19 ديسمبر، 2024 12:08 ص

” الشامية ”  مهد الانتفاضات الوطنية
لم تكن ” الشامية ” يوماً مجرد مدينة خاضعة اداريا ً الى ” لواء الديوانية ” فحسب ، بل كانت إيقونة نضالية وواحدة من المحطات المضيئة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية ، فقد أنجبت هذه المدينة الخضراء ببساتين النخيل وحقول عنبرها الفواح برائحة الحياة الكثير من الرجالات الذين لعبوا دوراً مؤثراً في تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، كما أسهم ريفها الجميل اسهامة فاعلة في مساندة الحركات والانتفاضات الوطنية التي شهدتها المدينة أبان العهد الملكي وذلك من خلال ايوائها للوطنيين الملاحقين من قبل اجهزة امن السلطات القمعية بعد الهجمة البربرية في شباط عام 1963  إذ واصل الكثير منهم نضاله السياسي من محل اختفاءه في قرى الشامية ومنها قرية الخشانية التابعة ، ولاننسى احتضانها للمبعد الشاعر الفلسطيني معين بسيسو حيث عمل معلما فيها للأعوام 1951 ــ 1952 ومساهمته في دعم الحركة الوطنية التي تقودها القوى اليسارية في المدينة ، كما ان الزعيم عبد الكريم قاسم وقبل ان يصبح رئيسا لجمهورية العراق عام 1958 كان قد عمل معلما في الشامية و ذلك في تشرين الثاني من عام 1931 وقضى فيها سنة كاملة ، لقد سجّل التاريخ لهذه المدينة عددا من المواقف الثورية والوطنية ومن أبرزها انتفاضة الفلاحين عام 1954 التي اشعلها فلاحو المدينة وانضم اليها الطلاب واصحاب المحال البسطاء حيث قدمت هذه الانتفاضة صورة معبرة عن تنامي الوعي الوطني في أرياف العراق و مستوى التحدي والمواجهة للسلطات الحاكمة ، فبعد انتفاضة العراقيون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث التي أراد لها النظام الملكي تكبيل العراق سياسياً واقتصادياً بقيود الاستعمار البريطاني أخذت مشاعر الكراهية والتحدي لسياسة الحكم الملكي تأخذ بالازدياد وكانت دعوة الشخصية الوطنية ” هديب الحاج حمود ” الى تطبيق الحاصل مناصفة بين الملاّك والفلاحين بدلاً من الثلثين بالثلث بمثابة الشرارة التي اشعلت انتفاضة 1954 ، فقد أثارت هذه الدعوة حفيظة الملاكين ووقوفهم بالضد منها ، قابلها مساندة جماهيرية لها حيث نزلت الجماهير الفلاحية الى شوارع المدينة هاتفة ومهددة ( لو بالنص لو زرعة ايفوته ) ، والتحمت معها جماهير الطلبة في هذه المنازلة الوطنية و من بينهم السياسي والاقتصادي  “د. مهدي الحافظ ” الذي كان أنذاك طالبا في الرابع العام لتؤيد الهتافات والهوسات التي جسدت ظلم الاقطاع للفلاح وغياب العدالة وسرقة الجهود التي يبذلها الفلاح بالكدح والتعب (انته العنبر حايل عندك .. وآنه إجميغ ماعنديش ) وكذلك الاهزوجة التي تجسد الفقر الذي كان عليه الفلاح العراقي ( دوشك فوك الدوشك وآنه غطاي البوه ) ، حيث ارعبت هذه الأهازيج الحكومة القائمة ولجأت الى قمعها بقوة السلاح وقامت بحملة اعتقالات واسعة للمشاركين ، ونتيجة لحملات التضامن من قبل الحزب الشيوعي العراقي الذي أصدربيانا في شباط 1954 دعا فيه الى تبني مطالب الفلاحين واطلاق سراح المعتقلين وكذلك الموقف الوطني لبعض العشائر المتنفذة في المنطقة وزياراتها المستمرة للمعتقلين والموقف الرائع للصحافة ونقابة المحامين في مطالبتهما باطلاق سراح المعتقلين ، أسفر هذا التضامن عن اطلاق سراح المعتقلين بعد شهر من الاعتقال والغاء قرارات الفصل بحق الطلبة واصدار سلطات العهد الملكي مرسوماً ينص على جعل قسمة الحاصل مناصفة بين الملاّكين والفلاحين ، وبهذا التلاحم الذي كانت ” الشامية ” سباقة له حققت الانتفاضة مطلبها الرئيسي الشامل لكل مناطق العراق .

