مايمكن الانطلاق منه في قراءة الثورة الإيرانية الإسلامية بنسختها السنوية الخمس وثلاثين عاما أنها جملة عرضية قفزت إلى سطح الكتاب الدولي دون طلب التأشيرة والتوقع من مصادر القوى العالمية لأجل المرور , بعيدة عن الارتماء تحت أحضان إحدى المعسكرين السوفيتي أو الأمريكي, وبذلك قد سجلت الثورة قيد ولادتها كعلامة فارقة في سجل الوجود السياسي ضمن واقع التاريخ الحديث, وهي تأتي واحدة من أهم ثلاث ثورات في العالم التي غيرت في حركة دوران الأرض السياسية خلال القرون الثلاثة الاخيرة , ابتدأ من الثورة الفرنسية عام 1789 التي امتدت الى بقية أوربا بعد ان رفعت شعارات المساواة والحقوق المدنية وقننت من تأثير السلطة الدينية والارستقراطية والإقطاعية على الحياة السياسية والاجتماعية في توجيه وصناعة قرار الأمم , والأخرى الثورة الروسية البلشفية عام 1917, والتي أنهت حقبة حكم الأباطرة في الإمبراطورية الروسية التي امتد حكمها قرابة العقدين من الزمن, وبذلك قد هيأت لبداية عملية بواجهة سلطوية اسمها الشيوعية وفكرها القائم على الاشتراكية, وهو ما جر العالم إلى حرب الأيدلوجيات والمذاهب السياسية التي أفرزت التخندق الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي وحلفاءها من جانب , والخندق الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وأنصارها, فيما تنطلق ايران بزعامة الإمام الخميني بحراك الإسلام وإنهاء الحكم الشاهنشاهية بكلا الحقبتين القاجارية والبهلوية والتي امتدت من 1796 الى1979, موعد انطلاق القافلة الإسلامية الى سلطة طهران, والحقيقة ان تلك الثورة قد قطعت وتقاطعت مع الكثير من الاجندات الي كانت مرسومة في الخارطة الغربية بعد انتهاء حكم الشاه وسقوط اخر حكامها محمد رضا بهلوي وكما يوصف بشرطي الخليج, او الخادم المطيع للمصالح الامريكية,وهو ماجعل ايران الثورة خارج نطاق المقبولية في لحظة قرع اجراس الثورة, وكما هو واضح في تصريح لوزير الخارجية الأمريكي الاسبق هنري كسنجر الذي قرأ ايران ما بعد 79 على ان انتصارها سيجعلها قادرة على نشر العقائد الإسلامية الراديكالية من جنوب شرق اسيا الي سواحل المحيط الاطلسي , وحقيقة ان ما حدث في ايران كان قدر قادم من الغيب لم تستطع القوى الغربية التعامل معه او التحضير له الا بعد ان وضعت العمامة السوداء في دفة الحكم الإيراني,فجميع المعطيات على الأرض كانت لاتساعد على انبعاث رائحة الانقلاب لما يملك الشاه من ترسانة عسكرية وأمنية تصنف ضمن المواقع المتقدمة على مستوى العالم, وربما مايفسر ويؤكد ذلك الكيفية التي تعامل بها بهلوي مع الثورة , في أطلاق الصلاحيات لرئيس الوزراء الإيراني بختيار لإيقاف الثورة معللا ذلك بأنه طالما شعر بالتعب طويلا ويحلم برحلة من الراحة, فغادر