ينظر الكثيرون الى ما يجري الآن في العراق من منازعات طائفية على انها نتيجة لصراع عقائدي يرتبط بأحقية الخلافة و ما اذا كان ابو بكر او الامام علي احق بها و كذلك بعض الفروق في تطبيقات الشريعة الاسلامية و بعض الطقوس الشكلية. الأمر ليس كذلك فهذه النقاط امور ثانوية تتفرع عن مواضيع اوسع و اكبر و اخطر بكثير. معظم الناس في العراق شيعة او سنة لا يعرفون تفاصيل النزاع على الخلافة و لم يسمعوا قط بموضوع السقيفة و لا يعبؤن اساسا بقضية مرت عليها مئات السنين. يشارك السنيون زملائهم الشيعة في محبة آل البيت ، ولو بدرجة اقل. تراهم يحضرون المواكب و التعازي الحسينية و يزورون العتبات الشيعية في كربلاء و النجف و الكوفة و سامراء. ويقدمون النذور اليها. الزواج المختلط بين الطائفتين شائع جدا. و الاختلافات بين تطبيقات الشريعة لا تهم احدا فتراهم يغيرون انتمائهم الطائفي لأغراض مصلحية، غالبا ما تتعلق بالارث و الطلاق، بكل يسر و عدم اكتراث. و لم اسمع عن اي شيعي يمارس زواج المتعة في العراق . و قلما وقعت تاريخيا أي مصادمات دموية بين الطائفتين . واعتادوا على العيش سوية جنبا الى جنب. تفاجأ الكثيرون في هذه الايام بما سمعوا عن الاقتتال الجاري منذ سقوط صدام حسين و استغربوا من امره.
و مع ذلك فلهذا النزاع جذور عميقة ، و لكنها ابعد ما تكون عن العقيدة او الدين. إنها عوامل جيوفيزيائية و اقتصادية. يبدأ جورج روكس كتابه القيم ” العراق القديم” بقوله ان كل تاريخ و حضارة هذا البلد توقفت على وضعه الجيوفيزيائي و مكانه في خارطة المنطقة. ليس لهذه الدولة الكبيرة ، ايران، منفذ للبحر المتوسط، المسرح التاريخي لمعظم المنازعات و الحروب. السواحل الايرانية على الخليج صعبة الملاحة وعسيرة الموصلات وبعيدة عن المراكز الرئيسة في ايران ، الأمر الذي اضطر الحكومة الايرانية في السنوات الاخيرة لمد سكة حديد بكلفة باهضة من طهران الى بندر عباس على الخليج. شط العرب هو المنفذ الرئيسي والبعيد و يسيطر عليه العرب ولا ينفع للتجارة مع الغرب و العالم العربي (باستثناء الجنوب). منذ ان اصبحت ايران دولة امبراطورية اعتمدت اولا على ” الطريق الملكي” الممتد من شوشة الى ازمير في جنوب تركيا. ظهرت الحاجة لموطيء قدم على البحر المتوسط و طريق سالك عبر وادي الرافدين و بلاد الشام تستطيع السيطرة عليه.
جرها ذلك الى حروب متواصلة و ضارية ضد بابل و مصر ثم الاغريق فالرومان ، فالبيزنطيين فالعثمانيين و اخيرا العراقيين في عهد صدام حسين. و يلوح لي انه قد يجرها للاصطدام الآن باسرائيل و يفسر تهديداتها لها و تحالفها مع حزب الله في جنوب لبنان.
هذا الطريق الموازي لطريق الحرير التاريخي، هو شريان الحياة لايران ولكنه يمر بالعراق و سوريا و لبنان. اقتضى ذلك اعتمادها على حسن نية هذه الدول و تحملها تكاليف اضافية لنقل و حماية صادراتها و مستورداتها عبر تجار و عمال اجانب. اقتضى عليها دفع عمولات و علاوات و رشوات باهضة كما تعرضت للتلف و لقطاع الطرق و المهربين و رسوم الترانسيت. اغتنت عوائل عراقية كثيرة من هذه العمليات. قيل ان عبد الكريم قاسم استغرب و اعترض على كمية الشاي المستورد للعراق. بيد ان وزير التجارة افهمه بأنها بضاعة لاعادة التصدير لايران بما يدر على العراق بدخل اضافي. ولا شك ان الحكومة الايرانية ظلت تتمنى وضع يدها على هذا الطريق.