” قصر الملك غازي ”  .. شاهد على صفحة من التاريخ
على مقربة من أحد الانهار المتفرعة عن الفرات وبين غابات كثيفة من بساتين النخيل في منطقة “صدر الدغارة ” ــ 30 كم عن مركز مدينة الديوانية ــ يغفو قصر متواضع يعد واحداً من أهم المواقع التراثية المهمة في مدينة الديوانية ، وأحد الشواهد على حقبة من تاريخ العراق السياسي خلال فترة الحكم الملكي ذلك هو ” قصر الملك غازي ” الذي للأسف ظل طيلة اكثر من ثمانين عاما يعاني الاهمال ويفتقر الى الكثير من البنى التحتية التي يمكن ان تجعل منه قبلة لاستقطاب السائحين حيث يصف د. حسين قاسم صالح درجة الاهمال في قوله ( والحق أقول ان قصر الماك غازي لو كان فيه مايستحق النهب لنهبوه ) .
وقد تعددت الروايات التي قيلت في اسباب بناء القصرعام 1923 في هذه المنطقة ، فمنها ماتعزو السبب الى سحر الطبيعة التي جعلت المكان اشبه بالواحة الجميلة دفع الملك ” فيصل الأول ” الى بناء القصر ليكون راحة العائلة المالكة أيام العطل ، فيما ترى اخرى ان الدافع سياسي يتمثل في حاجة الملك لدعم شيوخ العشائر لاسيما شيوخ الفرات الأوسط حيث كبارهم في الديوانية ، فيما تسرد الدكتورة ” الينور روبنسن ” سببا اخر لبناء القصر يتلخص في ان العراقيين عندما اختلفوا على من سيكون ملكا عليهم بعد سقوط الدولة العثمانية اتفقوا بعد ذلك ان ينصّبوا فيصل بن الحسين ملكا على العراق وكان على رأس الوفد الذي ذهب اليه رؤوساء قبائل الديوانية ، وحين أصبح ( فيصل الأول ) ملكا على العراق ، لم يرض عن سياسته عشائر أهل الفرات فذهب الملك بنفسه الى ديوان الشيخ عبد الواحد سكر في المشخاب وحدث مالم يتوقعه أحد  اذ تصدى للملك الشاعرالمهوال ” مكطوف بن جياد الظالمي 1901 ــ 1962  ” حيث وقف امامه وصدح بأهزوجه ظلت الاجيال تتداولها منذ ذلك التاريخ :
يمنادي الشعب لبّاك من ناديت
ذبحت أهل الفرات عليك مابقيت
سويتك حكومه وسلميتك بيت
شلون تسلم البيت لمطرة
ومطره تصاوغ بيه
اي لقد ضحينا الكثير ونحن الذين جعلناك حكومة وسلمناك بيت العراقيين ، فكيف تسلمه الى رئيس وزراء يهب ثروات الوطن للأجنبي .
لقد ظل هذا الاثر التاريخي بعيدا عن رعاية الحكومات المتعاقبة ويفتقر الى بعض المستلزمات البسيطة التي يمكن ان تجعل منه مرفقا سياحيا مهما تؤمه العوائل أيام العطل والمناسبات المتنوعة   .
“مدرسة التهذيب ”  ….. حاضنة مؤتمر أنصار السلام 1959

تحتل المدرسة مكانة هامة في حياة المجتمعات الراقية ، فهي صرح تربوي لايقتصر دوره على العطاء والتلقين النظري للمعارف والعلوم انما لها دور مهم وفاعل في مجال تنمية الوعي وغرس القيم الوطنية والاخلاقية وتهذيب سلوك الأجيال من أجل اعدادها اعدادا سليما خاليا  من العقد والأمراض الاجتماعية .
