ليس من السهل التكهن بما وراء ألاعيب السياسة والحرب، ناهيك عن معرفة تفاصيلها والإحاطة بكل جوانبها والوقوف على حقيقتها، وكل إدعاء بإمتلاك عين الحق يفتقر الى المصداقية، بالمقابل لا يمكن طمس الواقع بسبب قوة حضوره وسطوة حيويته، ولكونه المسرح الوحيد للحدث فإنه يقوم بدور المرآة العاكسة. قد لا يكون سطح المرآة صقيلاَ بما فيه الكفاية لإستبيان ملامح الصورة وعناصرها بدقّة، ولكنها رغم الإضطراب بإمكانها أن تحصر عدد الإحتمالات وتسند التوقعات بحيث تتمكن العين الفاحصة من قراءة النسبة الأكبر من الحقيقة، إن لم تكتشفها بالكامل وتميط اللثام عنها وتفضحها.المرآة العاكسة لقرار بوتين بسحب القسم الرئيسي من قواته العاملة في سوريا واقتصار دور القوات المتبقية على الأرض وفي البحر القريب (الأبيض المتوسط) وفي البحر البعيد (قزوين)، على إعتماد الأسلوب الأمريكي في مكافحة الإرهاب والإكتفاء بشن غارات جوية على أهداف مختارة، أو حسب الطلب والحاجة، القرار الذي اتفق القاصي والداني على أنه مفاجئ وصادم يعكس الكثير من عناصر الواقع.الخاسر الأول بطبيعة الحال هو روسيا والخاسر الأكبر هو النظام السوري وحلفاؤه، بينما الرابح الأول هو الشعب السوري كمجتمع ومقاومة وحلفاؤه، أو لنقل أصدقاؤه لأن الشعب السوري لا حلفاء له وإلا لما استبيح دمه وعرضه وأرضه وماله بهذه الطريقة المفجعة، والرابح الأكبر هو إسرائيل، ومن لم يخسر ولم يربح بحساب البيدر العددي فهو داعش والإرهاب، لأن الحملة الروسية الشرسة لم تستهدفه إلا على خجل واستحياء، أو هي لم تفعل بالمرّة وما أصاب داعش والإرهاب خلال الحملة الروسية لم يكن سوى آثار جانبية “طشّار” غير مقصودة.قدرت المصادر الغربية ومنها معهد واشنطن للدراسات، الكلفة اليومية للحملة الروسية في سوريا بين 2،4 الى 3 مليون دولار، فيكون إجمالي نفقات 164 يوماً تقريباً، إستغرقتها الحملة بين 30 أيلول 2015 الى 14 آذار 2016 بقدر 459،2 مليون دولار كمعدل، وهو ما أكده بوتين اليوم عندما قال ان الحرب في سوريا كلّفت ٣٣ مليار روبل (الدولار=٦٨ روبلا)، ويقول الخبراء أن هذا الرقم كان سيتضاعف ثلاث مرات نتيجة التكاليف الإضافية للتطورات غير المنظورة، مثل سقوط الطائرات وزيادة وتيرة القصف الصاروخي البعيد المدى أو إستقدام المزيد من الأفراد والآليات والمستلزمات لتشغيل منظومات الصواريخ، فضلاً على أن وزارة الدفاع الروسية اضطرت بسبب متطلبات التعبئة العسكرية في سوريا الى إعادة نشر بعض قواتها التي تدعم العمليات في أوكرانيا.