وبعد ان تشيعت ايران في القرن السادس عشر، ظهرت حاجة الايرانيين لزيارة العتبات المقدسة في العراق و تقديم النذور اليها و دفن موتاهم بجوار الامام علي في وادي السلام. ترتب على ذلك نزيف آخر للعملة الايرانية بما اضطر الشاه في الثلاثينات الى منع تصدير الموتى الى العراق. وكل ذلك بالاضافة للحاجة الى استعمال العراق كقاعدة للحجيج الى مكة المكرمة.
في 539 استطاع الملك كورش احتلال بابل و الزحف نحو البحر المتوسط . ومنذ ذلك الحين حتى الفتح الاسلامي بقي العراق في حكم الفرس الذين بنوا عاصمتهم الشتوية في طيسفون بجانب بغداد. اعتادوا على نقل حكومتهم اليها في فصل الشتاء. شقوا الانهار و الترع و حولوا البلاد الى جنة خضراء. ولا عجب ان بقي الايرانيون يحنون للعودة لاحتلالها و حكمها. غير ان البلاد ظلت تحت حكم العرب حتى سقوط بغداد على يد هولاكو ثم آلت بيد العثمانيين بعد ذلك.
احتلال آل عثمان للعراق ووقوع ايران بيد الصفويين اصبح سببا رئيسيا للانقسام الطائفي . ظل الطرفان يتنازعان على بغداد و خاضا حروبا متعددة لهذا الغرض. تبنى العثمانيون السنة و تبنى الايرانيون الشيعة . فما كان لاهل بغداد غير ان ينشدوا ” بين العجم و الروم( العثمانيين) بلوى ابتلينا!” يورد الدكتور الوردي في كتابه الموسوعي “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ” الكثير من تفاصيل ذلك.
من نتائج هذا الصراع ان تشكك العثمانيون في ولاء الشيعة و اعتمدوا على السنة الحنفيين في الجيش والادارة . ولما كانت القوانين العثمانية ( المجلة و العقوبات و الاحوال الخاصة) تقوم على الشريعة الحنفية فقد اصبح من الطبيعي ان يحصروا مهنة القضاء في الحنفيين. وهكذا تدرب ابناء السنة على قيادة الجيش و الشرطة و الادارة و القضاء. و عندما انتهى الحكم التركي و اقيمت المملكة العراقية لم يجد الانجليز والملك فيصل احدا مؤهلا لإشغال المناصب في هذه الميادين غير السنة. فامتلأت الدولة بهم.
ماذا عن الشيعة؟ ادركوا ان الدولة العثمانية لا تعتمد عليهم ولا تعطيهم فرصة في هذه الميادين. توجهوا الى التجارة و بعض الزراعة و الاعمال الحرفية. كان جل الصفارين في سوق الصفافيرمن الشيعة.
بنتيجة هذا التقسيم المهني، تفرغت العوائل السنية الى تعليم اولادهم و ارسالهم الى اسطنبول واحيانا لاوربا للحصول على الشهادات و الاختصاصات تمهيدا لاستلامهم الوظائف والمناصب في الدولة. هكذا اصبحوا قائمقاميين و متصرفين و قادة في الجيش و الشرطة و اطباء و محامين و معلمين.
لم تجد العوائل الشيعية جدوى من وراء ذلك. فالدولة لا تثق بهم ولا تعطيهم مناصب فيها. من رغب في التعلم و الدراسة ذهب الى النجف الاشرف لتلقي العلوم الدينية ، الفقه و اللغة و الشعر و الشريعة الاسلامية وهكذا. فبينما تلقى ابناء السنة العلوم الدنيوية تلقى ابناء الشيعة العلوم الدينية. تخرج منهم كل ؤلئك العلماء في الدين الذين اشغلوا المرجعيات ، و الشعراء الذين اغنوا الادب الحديث ، الجواهري و بحر العلوم و الشبيبي و علي الشرقي و سواهم.
