23 ديسمبر، 2024 8:24 ص

الغرق لعبة الماء مع البشر , أو إن شئت آفة الماء للبشر , وقد عايشته منذ الصغر , ولا أدري كيف نجوت من الغرق بعد أن أشرفت عليه عدة مرات , إذ كنا نقضي أيام العطلة الصيفية عند النهر , وما كنت أجيد السباحة فأخشى الماء , لكن النهر جذاب , وساحات لعبنا على ضفافه , ولا بد من ولوج النهر , لكي تعبّر عن شجاعتك وعدم تخلفك عن أصحابك.
فكنا نسبح في فسحة صغيرة ليست عميقة ما بين صخرتين كبيرتين أحدهما ” السن العريض” وهو صخرة مسطحة نحوم حولها لنتعلم السباحة وكنا بلهجتنا ” إنطبش”.
و”السن العالي” وهو صخرة عامودية مرتفعة , يتقافز منها إلى الماء السبّاحون المهرة , ولا يمكننا أن نتجاوز ” السن العريض” لأن النهر عميق في ناحيته الغربية.
وما نصحني أحدٌ إلا جدتي التي كانت تقول لي ” ما يصير تذهب للنهر بدون كَرب” , والكرب هو الجزء الذي يصل مابين جذع النخلة وسعفها ويكون مثلث الشكل أو مخروطي , ويمثل طوق النجاة أو سترتها , إذ يتم ربط عدد منها حول البطن والظهر فتساعد على العوم الأمين, وهي عادة عراقية قديمة توارثتها الأجيال وتعلمت السباحة بواسطتها , وقد جرّبتها.
وفي وقتنا كنا نستعمل “الكلن” وهو حاوية لدهن السيارات فارغة إسطوانية الشكل وسعتها خمسة غالونات , وكان ” التنكجي” يسد ثقوبها وهي فارغة من الدهن , ويلصق بها حمّالات للحزام , فكنا ” نتحزم بها” وهي على ظهرنا وندخل الماء بثقة وأمان.
وصار ” الكلن” طوق نجاتي ورفيقي كلما ذهبت إلى النهر , أو عندما أكون في القارب ” البلم” , لأني أخشى الغرق رغم تعلمي السباحة.
أسوق هذه المقدمة الواقعية في حياتنا لشدة خوفي من الغرق , ومبعث هذا الخوف أن العديد من الصبية والشباب قد غرقوا في نهر مدينتنا.
وكل صيف لا يخلو إسبوع من غرق واحد أو إثنين في النهر , وما أكثر الغرقى من الزائرين , الذين يؤخذون بالماء وسحر الطبيعة , فيتجرؤون على السباحة في النهر الذي يبتلعهم.
وتتكرر كل صيف وأحيانا في الشتاء مشاهد الأبدان الباردة المنتشلة من النهر , وعندما عملت طبيبا في مستشفى مدينتي لبعض الوقت , كانت أيام الصيف لا تخلو من الغرقى من أبناء المدينة , ومن الذين جاؤوها للزيارة أو النزهة.
والعجيب في الأمر – وقد كتبت عن هذا مرارا – أن لا أحد في المدينة قد تصدى لهذه الحوادث , لا بلديتها ولا مسؤوليها ولا وجهائها ولا غيرهم , وما سمعت يوما في خطبة جمعة الإشارة إلى موضوع الغرق والوقاية منه , وكيفية الإحتراز من هذه الحوادث المتكررة المؤلمة المؤسفة.
وفي كافة مجتمعات الدنيا على ظهر قارب أو سفينة أو مركب أو أي شيئ آخر يمخر عباب الماء , يجب على الأشخاص حمل أو إرتداء أطواق أو سِتَر النجاة , إلا في مجتمعاتنا العجيبة السلوك , والتي لا تعرف الوقاية من كل شيئ.
ولهذا تجدنا نقرأ إنها الأقدار , ومكتوبة عليهم , وكتابات الترحم والتأسي , والبعض يرمي بذلك على الله , الذي أعطى مخلوقاته عقلا وبصيرة , لكننا نتوسل إليه أن يرحمهم ويلهم ذويهم الصبر والسلوان , ويتكرر المشهد والعدوان.
بينما المشكلة ببساطة تتلخص بفقدان مهارات الإحتراز والوقاية من الغرق , فأطواق النجاة مثل أحزمة الأمان في السيارات , فلا يمكن لأي شخص أن يكون فوق الماء من دون طوق نجاة , حتى ولو كان من أمهر السباحين.
هذه هي الضوابط المعمول بها في مجتمعات الدنيا , فلكل نشاط ما يتصل به من الإحترازات الوقائية التي تحمي مما قد ينجم عنه.
بينما نحن مجتمعات نقرأ ومنذ الصغر ” الوقاية خير من العلاج” , وما توقينا , ولا إمتلكنا ثقافة الإحتراز من المخاطر والويلات!!
وبكل تأكيد سنتفاعل بذات النمطية الخرقاء وسنتلاوم , ونتبادل التهم , ولا نتخذ أي إجراء وقائي لمنع تكرار ذات المأساة!!
فلماذا لم يلبس الذين على ظهر العبارة أطواق النجاة , أم أن ذلك ليس من الشروط والمستلزمات لمنح الإجازة لتسير هكذا وسائط نقل قد تودي بحياة المواطنين؟!!