وتعد مدرسة ” التهذيب ” في الديوانية واحدة من المدارس التي نهضت بهذا الدور التربوي والاخلاقي ، فهي ومنذ تأسيسها عام 1950 كانت مركز اشعاع معرفي ووطني في المدينة ، فقد احتضنت العديد من الفعاليات الثقافية والوطنية التي ظلت خالدة في ذاكرة ابنائها ، ذلك انها صُممتْ بشكل يلبي الحاجات الاساسية للطلاب وأنشطتها المتنوعة مما جعل منها مسرحاً وفضاء للكرنفالات الوطنية والفنية والرياضية ، حيث كانت في المدرسة قاعة نموذجية تضم مسرحا شهد العديد من الفعاليات الخطابية والمسرحية والموسيقية ، كما ضمت مرسما ً يرتاده الطلاب من اصحاب المواهب في الرسم وباشراف معلم الفنية الاستاذ الخطاط  ” كاظم سهيل “الذي سهر طويلاً على صقل مواهب العديد من الطلبة الذين أصبحوا اليوم فنانون وصلوا الى العالمية ، كما تألفت فيها حركة كشفية وجوقة موسيقية من الطلاب يرافق عزفها أناشيد الاصطفاف الصباحي باشراف الاستاذ ” مكي التعيسي ” وبمتابعة أول مدير للمدرسة الاستاذ ” عبد الزهرة غضبان ” ، وضمت المدرسة أيضا ساحة كبيرة لكرة القدم لعب على ارضها في ستينيات القرن الماضي أساطين الكرة العراقية منهم الراحل ” عمو بابا ” عندما كان لاعبا في صفوف فريق مصلحة نقل الركاب و ايضا اللاعب الشهيد ” بشار رشيد ” ، كما اقيمت على ذات الساحة استعراضات لرقص الباليه والعاب القوى ، فكانت ” مدرسة التهذيب ” بحق مهدا للعلم والتربية والتهذيب حيث عمل كادرها التدريسي بكل شرف على متابعة المواهب وتنميتها فكانت حصيلة جهودهم ان تخرج منها عدد كبير من الادباء والفنانين والرياضيين ، ، وبلغت المدرسة منزلة عالية من الشرف يوم احتضنت مؤتمر السلام في شباط من عام 1959 الذي حضرته القوى الخيرة والمحبة للسلام والديمقراطية من انحاء العراق كافة وكان من بين الحاضرين المفكر الشهيد ” حسين مروه ” و الشاعران الكبيران محمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وسط استقبال جماهيري يقف في طليعة المستقبلين الفاعلين الاستاذ ” شاكر محمود التميمي ” ، وقد توسط المؤتمر مجسم كبير يمثل حمامة السلام نفذه الفنان النحات ” صالح جاسم العامري” صاحب تمثالي العامل والجندي المجهول وكان المؤتمر بمثابة كرنفال كبير حيث تخلل منهاجه الواسع اهازيج وهتافات تدعو للسلام وتنشد للجمهورية الفتية ، وقد انطلقت أعمال المؤتمر مع تحليق الحمامات البيضاء التي أطلقها في سماء المدرسة المعلم المناضل علي عباس الفزع .
وقد دأبت المدرسة على عدد من التقاليد التي تهدف الى مساعدة الطلبة الفقراء وتذليل الصعوبات التي تقف في طريق مواصلة دراستهم ومنها نظام التغذية المدرسية وكذلك في مبادراتها المتعددة لالغاء الفوارق الطبقية عن طريق توزيع الكسوة الصيفية والشتوية وكان ينهض بهذه المهام كادر تعليمي هم بمثابة آباء ومربون اتذكر منهم  الذين سهروا على تعليمي الابجدية الأولى المدير اللاحق للمدرسة عبد الواحد سنيد ، راجي مال الله ، كريم دوحي ، عبد الرزاق الاسدي ، موسى ملاغي ، عبد علي كاظم خزيمات ، كاظم شامخ ، صلاح القزويني ، شاكر محمود التورنجي ، مكي التعيسي ، كاظم سهيل ، نجم عبد ، مهدي الجنابي ، عبد الرزاق ناجي  حنا ، زغير كاظم ، محمد مزعل ، كامل جاسم ، محمد جاسم عيسى .

ولكن مايحز في النفس ان المدرسة تعيش اليوم  حالة من الأهمال والتجاوز وتتعرض الى الاساءة من بعض الجهلة بسبب وجودها وسط الاسواق والانشطة التجارية المتعددة ، لهذا أشعر بالأسى لضياع هذا الإرث الذي كان يوما منارا للعلم والتهذيب  .