ماذا عن خريجي النجف الآخرين ؟ اشغلوا ما سمي بوظيفة “المومن” فلبسوا العمائم وراحوا يكسبون قوت يومهم في القرى و الارياف، يعلمون القرويين دينهم و المذهب الشيعي و يقومون بعزاء الحسين و يقضون حاجات البسطاء بأبسط ما يمكن من وسائل. قدر لعملهم هذا ان يقلب موازين القوى في العراق . ما قاموا به كان عملية تبشيرية بالمذهب الجعفري. تمكنوا بمرور السنين ان حولوا الكثير من العشائر من المذهب السني الى المذهب الشيعي بحيث اصبح الشيعة في الثلاثينات يكونون الاكثرية في البلاد. ولا شك ان الجوانب العاطفية و الدرامائية من طقوسهم المرتبطة بمقتل الحسين قد ساعدتهم في مهمتهم. يذكر الباحث احمد هاشم الغانمي ان العثمانيين فتحوا لهم المجال لاسباب سياسية منها الوقوف في وجه الوهابيين. لم يقم السنة بأي مجهود في هذا الاطار. كانت الدولة بيدهم و كفى. قضوا وقتهم في التآمر على بعضهم البعض حتى فلتت من يدهم.
عندما قامت الثورة العربية ، انسلخ بعض الضباط العراقيين ، نوري السعيد و الهاشمي و العسكري و المدفعي وطاهر عارف و عبد الرحمن عارف وسواهم (كلهم سنة طبعا) من الجيش العثماني و التحقوا بالثورة و صاحبوا الامير (الملك فيما بعد) فيصل في الزحف على دمشق. اصبح من الطبيعي للملك فيصل ان يكافأهم على دورهم
فأشغلوا قيادة الجيش و الشرطة. لم يكن بينهم شيعي واحد. وكذلك لم يشارك اي شيعي في الجمعيات الوطنية العربية السرية التي تشكلت في اوربا خلال العهد العثماني ، كجمعية العهد. اقتصر الدور العراقي فيها على السنة كتوفيق السويدي، فعادوا متأثرين و مزودين بالثقافة المعاصرة وبالتالي الاهلية للحكم.
وهكذا فعندما تأسست المملكة العراقية تحت الانتداب البريطاني في 1920 لم يجد الملك و لا الانجليز غير عدد قليل جدا من الشيعة مؤهلا تأهيلا معاصرا لمهمات الدولة فملؤها بالسنة و اليهود. لم يكن هناك غير شيعي واحد بين ثمان وزراء في اول حكومة مؤقتة ( عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى ، ص250) لكنهم شعروا بهذا النقص ففتحوا دورة سريعة لعدة اشهر لدراسة القانون و الادارة لآبناء الشيعة و اعطوهم شهادات حقوق مكنتهم من استلام بعض الوظائف. كان صالح جبر واحدا من هؤلاء فدخل سلك الادارة و ارتقى حتى اصبح رئيسا للوزراء في الاربعينات.
تعاظم النقص الشيعي في الدولة ايضا بسبب الفتاوى التي صدرت من النجف بتكفير الحكومة الفتية و كل من يعمل فيها. لابد ان ساهم ذلك ايضا في تردد المتعلمين من الشيعة في قبول اي وظيفة فيها و تركوا الابواب مفتوحة لغيرهم. السوآل الآن لماذا اصدرت النجف هذه الفتاوى؟
يجرنا الجواب على هذا السوآل مرة اخرى لموضوع ايران. فعندما انتهت الحرب العظمى بانهيار الامبراطورية العثمانية ، سارعت الدول الى اقتسام تركتها. بدأ الشاه بأخذ نصيبه منها بابتلاع الاحواز ( عربستان) بعد دعوة اميرها الشيخ خزعل الى طهران ثم اعتقاله واخيرا اغتياله و اعلان ضم الاحواز رسميا الى ايران في 1925.
