة آل العُمري التي ترجع في نسبها إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي من العوائل الموصلية العِلمية العريقة.
درس الشيخ الدكتور أكرم ضياء العُمري بكلية التربية في جامعة بغداد، وتخرج منها عام 1963، وحصل على شهادة الماجستير في التاريخ الإسلامي من كلية الآداب بنفس الجامعة عام 1966. ثم حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة عين شمس المصرية، كان موضوعها “موارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد”.
ثانيًا: مسيرة العلامة العُمري العِلمية وآثاره الفكرية
بعد مسيرة من الدراسة والبحث، تصدر العلامة الدكتور أكرم ضياء العُمري للدرس في كلية الآداب بجامعة بغداد منذ عام 1966، ولمدة عشر سنوات حتى انتقل للتدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهناك ترأس قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية (1977 -1983م)، كما ترأس المجلس العلمي فيها (1978 – 1983م). كما عمل أستاذًا للتاريخ الإسلامي في الجامعة الإسلامية، واستلم منصب عضو في مجلس مركز خدمة السنة والسيرة النبوية، وعضوًا في المجلس العلمي بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
وقد أشرف الدكتور العُمري على ما يقرب من مائة أطروحة ورسالة علمية في الماجستير والدكتوراه في الجامعات العربية في الحديث الشريف والتاريخ الإسلامي. وساهم في تقويم العديد من الأعمال العلمية لجامعات مختلفة. بعد ذلك عمل العُمري أستاذًا بكلية الشريعة والقانون بجامعة قطر 1995م. وهو الآن عضوٌ في لجنة إحياء التراث الإسلامي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قَطر.
خلال مسيرته العلمية الحافلة بالمآثر والمناقب الخلقية والفكرية، كان الدكتور أكرم ضياء العُمري مُصرًا على المضي في طريق النهضة التقنية والصناعية والمعلوماتية نظرًا لدورها في التصدي للأخطار الاستشراقية التي تلوث حضارتنا وحاضرنا بآن واحد، حيث كان يقول دائمًا: “أزمة الأمة نابعة من عدم النهوض التقني والأخلاقي.. لذلك هي متخلفة”. ولذلك كان الشيخ العُمري يُبحر في دراسة سنن القوانين ومقاربة النظم الحضارية الإسلامية مع ثقافة العصر، وكيفية التفاعل مع المنظومة الحضارية العالمية الراهنة.
ثالثًا: النتاج العلمي (التاريخي) للعلامة العُمري
ألَّفَ العلامة الشيخ أكرم ضياء العُمري كتبًا ودراساتٍ، وحقق مخطوطات علمية كثيرة في التاريخ الإسلامي والحديث الشريف، ومن أهم بحوثه ومؤلفاته: كتاب السيرة النبوية الصحيحة، وبحوث في تاريخ السنة المشرفة، وكتاب موارد الخطيب في تاريخ بغداد، وكتابه الفكري الكبير التراث والمعاصرة، وكتاب الإسلام والوعي الحضاري، وتراث الترمذي العلمي، ومجتمع المدينة في عصر النبوة، وكتاب مناهج البحث وتحقيق التراث، وكتاب قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي، وكتاب التربية الروحية والاجتماعية في الإسلام، وعصر الخلافة الراشدة: محاولة لتطبيق قواعد النقد عند المحدثين على الرواية التاريخية، وعصر السيرة النبوية، ضمن مرجع في تاريخ العرب، ومن فقه السيرة النبوية العطرة، والحياة الاجتماعية والاقتصادية في عصر السيرة النبوية. ومن أهم دراساته التاريخية المُحققة: تاريخ خليفة بن خياط، وطبقات خليفة بن خياط، والمعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان (ت 277 هـ)، وأزواج النبي لابن زَبّالة، ومسند خليفة بن خياط، وتركة النبي صلى الله عليه وسلم لحماد بن إسماعيل، وموقف الاستشراق من السُّنَّة والسيرة النبوية.
ومن بحوثه التاريخية العلمية: استخدام الحاسب في العلوم الشرعية (دراسة علمية)، وخليفة بن خياط: موارده، وتحقيق ودراسة كتابه الطبقات (رسالة جامعية)، وقيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي، ودراسة منهج النقد عند المحدثين مقارنا بالميثودولوجيا الغربية، والاستشراق والقرآن، والعامة في بغداد في أواخر العصر الإيلخاني. والخطيب البغدادي: سيرته الذاتية وبيئته الحضارية وإنتاجه الفكري واهتماماته التربوية، ودراسة في الاستشراق، هذا بالإضافة لعشرات البحوث المعمقة التي لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة المتواضعة.