ربما لا تكون هذه الكلف حاسمة قياساً الى ميزانية الدفاع الروسية السنوية المقدرة بحوالي 50 مليار دولار، وأنها كذلك قد لا تكون قاطعة التأثير في قرار بوتين بالإنسحاب، ولكن، بالتأكيد لا يمكن تجاهل دورها الكبير في ذلك خصوصاً أن أحد أهداف الحملة الجوية كان إقتصادياً يسعى الى الترويج للسلاح وتوسيع إحتمالات تسويقه بعد أن تراجعت مبيعاته التي تمثل المصدر الثاني لإقتصاد البلاد، بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، إضافةً الى أن ميزانية الدفاع المذكورة نفسها تتعرض، كما هو حال الموازنة التي اضطرت موسكو الى تخفيضها بنسبة 10%، الى ضغوط هائلة بسبب هبوط أسعار النفط الذي لا توجد فرصة لإستعادة عافيتها قبل نهاية 2017،كما يذهب العديد من خبراء الشأن النفطي، والعقوبات الغربية وتراجع سعر الروبل الى النصف في السنوات الثلاثة الأخيرة، إضافة الى أن الخطة العملياتية لحرب مستعرة على الأرض لا يمكن بحال ضبطها بالمسطرة والفرجال، ومن شأن أي إنعطاف غير متوقع في منطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط أن تجعل الأمور تفلت تماماً.على الصعيد العسكري والسياسي كان المراقبون قد استقرأوا التصريحات الروسية منذ بدأ الحملة الجوية المكثفة المفرطة في القوة قياساً الى قدرات من تستهدفهم، ووجدوا أنها تتمحور حول: 1.منع سقوط نظام بشار الأسد وتفادي ما حصل في ليبيا، وذلك ما لم يتحقق، أو على الأقل لم يحدث بشكل ناجز فالتهديد الذي يواجهه الأسد لا زال قائماً على حاله، و 2.منافسة الولايات المتحدة في إظهار دعم حلفائها. الآن، إذا كان التدخل قد برهن ذلك فعلاً فإن الإنسحاب بهذه الطريقة قد نقضه وأثبت أن الروس ليسوا أفضل من الأمريكان عندما يتعلق الأمر بلغة المصالح، و3.تسويق السلاح الروسي وبيان فاعليته وتقنياته العالية، وبشأن ذلك، لا شك أن إستعراض القوة الهائل لفت الأنظار ولكنه لم يكسب قيمة سوقية مضافة لأنه لم يدخل في إختبار حقيقي مع نظير له وإنما واجه المدنيين العزل ورجال عصابات، أثقل ما لديهم مدافع الهاون وقاذفات الآر بي جي، و4.إيجاد منفذ لورطة أوكرانيا التي أصبحت مع العقوبات الغربية وبالاً على شعبية بوتين، وفك العزلة التي وجد نفسه بعد أن وصلت الى تعليق عضويته في منتدى الثمانية الكبار، وقد لا يكون الإحتفال المهيب الذي أقامه اليوم الخميس 17 شباط 2016، لتكريم المشاركين في الحملة الجوية على السوريين العزل ودغدغة عواطف الناس، إلا تنفيساً عن تلك العزلة و5.الحرب على الإرهاب وهو ما لم يتحقق فيه شيء يذكر وأن ادعاء استهداف الشيشانيين المنضمين الى الإرهاب وقتلهم ليس أكثر من هراء.خلال الإحتفال المنوّه عنه قبل قليل مر بوتين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على هذه الأهداف وادعى إنها قد تحققت بالفعل، فبشار لم يسقط وقد تحوّل من الدفاع الى الهجوم، وهو تقدير مبالغ فيه، ولكن على كل حال، سوف يكون للأيام حكما على ذلك، ثم قال أنه فتح طريق الحل السلمي وتمكن من إقامة تعاون إيجابي وبنّاء مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول وهو كان بمقدوره أن يفعل ذلك بدون مغامرة الأشهر الخمسة الخائبة.الخاسر الأكبر لا يحتاج الى تفصيل، الصدمة أذهلت كبار مسؤولي النظام وأغلق الذين دأبوا منهم على التواصل مع الإعلام الغربي، هواتفهم، لقد تملكتهم الخشية من أن يفقد جيش النظام، قوة الدفع والمكاسب التي حصل عليها بدعم الروس، حتى قيل أن الوفد المفاوض في جنيف طلب بعض الوقت لفهم ما يجري ويستبين دلالة حدوثه في هذا الوقت بالذات.