ثم حول انظاره الى العراق. فرفض الاعتراف باستقلال العراق او اقامة الانتداب
البريطاني فيها ، معتبرا كل ذلك غير شرعي. وبما عرف من النفوذ الايراني في النجف لابد ان اوعز لمشايخها ( و الكثير منهم ، ربما اكثرهم، ينتمون لجذور فارسية كما تدل اسماؤهم) بعدم الاعتراف بالحكم الجديد و تكفير كل من يخدمه. كان علماء النجف ، وعلى رأسهم محمد تقي الشيرازي قد تكاتبوا مع الشريف حسين يحثونه على الثورة و يدعونه لارسال احد ابنائه للعراق. و لكنهم سرعان ما قلبوا ظهر المجن لأبنه فيصل عندما جائهم في 1920. يذكر حسين الشامي في كتابه” المرجعية الدينية” ان فتوى مشتركة من الاصفهاني و الخالصي و النائيني قد صدرت تدعوا لمقاطعة الانتخاب الذي دعى اليه فيصل: ” من دخل فيه او ساعد عليه فهو كمن حارب الله و رسوله و اوليائه!”
ايه يا رسول الله! كم من المآسي و المهازل مثلت بإسمك!
و دعت المرجعيات بعد ذلك الى تحريم العمل للحكومة الجديدة في كل مؤسساتها و مصارفها العامة و مدارسها و وصف الشيرازي الوظيفة الحكومية المفسدة غير شرعي. بلغ الأمر حتى تحريم دفن المشاركين فيها في مقابر المسلمين.
ما السر في هذا التحول؟ رأى المؤرخون السنة ان المرجعيات وقفت هذا الموقف لأن الانتخابات رتبت بحيث لا تعطيهم الهيمنة على البلاد ، كما اعطتهم اليوم. بيد انني ارى ما هو اكثر من ذلك. لقد ايدوا ثورة الحسين و دعوه لارسال ابنه للعراق لأنها كانت ثورة ضد الاتراك السنة ، اعداء ايران، عدو عدوي صديقي. ثم قلبوا ظهر المجن بعد سقوط العراق بيد الانجليز. اعلنوا الثورة ضدهم و رفعوا شعار” لا مفاوضات قبل الجلاء”. فبإخراج الانجليز ايضا بعد خروج الاتراك يصبح العراق فراغا فاغرا تملأه ايران بيسر، على نحو ما حلم به الشاه. لم تسمح لهم انكلترا بذلك.
استمر هذا الوضع حتى عام 1932 عندما اعلنت عصبة الامم قبول العراق عضوا فيها. ضغط الانكليز على طهران عندئذ لتعترف بالأمر الواقع وهو ما تم. و لكن بعد فوات الاوان بالنسبة لشيعة العراق. وجدوا ان القطار قد فاتهم.
بعد ان غسل الشاه يديه من العراق، اثار موضوع المطالبة بالجانب الشرقي من شط العرب عام 1936. رفضت بغداد ذلك و تأزم الوضع بين الدولتين الى ان اشرف على خوض حرب بين الجانبين، لولا تدخل الانكليز مرة اخرى و اقناع طهران بقبول حل وسط اعطاها جزء آخر من الشط.
بيد ان هذا النزاع المستمر مع ايران غرس في اذهان المسؤولين العراقيين بأن الدولتين لابد ان تخوضا حربا عاجلا ام آجلا. وهو ما حدث طبعا عام 1980. عاد المسؤولون السنة الى الخوف العثماني من ولاء الشيعة في مثل هذا المعترك. قرروا إبعادهم من قيادات الجيش و الشرطة و اجهزة الأمن و المخابرات، والى حد ما من وزارة الخارجية ايضا. و بذلك تعمقت الهيمنة السنية على هذه المراكز.