البلاد الى مصر ولم يعلم انها الرحلة الأخيرة التي أسدلت الستار على أخر ملوك الشاه , فحقيقة ان ما حدث في ايران غفلة دولية نفذ من خلالها صناع الثورة التي طالما كانت عصية على التحقيق, فنستطيع القول ان نفس التغير الإيراني عمليا ترافق مع اقتراب نهايات الحكم القاجاري عام 1926, ووصول رضا بهلوي إلى السلطة بعد خلع اخر ملوك القاجار احمد شاه, وهنا ستطيع التأشير العملي لبزوغ بدايات الحركة الإسلامية كقوى مؤثرة في المشهد الايراني,ولعلها الثورة الدستورية كان اول مؤشراتها الملموسة في العقد الأول من القرن الماضي وتحديدا عام 1906 والتي اغلب رجالاتها من الوسط الديني وطلاب الحوزة,ومن ثم حركة آية الله المدرس، وحركة آيةالله كاشاني التي أسهمت مع مصدق في قيام الثورة عام 1953التي وئدت في بواكيرها, ولذا نجد ان مرجعية قم اسهمت بشكل كبير في رسم مسار الثورة , على الرغم من انحسارها في اوساط ومساحات معينة, وهنا لابد من الالتفات الى بعض الظروف الموضوعية والبيئية التي انعشت قلب الثورة في استمرار نبضها وصولا الى شتاء 79, فطبيعة حكم رضا بهلوي اتسمت بانحرافات خطيرة او كما يسمى بمشروع التغريب الذي تبنى العمل عليه وترسيخه في المجتمع الايراني من إصدار أوامر منع ارتداء العمامة وتحريم ارتداء الحجاب وفرض القيود والأطواق على المراسيم والشعارات الدينية, وما الحق بعدها من جملة احداث متعلقة بالحرب العالمية الثانية ووقوع ايران تحت سلطة الحلفاء عام 1941, ومن ثم عزل رضا بهلوي من الحكم من قبل القوات البريطانية وتنصيب ولده محمد رضا ملكا لإيران, وغيرها من المنعطفات السياسية الاخرى, وهو ما اعطى الزخم والقوة لرجالات الدين في ايران ان يتحركوا بارادات اكبر, غير ان الزعامة الثورية القادرة على تفكيك الإشكاليات وتحشيد الجماهير لم تكن متوفرة الا بعد وفاة المرجع البرجردي عام 1961, الذي وفر للإمام الخميني التحرك ضمن مساحات حركية ثورية معلنة بشكل اكبر ترجمت بشكل عملي في الثورة البيضاء عام 1963 , وهو ما جعل الامام الخميني في منصة الحضور الأوسع بين الجماهير بعد ان توسعت قاعدته الجماهيرية , مما حدى بالشاه ان يأمر أجهزته الأمنية باعتقال روح الله ونفيه الى تركيا 1964 بعد ان وصف الاخير حاكم ايران بهلوي بانه يزيد بن معاوية خلال خطبته في المدرسة الفيضية في مدينة قم,فأصبح زعيم الثورة خارج مديات الجغرافية الايرانية , لتبدأ الرحلة الثانية في ادارة المعركة من خارج الأسوار والتحريك من الداخل, ابتدأ من تركيا برحلة قدرها احد عشرشهرا , ومن ثم العراق بثلاثة عشر عاما , وفرنسا باربعة اشهر, ليعود بعدها من المنفى الى الرئاسة معلنا نجاح الثورة التي امتدت اكثر من سبعين عاما , صادحا بقيام إيران سياسيا برداء الجمهورية الإسلامية.