إستبق بشار الأسد وأصدر بيانا رئاسياً بعد وقت قصير من إعلان بوتين أشار فيه الى تأكيد الجانب الروسي على استمرار دعم روسيا الاتحادية لسورية في مكافحة الإرهاب. في اليوم التالي مع بدأ تنفيذ قرار بوتين والشروع في الإنسحاب، تبادل وزير الإعلام السوري ومستشارة الرئيس التصريحات البلهاء من نوع “أعلى مستويات التنسيق وأعمقها حول كل القضايا التفصيلية والجوهرية” و ” شراكتنا ستستمر لعدة عقود وليس لعدة سنوات”.خيّم صمت مطبق على الحليف اللإيراني ، الذي كان يأمل في بسط نفوذه ورؤيته الطائفية المغلقة على المنطقة وإحياء الحلم الإمبراطوري الفارسي، بينما أعلن حزب الله اللبناني من خلال أحد مصادره لوكالة أنباء إيطالية أن الحزب ليس بصدد سحب مقاتليه من سوريا وأنه سيرسل المزيد منهم، وبالذات الى منطقة حلب، وكانت شائعات قد راجت أن الحزب بدأ بسحب قواته من سوريا بطلب من بوتين قبل إعلان الإنسحاب، بعد تراجع الدور الإيراني مؤخراً، ليس فقط بسبب تعاظم النفوذ الروسي وإنما لتصدع جبهة المحافظين في الإنتخابات الأخيرة في البرلمان ومجلس الخبراء الذي من مهامه إختيار المرشد الجديد بعد تدهور صحة خامنئي والحديث عن إختيار البديل.الميليشيات العراقية التي تقاتل مع بشار الأسد في موقف لا يحسدون عليها، من جهة، تقول الأخبار بحسب تصريحات للقيادي في المليشيات ماهر عبد الأحد الماجدي وهو مقرب من قادة ميليشيات (كتائب الإمام علي) عن تعليمات إيرانية صدرت لقادة أربعة مليشيات عراقية تقاتل في سوريا بتعزيز تواجدها هناك، وطلب المزيد من المقاتلين، وذلك في إجتماع عاجل عقده قاسم سليماني معهم، إضافة الى تعليمات أخرى من شأنها أن ترفع معنويات الجيش السوري الذي أصيب بمقتل من قرار بوتين الذي نزل عليهم كالصاعقة.في نفس الوقت تتردد أخبار مؤكّدة أن نفس قادة الميليشيا كانوا قد اتفقوا في إجتماع سبق لقائهم بسليماني على سحب ألف مقاتل الى بغداد بسبب التوتر الذي تسبب فيه، ولا يزال الى ساعة إعداد هذا التقرير، إصرار زعيم التيار الصدري على نصب خيم إعتصام على بوابات المنطقة الخضراء الثلاث في بغداد، وهو ما يمكن أن يشي به بيان شديد اللهجة صدر أمس الأربعاء من كتلة المالكي ، بأسلوب غير مألوف في التخاطب بين كتل التحالف الوطني، ورد فيه نصاً “ان السلاح يقابله سلاح والرجال يقابلهم رجال ويبقى دافع الثمن هو الشعب والبلد وبالذات المناطق التي لم تتمكن عصابات داعش من تخريبها” في إشارة الى محافظات الوسط والجنوب، قبل أن يعود المالكي اليوم الخميس وينفي إستخدام عبارة السلاح والرجال.أخيراً، إذا كان هؤلاء هم الخاسرون جرّاء قرار بوتين فليس من الصعب معرفة الرابحين وفق المقولة الشهيرة: الشئ يُعرف بنقيضه. ، ولنا عودة إليهم بإذن الله تعالى[email protected]