لعبت روح القبلية و التضامن العائلي التقليدي عندنا و المتمثل بفكرة الاقربون اولى بالمعروف، دورها في الموضوع. فعندما عينت الدولة مديرا عاما سنيا ، اقتضى عليه تقريب اقاربه و اعطائهم مناصب يستحقونها او لا يستحقونها في مديريته. و مارس كل من هؤلاء ايضا هذه الروح و جاء بأقاربه. هكذا ساهمت فكرة المحسوبية هذه في توسيع الغلبة السنية في الوظائف.
بفعل روح التآمر و الكيد و الخيانة ايضا ، رأى المسؤولون ان خير وسيلة للتأمين ضد ذلك هي ان يحيطوا انفسهم بإخوانهم و اقاربهم. ابدع صدام حسين في الاعتماد على ذلك فأحاط نفسه بأخوته و ابناء عمه و استطاع بذلك ان يضمن بقائه اكثر من ثلاثين سنة.
من الطبيعي ان يشعر الشيعة بالاستياء من كل ذلك و يطالبون بحقوقهم في الدولة، ولاسيما بعد ان اصبحت الوظيفة المنفذ الرئيسي لكسب العيش بين ابناء الطبقة المتوسطة. زادت تلك المشاعر بعد تدفق واردات النفط بالملايين و المليارات و تعاظمت العركة على الكعكة. و لكن الشكوى و الموضوع من اساسه لا يرتبط في العراق بالمعتقدات و الطقوس الدينية. لقد تفجرت الطائفية بنتيجة ظروف تاريخية كما رأينا.
سعت الحكومات المتعاقبة لمعالجة هذه الوضع فتسلم اربعة من الشيعة رآسة الوزراء. و اصبحت الامتحانات سرية للغاية و توقف الدخول للكليات و الحصول على البعثات على ما حزت عليه من الدرجات. و تألف مجلس الخدمة للنظر في اختيار الموظفين حسب امتحانات و مقابلات سرية لا سلطة للوزير عليها. وبهذا سار العراق تدريجيا نحو المساواة الحقيقية في النصيب من الدولة. لم يكن صدام حسين حامي حمى السنة. ما كان يهمه هو امنه و سلامته فأحاط نفسه بأقاربه لا لأنهم سنة و انما لأنهم اقاربه لا يتآمرون عليه. هناك الآن شتى الارقام التي تكشف عن تمثيل مكثف للشيعة في حزب البعث. ذكر صدام حسين للمخابرات الامريكية ( اف. بي. آي) انهم كانوا يمثلون الاكثرية في الحزب عام 1963 و تولى شيعي رآسة الحزب ( راجع المذكرات في صحيفة الشرق الاوسط 2006) و تعاظم وجودهم في الوظائف. فتك بحزب الدعوة لا لأنهم شيعة و إنما لسعيهم للاطاحة به. و الواقع انه قام بأكثر من ذلك ضد القوميين و الكورد السنة بل و حتى البعثيين. كل ما كان يقوم به من خروقات مبعثه الحفاظ على سلامته ولا يمت للدين او الطائفة بأي صلة. اعتمد في كل شيء على طارق عزيز لمجرد انه كان مسيحيا لا يستطيع ان يأخذ الحكم منه.
إن قانون الاستمرارية الذي يسري في علم الفيزياء ينطبق ايضا على علم السياسة، كما لاحظ لنين بالنسبة لمشاكل الاتحاد السوفيتي. فجل ما وقع خلال العهد الملكي في هذا الموضوع جاء بمثابة استمرارية لما خلفه العثمانيون من تركة و ما ترتب على نزاعهم مع ايران.
