كلما أشرقت الشمس على البسيطة تقسم العالم الى نصفين، فمن الناس يكون متهيئا للنوم او متأهبا للنهوض. وكل يوم تتكرر هذه الحالة منذ ان اوجد الله الخلق. فعندما يتنفس الصباح تتوزع في المدن مشاهد متنوعة متباينة في مواضيعها متوحدة في مضمونها الوقعي، فهي بين الخير والشر والموت والحياة، فتخرج الحيوانات من مخابئها الى البراري والغابات، ونخرج نحن بني آدم من سباتنا الى الاسواق والمعامل، فتطلب رزقها ونطلب رزقنا ايضا. لم يكن السوق بعيدا عن المدينة، فهو قريب من وسطها تحيطه من احد الاطراف محلات خدمية، وينتشر حوله الباعة الجوالون و “البسطيات”. وعلى مقربة من السوق تنتشر بيوت، تتخللها الشوارع كروافد الانهار، تغذي السوق بالمتسوقين والمتفرجين، ولا تخلو من المتسكعين والمتسولين. ومن احدى النوافذ المفتوحة لبيت بسيط في وسط احشاء المدينة، هناك من يكلم ابنه ويوصيه قبل ان يرسله الى السوق قائلا:
– “بني ان دخلت السوق احفظ نفسك واحزم امرك وانجز بغيتك ولاتفقد سراطك، واعرف مدخلك ومخرجك، فانك لن تدخل السوق مرتين”.
فاستغرب الابن من تلك الوصية وقال لأبيه:
– “ابي ارسلتني الى السوق لا الى ساحة قتال” واسترسل في كلامه:
– “ولم لا ادخل السوق مرتين؟ هل سأمنع ام امتنع؟”. فحاول الاب ان يوضح اكثر فرد قائلا:
– “بني ان نظرت فلا تبصر، وان تكلمت فاعنِ، وان مشيت فاقصد، وان سألت فاسمع”. فقال الابن:
– “كل هذا يا أبي”. فقال الاب:
– “بل اكثر، فاسمع بني ان لم تسرف في الوقت لن تسرف في مال او جهد”.
وبتلك الكلمات انتهى الحوار بينهما، واخذ الابن طريقه الى السوق باحثا عما يريد. فزج نفسه بين مئات المتبضعين ليلقي بسهمه لعله يصيب غايته، فعادت به الذاكرة الى ايام صباه كيف كان يمسك بيد ابيه بشدة وبخوف مرة، وبأطراف ثوب ابيه بقلق تارة اخرى، وهما يخوضان شوارع السوق آنذاك. فأصوات الباعة والضجة الصاخبة، ووجوه الناس المتغيرة بين غاضب وضاحك وعابس ومسفر، كل تلك التقلبات كانت تخيفه كثيرا، وكان يتمنى على ابيه ان يعود به الى البيت سريعا. حتى ارتطم بأحد المارة ليبدد عن مخيلته تلك الذكريات، فاعتذر واسرع يجول بنظره متفحصا المحلات والبضائع، وهذه المرة لا تزعجه تلك الضجة، بل هي موسيقى الاغاني الشعبية التي كانت تصدر من مطاعم السوق، ولا تقلقه اصوات الباعة، فهم يعلنون عن بضاعتهم ليس الا، ولا تخيفه الوجوه فمنها من يأنس بالنظر اليه، واخرى يتمنى ان يطيل تصفحها، فوجد في ذلك لذة، وراح يخوض غماره وينظر ثماره متنوعا بإسهاب في تفاصيل السوق. وبعد ان اخذ منه التعب مأخذا، ركن الى احد محلات العصائر، وبخ قلبه عصيرا باردا طيبا مذاقه. وبعد هنيهة عادت رجلاه الى جادة السوق لتقف به عند حاجته التي كان يطلبها، ومد يده ليستخرج محفظته فلم يجدها، واخذ يتلمس ثيابه ومعالم وجهه تتقلب، وناقوس عقله يطرح عشرات الأسئلة، وذاكرته تعينه في البحث عائدا ادراجه الى محل العصائر، وبينما هو شارد الذهن، فإذا بكف تربت على كتفه لرجل كبير وهو يقول له:
– هون عليك لاعليك هذه محفظتك. فاختطفها من يد الرجل وكلمات الشكر والامتنان تزدحم في معاني وجهه وعلى شفتيه. وعاد الى حيث كان ليشتري حاجته ويعود. وبعد التي واللتيا حصل على ما اراد، فسار قاصدا البيت وتذكر الرجل الذي ساعده، حيث كان يشبه اباه كثيرا، وسأل نفسه من يكون هذا الرجل؟ فناده احد العتالين طالبا المساعدة، فلبى وتعاون كثيرا معه، حتى كانه يعرفه منذ زمن، وقال للعتال: ما أصعب عملك..! فنظر اليه العتال بعينين جامدتين وبوجه كله عتب، ولم يشكره على فعله وانصرف. وعاد صاحبنا الى طريقه الى حيث الدار والقرار، فوضع احماله في باحة الدار، وتجول في ارجائها، وكان يطبق عليها الصمت وتبدو مهجورة منذ سنين، فوقف امام المرآة وكان يعلوها غبار كثيف، مسحها بيده، ففزع مما رآه فيها، إذ بدت كأنها صورة ابيه، فرمى نفسه متهالكا على الكرسي، وهو يتلمس وجهه الذي حفرت فيه التجاعيد أخاديد ماكانت قبل آن من الدهر،
وراسه الذي انحسر على فروته الشعر حتى غدا كالعرجون القديم. هنا تذكر وجه العتال وذلك الرجل الكبير الذي ساعده، فعادت كلمات ابيه ووصاياه الى مخيلته، وشخصت أمامه كجرس إنذار ينبهه: “انك لن تدخل السوق مرتين”.