رابعًا: تجربتي الخاصة مع الشيخ العلامة أكرم ضياء العُمري
كان العلامة الشيخ الدكتور أكرم ضياء العُمري من أهم محطات حياتي العملية في مجالات الدرس والبحث. فمُذ عرفته، بدأت أتردد على منزله في المدينة المنورة، واستمرت زياراتي الدورية له بعد انتقاله للعيش في دولة قَطر. في ذلك الوقت، كنت في مرحلة كتابة مؤلفاتي الأساسية حول الخلفاء الراشدين “أبي بكر وعمر وعثمان وعلي”، والحسن بن علي، وكتاب استشهاد الحسين بن علي، والدولة الأموية، وكذلك مُؤلَفي الثمار الزكية في تاريخ الحركة السنوسية. فمع إعداد كل مُؤَلف كنت أستنير برأيه وأكتب ملاحظاته بدقة واهتمام بالِغين، وأنهلُ من علمه الوفير ونثرياته المنهجية العميقة. كما كنت محظوظًا في الاطلاع على كتب مكتبته العامرة واستفدت من عشرات المؤلفات التاريخية والفكرية النادرة والرسائل العلمية التي لم تُنشر. وأكثر الأشياء التي أخذتها عنه هو المنهج في المحاضرة والدرس، فعبارته المشهورة يتردد صداها في أُذني كل وقت: “إن الإنسان الذي يُعطي محاضرةً عليه أن يحترم أوقات الناس وأن يكون جاهزًا بأفكاره وأن يبذل جهده في التحضير وهذا من احترامه لنفسه واحترام الآخرين”. ومن التجارب التي خضتها معه أيضًا، هو إشرافنا المشترك على سيناريو تاريخي لمسلسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت له آراء صائبة في صياغة المعلومات التاريخية ونقدها وخاصة التي نسجت حول سيرة الفاروق وشخصيته.
ومن لطائف الشيخ العُمري التربوية، عندما كنت أحاوره في تاريخ الحركة السنوسية، فقال لي: “أنت اليوم أعلم مني يا ابني.. وعندما يتخصص الإنسان في جزئية يكون أعلم بها من غيره”. هذا من تواضعه وتشجيعه وترغيبه في البحث والمثابرة. وفي الحقيقة، لا زلت أرى في الشيخ أكرم العُمري صفات الرجل المتزن الهادئ وصاحب السكينة في حديثه وتعامله، والرجل صاحب الهمة العالية، لدرجة أنه يقضي أكثر من نصف يومه في البحث والقراءة رغم أنه ناهز السبعين عامًا من العُمر. ويشعر الزائر للشيخ العُمري – في مجلسه – بأنه يستمع لأعلام كبار سبقونا كابن خلدون والطبري والشافعي وآخرين، كما ينطلق الباحث وطالب العلم بعد الفراغ من مجلسه بهمة وعزيمة راسخة أثبت من الجبال الشاهقة.
خامسًا: شهادات علماء ومفكرين آخرين بالشيخ العُمري
لم يُخطئ المؤرخ العراقي الدكتور جهاد عبد الحسين العلواني في إفراد كتاب خاص بسيرة الأستاذ العُمري بعنوان: “العلامة الدكتور أكرم ضياء العُمري: دراسة في حياته وتراثه العلمي”، بل هو محظوظ بأسبقيته في دراسة سيرة هذا الرجل العطرة. فالناظر في كتاب العلواني أو المرويات الحديثة التي ذَكرت العلامة العُمري ومؤلفاته يراها تفوق الحد الذي بلغه كثير من المفكرين المعاصرين له.
لقد شهد للعلامة الدكتور أكرم ضياء العُمري عدد كبير من العلماء والمفكرين وطلاب العلم العرب والمسلمين، حيث اعتبر الباحث أبو زيد الشنقيطي أن الشيخ العُمري هو أحد أبرز مفكري منهج النقد الحديثي اليوم. كما ذكر باحث غيره وهو الدكتور عيسى بن عبدالله السعدي بأن من أهم من حقق في السيرة والخلافة الراشدة هو الدكتور العُمري. ورأى باحث آخر وهو الدكتور عمار مرضي علاوي أن فضيلة الدكتور العُمري هو من أكثر المدافعين عن السيرة النبوية المطهرة وصاحب التوثيق والمحقق الرائد. وأشاد به الدكتور محمد علي اليولو بقوله: “درست في سيرة شيخ شيوخنا العلامة المؤرخ د. أكرم ضياء العُمري الموصلي بارك الله في عمره..”، كما أشاد به آخرون مثل أحد طلبته وهو ابن بيوض التميمي الذي قال فيه: “مِن أكرم من عرفت في حياتي أدبًا وزكاة نفس وفضيلة في شرف يُنبأ عن معدن أصيل شيخنا الكريم العلامة المحقق أكرم ضياء العُمري نفع الله به المسلمين”. وذكره أحد الأكاديميين واسمه وليد على صفحته الخاصة بالتويتر قائلًا: “ولعل الفضل بعد الله يعود للدكتور أكرم ضياء العُمري في اتجاه الدراسات العليا للسيرة النبوية والخلافة الراشدة”. كما ذكر بحقه الشيخ ابراهيم سعيد الصبيحي قائلًا:” أستاذنا المحقق المحرر أكرم ضياء العُمري جمع بين المعرفة التراثية والمعاصرة في موسوعية نادرة خاصة في عصورنا المتأخرة، اللهم متع الأمة به”. وامتدح أحد طلابه وهو الغيث مضاوي كتاب السيرة النبوية حين قال: “كتاب د. أكرم ضياء العُمري السيرة النبوية الصحيحة كتاب هو أصح كتاب للسيرة الآن والله أعلم فيه تفنيد لكل الروايات الواهية وتصيح للسيرة”.
يمكن القول: حتى الآن لا يزال أستاذنا العلامة الشيخ الدكتور أكرم ضياء العُمري علمًا عاملًا، وقامة شامخة يُسخر وقته خدمة لأبناء الأمة، ساعيًا لتعزيز نهضتها في مجالات البحث والتحقيق والنقد ودراسة الإشكالات التاريخية الكبرى ومساءلتها في تاريخنا؛ هادفًا للكشف عن الحقيقة التاريخية وإيصالها للأجيال. وبناء على هذا يجدر بنا أن نسميه بـ “ابن خلدون هذا العصر” … حفظه الله تعالى وأمد في عُمره وجزاه عنا خيرًا.