من الملاحظ ان العراقيين اقل الناس ايمانا بالدين، وهي ظاهرة تمتد الى ايام سومر وبابل. وخلال الحرب العالمية الثانية ودخول الاتحاد السوفيتي في الحرب بجانب الحلفاء، فسح المجال للحزب الشيوعي و اليساريين عموما للنشاط فانتشر الفكر الماركسي و الوجودي و البعثي بين المثقفين و العمال و اصبحت الامور الطائفية و الدينية لا تلقى من الجمهور غير السخرية. تعاظم هذا الاتجاه في عهد عبد الكريم قاسم . غير ان انقلاب 1963 و ما تبعه من تصفيات لليسار العراقي اضعف الروح العلمانية و فتح المجال للغيبيات و التراثيات. وبعد انهيار الشيوعية و الاشتراكية عالميا وفشل الوحدة العربية والحركة القومية في العالم العربي فسح المجال لما سمي بالصحوة الاسلامية. وعاد الدين ليلعب دورا اساسيا في تفكير الناس. و لكنه جر في اذياله شتى التشققات و الخلافات و منها الطائفية.
وهنا نأتي اخيرا لدور اسرائيل في هذا الموضوع. لا يتخوف الاسرائيليون من دولة عربية كما يتخوفون من العراق لأسباب كثيرة ، منها التأريخية. حرصوا على تمزيق العراق كعدو رئيسي. حدث في عام 1974 ان اشعرت غولدا مئير بول ولفويتز بالخطر الذي تشعر به اسرائيل من تعاظم قوة عراق صدام حسين. فسعوا بما لهم في عهد بوش من تأثير على البيت الابيض و البنتاغون الى اسقاط صدام حسين بغزو العراق . و كان من افكارهم نقل الحكم من السنة الى الشيعة الذين اعتبروهم اقل تحمسا لموضوع فلسطين، كما ذكر لي احد الاكادميين الاسرائيليين. سعوا لحل الجيش العراقي و اجهزة الامن. فتحوا المجال لصياغة دستور و ديمقراطية تعطي الاكثرية للشيعة و تمهد لتقسيم البلاد. و بتدفق واردات النفط بالمليارات دون حساب او كتاب تفاقمت العركة على الكعكة . وشاع النهب و الفساد. فلأول مرة وجدوا خزينة البلاد بأيديهم. جاء دور السنة الآن ليشعروا بالحيف. ومن جانبهم سعى الشيعة لدعم مركزهم و مكاسبهم بتشجيع الروح الطائفية و ترويج الافكار و الممارسات السلفية و الاستنجاد بمرجعية النجف في كل شيء. و لعبت ايران دورا مهما في هذه التوجهات.
يتسائل الجميع كيف يمكن التخلص من هذه الطائفية و ما تجره من ارهاب و جرائم. الجواب بسيط. هناك 130 مليار دولار يستلمها العراق سنويا من النفط بدون حساب او كتاب او سوآل و جواب. العركة تقوم على اقتسام هذه الكعكة. و الشعب العراقي الآن مثل المريض في غرفة الانعاش. لا يقوم بشيء و يتلقى غذائه و الاوكسجين من انابيب تصب في شرايينه( عوائد النفط). يعني ذلك ان الحياة تعتمد على الوظائف. وهذا يتطلب العدالة في توزيعها لئلا يشكو مظلوم من ضيمه. ينبغي اعادة الحياة لانظمة الحكم الملكي: اولا الحرص على سرية الامتحانات العامة. ثانيا توزيع البعثات و الاماكن في الجامعات حسب الدرجات و في اطار الشفافية. ثالثا توزيع الوظائف عبر مجلس الخدمة المستقل الذي يتولى الاختيار بسرية حسب المؤهلات و الدرجات و الامتحان الذي يجريه المجلس بسرية ايضا. و وراء كل ذلك ايضا ينبغي تحاشي زج الخلافات القديمة في مناهج التدريس و التركيزعلى العلوم الحديثة والفكر العلماني. و للحصول على برلمانات كفوئة و ناضجة في دول متخلفة ذات نسبة عالية من الامية ينبغي حصر حق التصويت في المتعلمين ( خريجي المدرسة المتوسطة مثلا) . و لكن و فوق كل شيء ينبغي الفصل بين الدولة و الدين و خلق نظام علماني عصري. و اخيرا هات من يسمع و ضجيج العركة على الكعكة يصم الآذان.