19 ديسمبر، 2024 12:24 ص

إنفاق الصديق الأموال لتحرير المعذَّبين والمستضعفين نماذج ودروس وعبر

إنفاق الصديق الأموال لتحرير المعذَّبين والمستضعفين نماذج ودروس وعبر

تضاعف أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه مع انتشار الدَّعوة في المجتمع المكِّيِّ الجاهليِّ، حتى وصل إلى ذروة العنف، وخاصَّة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكَّلت بهم، لتفتنهم عن عقيدتهم، وإسلامهم، ولتجعلهم عبرةً لغيرهم، ولتنفِّس عن حقدها، وغضبها بما تصبُّه عليهم من العذاب.
وقد تعرَّض بلالٌ ـ رضي الله عنه ـ لعذابٍ عظيمٍ، ولم يكن لبلالٍ ـ رضي الله عنه ـ ظهرٌ يسنده، ولا عشيرةٌ تحميه، ولا سيوفٌ تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهليِّ المكيِّ يعادل رقماً من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم، ويطيع، ويباع، ويشترى كالسَّائمة، أمّا أن يكون له رأي، أو يكون صاحب فكرٍ، أو صاحب دعوةٍ، أو صاحب قضيَّةٍ، فهذه جريمةٌ شنعاء في المجتمع الجاهليِّ المكيِّ، تهزُّ أركانه، وتزلزل أقدامه، ولكنَّ الدَّعوة الجديدة، التي سارع لها الفتيان، وهم يتحدَّون تقاليد، وأعراف ابائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرميِّ المنسيِّ، فأخرجته إنساناً جديداً في الحياة،(الغضبان، 1998، ج1، ص136) قد تفجَّرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن امن بهذا الدِّين، وانضم إلى محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وإخوانه في موكب الإيمان العظيم، وعندما علم سيِّده أميَّة بن خلفٍ؛ راح يهدِّده تارةً، ويغريه أطواراً، فما وجد عند بلال غير العزيمة، وعدم الاستعداد للعودة إلى الوراء إلى الكفر، والجاهليَّة، والضَّلال، فحنِق عليه أميَّة، وقرَّر أن يعذِّبه عذاباً شديداً، فأخرجه إلى شمس الظَّهيرة في الصَّحراء بعد أن منع عنه الطَّعام، والشَّراب يوماً، وليلةً، ثمَّ ألقاه على ظهره فوق الرِّمال المحرقة الملتهبة، ثم أمر غلمانه، فحملوا صخرةً عظيمةً، وضعوها فوق صدر بلال، وهو مقيَّد اليدين، ثمَّ قال له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمدٍ، وتعبد اللاَّت والعزَّى، وأجاب بلالٌ بكلِّ صبرٍ وثبات: أحدٌ، أحدٌ . وبقي أميَّة بن خلف مدَّةً، وهو يعذِّب بلالاً بتلك الطريقة البشعة،(البغدادي، 1994،ص40) فقصد الصِّدِّيق موقع التَّعذيب، وفاوض أميَّة بن خلفٍ، وقال له: (ألا تتَّقي الله في هذا المسكين ؟ حتى متى! قال: أنت أفسدته، فأنقذه ممّا ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلامٌ أسود أجلدُ منه، وأقوى على دينك أعطيك به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك، فأعطاه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه)، وفي روايةٍ: اشتراه بسبع أواقٍ، أو بأربعين أوقيَّةً ذهباً.(ابن هشام، 1997، ج1، ص394)
ما أصبر بلالاً، وما أصلبه رضي الله عنه! فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُب، ولم تَلِن قناته أمام التَّحدِّيات، وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته ممّا يغيظهم، ويزيد حنقَهم، خاصَّةً: أنَّه كان الرَّجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام، فلم يواتد الكفار فيما يريدون، مردِّداً كلمة التَّوحيد بتحدٍّ صارخٍ، وهانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه.(السويكت، 1994، ص92)
وبعد كل محنةٍ منحةٌ، فقد تخلَّص بلالٌ من العذاب، والنَّكال، وتخلَّص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله بقيَّة حياته ملازماً له، ومات راضياً عنه.
واستمرَّ الصِّدِّيق في سياسة فكِّ رقاب المسلمين المعذَّبين، وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطَّة التي تبنَّتها القيادة الإسلاميَّة لمقاومة التَّعذيب؛ الذي نزل بالمستضعفين، فدعم الدَّعوة بالمال، والرِّجال، والأفراد، فراح يشتري العبيد، والإماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات؛ منهم عامر بن فهيرة شهد بدراً، وأحداً، وقُتل يوم بئر معونة شهيداً، وأُمُّ عبيس، وزنيره، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللاَّت والعزَّى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضرُّ اللاَّت والعزَّى، وما تنفعان، فردَّ اللهُ بصرها. وأعتق النَّهديَّة، وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدَّار، مرَّ بهما وقد بعثتهما سيِّدتهما بطحينٍ لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً! فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ حِلَّيا أُمَّ فلان، فقالت: حلَّ أنت، أفسدتهما، فأعتقهما، قال: فبكم هما ؟ قالت: بكذا وكذا . قال: قد أخذتهما، وهما حرَّتان، أَرجعا إليها طحينها . قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نردُّه إليها ؟ قال: وذلك إن شئتما.
