18 ديسمبر، 2024 11:49 م

إنكار الجحيم بواسطة اللامبالاة !

إنكار الجحيم بواسطة اللامبالاة !

أطلق سراح صديقي خالد مروان من السجن في بداية نشوب الحرب بين العراق وإيران ، بعد ان قضى سبعة أعوام معتقلا بسبب وشاية من زميل له في العمل وكانت التهمة : التذمر من الحزب والثورة ، بينما الحقيقة كانت مجرد مقارنة بين أوضاع العراق والبلدان الأوربية التي كان يزورها بحكم عمله كبحار .
وحسب ما اخبرني صمم خالد على عدم الإلتحاق بالجيش بعد فصله من وظيفته وإلتحاق مواليده في خدمة الإحتياط ، إتخذ قراره .. (( لن أدعهم ينالوا مني ، ولن أكون حطبا في هذه الحرب )) ، قام بتزوير إعفائه من الجيش لأسباب صحية تتعلق بحدوث كسور في العمود الفقري وشلل في الرجل اليسرى ، وأخذ يستعمل عكاز أثناء المشي .

سألت الصديق خالد :

– أليس من الواجب الوطني الدفاع عن البلد وعدم التهرب من الجيش خصوصا إيران عدو متوحش إن لم تقتله قتلك ؟

– للأسف ظلم السلطة وغياب حقوق المواطنة .. قتل الروح الوطنية في داخلي !

– كيف عشت كل سنوات الحرب وأنت هارب من الجيش ، علما كانت عقوبة الهارب الإعدام. ؟

– أول خطوة ألزمت نفسي بعدم الخوف ، وقررت تقبل عقوبة الإعدام في حالة القبض عليّ ، ثم إستخرجت إجازة سوق عمومي ، وتركت مدينتي البصرة وسافرت الى بغداد وإشتريت سيارة تكسي وعملت في شوارعها ، والسكن في الفنادق.

– تقول ألزمت نفسك بعدم الخوف ، هل مشاعر الخوف إرادية أم لاإرادية ؟

– (( صحيح إنبثاق المشاعر بصورة عامة عفوي ولا إرادي ، لكني نزعت عن نفسي سبب الخوف وهو الإعدام ، ودخلت معها في حوار وأخبرتها اني أتقبل الإعدام وعليها ان تكف عن القلق وتخويفي وتدعني أعيش حياتي .. وهكذا أصبحت متحررا بعد ان قدمت حياتي هدية للموت الذي كان يمكني ان يداهمني في أية لحظة .

– و كيف مضت أيامك ؟

– كنت أتحرك في سيارتي التكسي كغطاء ، وأتجول بين المطاعم والبارات ، والمقاهي للعب القمار الذي تعلمته في السجن ، والمكتبات ودور السينما ، والتردد على بيوت الدعارة ، وأعمل قليلا لتوفير صرفياتي اليومية ، وقسم من وقتي أقضيه في الفندق بالقراءة .

– كيف كنت تنظر الى الناس ، البلد ، مصيرك الشخصي؟

– كان الشعور بالذنب يعذبني حينما أرى جنائز الجنود قادمة من الجبهة ، وأتساءل : أليست أنانية مني ان أستمتع في حياتي بينما يوجد بشر في جبهات القتال يتعذبون ويموتون ، وكنت في أكثر الأوقات أقوم بتوصيل الجنود مجانا في سيارتي ، للأسف تحت ضغط القمع والحروب والموت … مسخت آدمية البشر ، وتحول الناس في العراق مابين أناني متوحش ، ومتملق ذليل للسلطة .

– ألم تفكر بالهرب خارج العراق ؟

– لا .. في تلك المرحلة بعد إنهيار إيماني بالأديان داخل السجن ، تهاوت القيم في داخلي ، ولم أعد أشعر بقيمة لأي شيء في الوجود بما فيها تلاشت قيمة نفسي أمامي ، وتحطمت نرجسيتي ، وتوقفت عن الشعور بآدميتي وبقيت أعيش وسط الجحيم ، إنغمست في العالم السفلي : القمار وزيارة بيوت الدعارة ، كنت منتشيا بحياة اللامبالاة كما لو اني أحد أبطال الروايات العدمية ، وكان همي البحث عن السخرية والضحك كي أغيب عن الواقع.

ثم أخذ خالد يتحدث عن خفايا العالم السفلي : (( بالمناسبة العالم السفلي ليس كله مقرفا ، بل يحوي بين جدرانه العديد من الشخصيات الإستثنائية والحكايات المأساوية ، ومن بينها قصة تلك المرأة التي صعدت معي في سيارة التاكسي ، أدهشني إمتلاء جسدها من دون كرش ، وسعة المسافة مابين أسفل الرقبة لغاية حدود النهدين ، كرجل خبير بالمرأة .. إنثى بهذا الجسد المحتشد باللحم والصدر العريض ، والنظرات الوقحة .. تعد كنزا عامرا باللذة ، لم أجد صعوبة في التعرف عليها ، وإتضح لي فيما بعد انها تعمل في الدعارة ، أصبحت مدمنا على جسدها ونكاتها البذيئة ، وعندما كنت أصبح في حالة سكر تنثال عليّ ذكريات السجن السوداء وأبدأ بالبكاء ، وأتفاجأ إنها تملك قلبا طيبا متعاطفا وتشاركني البكاء ، وبمرور الزمن ومن كثرة اللقاءات كشفت عن الوجه المأساوي لضحايا السلطة والحرب .

تم إستدعاء زوجها لخدمة الإحتياط وذهب الى جبهات القتال ، شعرت بالفراغ والفقر والرغبة لإشباع حاجتها الجنسية ، فإنخرطت في الدعارة ، طلقها زوجها بعد إكتشافه لأمرها ، بعد عدة أعوام ، وأثناء تردده على البيت حينما يأتي من جبهة القتال في إجازة لرؤية أطفاله ، عقدت صفقة معه على ان يرجعا معا متزوجين وتسعى الى نقله من الجبهة الى بغداد من خلال علاقاتها المتشعبة شرط ان تبقى على عملها في الدعارة الذي تكيفت معه بعد ان إستمرأته وذاقت حلاوة المال وإهتمام الرجال بها .

وافق الزوج على الصفقة .. هل دمر طول مدة الحرب معنويات زوجها وحطم قيمه وجعله يوافق العمل ( كواد ) على زوجته ؟.. كنت أسألها عن مشاعره وهو يرى الرجال يطرقون باب البيت لممارسة الجنس معها ، وكانت تقول : أشعر به أشبه بالشخص الميت بلا مشاعر ، مات ، قتلته مشاهد الحرب والدم والخوف من القتل في الجبهة ، وعندما دعتني لزيارة البيت والتعرف على زوجها ، رفضت إحتراما لآدميته ، ووجدت نفسي حزينا من أجله ، من أجلنا جميعا .. وأبصق على الحياة كلما أستفيق من سكري وحالة الإنكار وأتذكر اني أعيش في العراق !)).