تلك الرحلة الشاقة وكما أوضحنا سابقا بان الثورة الإيرانية مفاعل وتفاعل استمر في طور التخصيب الزمني عبر اكثر سبعة عقود تكللت وانجزت مهامها على يد عرابها السيد الخميني, في اقتلاع الشاه والتأسيس لمرحلة جديدة تختلف من حيث الشكل والنسخة والمضمون, غير ان ترتيب الشرق الاوسط بطريقة خارجة عن السيطرة الغربية وبدون رغبة منها او قدرة على ايقافها فرض على ايران لما تحتكم وتتحكم به من موارد طبيعة وموقع جيوسياسي واقترابها من نقطة الارتكاز الجغرافي وكما يعبر عنها الجغرافي البريطاني هالفورد ماكندر وهو أول من نبه إلى أهمية ايران عام 1904 والتي اطلق عليها قلب اليابس في أورآسيا، واصفا ان من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على قلب اليابس ومن يسيطر على قلب اليابس يسيطر على جزيرة العالم ومن يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم ويقصد ماكندر بجزيرة العالم القديم أسيا وأوروبا وأفريقيا، فضلا عن كون صاحبة المساحة الجغرافية الشاسعة فأنها تمتلك من الاحتياطات النفطية وحقول الغاز مايجعلها في تصنيفات متقدمة عالميا, في فضاء المطرقة والسندان وهنا نتكلم عن الثلاثية الكبرى في عناوين الدول المؤثرة , المورد والمساحة والنظام, وهي في واقعها مدخلات لتفسير العزلة الإيرانية عبر اكثر من ثلاثين عاما, فأيران بحكمها وطبيعة مذهبها تقع في موقع العصا داخل الدولاب الإقليمي والدولي بشكل عام, فأذا ما التفتنا الى المراحل الأولى من بواكير الثورة الإيرانية سنجد ان طهران استقبلت رجالات الثورة بغربة دولية, وجملة من المشاريع الاجنداتية التي حاولت تعميق الفجوة في رحم القيادة الإيرانية من قوى إسلامية وتيارات ليبرالية , بغية سحب بساط الثورة من مصداقية الشعب الإيراني غير ان المرجعية السياسية الإيرانية ربما كانت أكثر إدراكا وتداركا في قراءة المشهد بشكل دقيق بما تضمن من تحديات كبيرة لتدشين وإمرار مشروع إسلامي قادر على مخاطبة الداخل الايراني ومواجهة الرفض الإقليمي والدولي, وربما هو مايفسر بدفع القيادات المنفتحة والأقرب الى الديمقراطية الاسلامية بزجها في معترك السلطة بدءا بأول رئيس لها مهدي بزركان ومن ثم ابو الحسن بني الصدر , تدراكا من العقل الإسلامي الايراني خشية الوقوع في فخ الإسقاط للنظرية السياسية الإسلامية التي رفعها الزعيم الاسلامي اية الله الخميني, والتي اراد الغرب اللعب بها كمدخل لتغريب الثورة في ايران, ومع اجترار الوقت نجد ان ايران امام حرب عنوانها العراق ايران وهي حرب مدفوعة الثمن , اخرجت على الطاولة السياسية من اجل استزاف ايران في الوقت والموارد من جهة, ومبرر لبقاء النظام العراقي في السلطة كرغبة اقليمية ودولية تحت ذريعة ان صدام حسين الضامن والبوابة الامنة لبقاء السنة في المنطقة بعيدا عن اخطار المد الشيعي الفارسي القادم من ايران, فيما بقيت الغرب تجمع وقود المعركة لاجل الحفاظ على مصالحها القومية في خارطة الشرق الاوسط وتأمين عمق ستراتيجي لمعشوقتها اسرائيل وتثبيت غطاء واقي لها من خطر المتغيرات وما قد ينجم منها ازاءها, ولذلك اننا نجد ان واشنطن التي عجزت في تقبل الحقيقة القائمة بانتصار الثورة في ايران وجدت نفسها ومن معها تعتمد نظرية الاشغال والاشتغال, ففرض على ايران ان تواجه متغيراتها السياسية بعزلة دولية وحرب مفروضة, ونظام سياسي مايزال يحبو في مراحل نشأته الاولى, لتنتهي الحرب بعمر ثمان سنوات بقرار من مجلس الأمن الدولي , دون معرفة واقعية من هو المنتصر فيها ومن هو الخاسر؟؟.
غادرت طهران الحرب لكنها لم تغادر جراحات المعركة وما خلفته من خسائر اقتصادية وعسكرية , لتخرج بعدها الجماهير التي استقبلت زعيمها في 1979, وهو قادم من فرنسا , مودعة له عام 1989 وهو يغادر الى مثواه الاخير.
بقيت ايران بعد ذلك في بيتها الداخلي بعيدة عن متناول الأفواه الغربية , فانشغلت في إعادة ترتيب وضعها الداخلي لرسم واكمال معالم خط الثورة , اتسمت الحركة فيها بحركة النمل الغير محسوسة , امتدت ايران افقيا وقفزا على الخارطة الدولية فطورت منشأتها وعمدت الى الاستفادة من إطلال الاتحاد السوفيتي وعقولها العلمية بعد سقوط جدار برلين عام 1989, ليبدأ بعدها موسم “الصمت الايراني. ” .