وهنا وقفة تأمُّلٍ ترينا كيف سوَّى الإسلام بين الصِّدِّيق والجاريتين حتى خاطبتاه خطاب الندِّ للندِّ، لا خطاب المسود للسيِّد، وتقبَّل الصديق ـ على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام ـ منهما ذلك، مع أنَّه له يدٌ عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين، حتَّى تخلَّقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرِّياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا ـ تفضلاً ـ إلاّ أن تفرغا منه، وتردَّاه إليها.(ابي شهبة، 1996، ج1، 346)
ومرَّ الصِّدِّيق بجارية بني مُؤَمَّلٍ ـ حي من بني عديِّ بن كعبٍ ـ وكانت مسلمةً، وعمر بن الخطاب يعذِّبها لتترك الإسلام، وهو يومئذٍ مشرك يضربها، حتى إذا ملَّ؛ قال: إني أعتذر إليك أنِّي لم أتركك إلا عن ملالةٍ، لتقول: كذلك فعل الله بك. فابتاعها أبو بكرٍ فأعتقها.(ابن هشام، 1997، ج1ن ص393)
هكذا كان واهب الحريات، ومحرِّر العبيد، شيخ الإسلام الوقور؛ الذي عُرف بين قومه بأنَّه يكسب المعدوم، ويصل الرَّحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضَّيف، ويُعين على نوائب الحقِّ، ولم ينغمس في إثم في جاهليته، أليفٌ مألوفٌ، يسيل قلبه رقَّةً، ورحمةً على الضُّعفاء، والأرِقَّاء، أنفق جزءاً كبيراً من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التَّشريعات الإسلاميَّة المحبِّبة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثَّواب.( ابي شهبة، 1996، ج1، ص354)
كان المجتمع المكيُّ يتندَّر بأبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ الذي يبذل هذا المال كلَّه لهؤلاء المستضعفين، أمَّا في نظر الصِّدِّيق؛ فهؤلاء إخوانه في الدِّين الجديد، فكلُّ واحدٍ من هؤلاء لا يساويه عنده مشركو الأرض، وطغماتها، وبهذه العناصر وغيرها تُبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرَّائعة. (الغضبان، 1998، ج1، ص342).ولم يكن الصِّدِّيق يقصد بعمله هذا مَحْمَدَةً، ولا جاهاً، ولا دُنْيا، وإنَّما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يومٍ: يا بني! إنِّي أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنَّك إذ فعلت، أعتقت رجالاً جلداً يمنعوك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: يا أبتِ إنِّي إنَّما أريد ما أريد لله عزَّ وجلَّ. فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصِّدِّيق قراناً يُتلى إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى *إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى *فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى *لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى *وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى *} [الليل: 5 ـ 21] .
لقد كان الصِّدِّيق من أعظم الناس إنفاقاً لماله فيما يرضي الله، ورسوله.
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلاميَّة الأولى قمَّةً من قمم الخير، والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدةٍ، وفكرةٍ، يناقشون بها، وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ على شرائهم ثمَّ عتقهم دليلاً على عظمة هذا الدِّين، ومدى تغلغله في نفسيَّة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحيوا هذا المثل الرَّفيع، والمشاعر السَّامية؛ ليتمَّ التَّلاحم، والتَّعايش، والتَّعاضد بين أبناء الأمَّة؛ التي يتعرَّض أبناؤها للإبادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة، والدِّين .

 

مراجع البحث
علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص41-44
ابن هشام، السِّيرة النَّبوية دار إِحياء التراث، الطَّبعة الثَّانية 1417هـ 1997م.
السِّيرة النَّبويَّة لأبي شهبة، دار القلم دمشق، الطَّبعة الثَّانية 1416هـ 1996م.
التَّربية القياديَّة للغضبان، دار الوفاء المنصورة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1998م.
سليمان السُّويكت، محنة المسلمين في العهد المكيِّ، مكتبة التَّوبة، الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م.
محمود علي البغدادي، عتيق العتقاء الإِمام أبو بكر الصِّدِّيق، دار النَّدوة الجديدة، بيروت، الطَّبعة الأولى 1414هـ 1994م.